ادب وفن

وضع الثقافة العراقية ما بعد التغيير / جواد وادي

التغيير الذي حدث في العراق بعد سقوط النظام السابق ودخول القوات الأجنبية وما تخلف عن ذلك من متغيرات كبيرة في بنية المجتمع العراقي وفي كل مناحي الحياة العراقية، سياسيا ومجتمعيا وأمنيا وثقافيا وما إلى ذلك، أحدث وضعا جديدا بكل ايجابياته وسلبياته، وكان نصيب الثقافة العراقية من هذا التغيير لا يقل أهمية عن باقي مفاصل الوضع العراقي، من حيث كسر جدار الخوف والمراقبة الصارمة والتوجهات في إخضاع الثقافة كتابع ولسان حال السلطة وما تفرضه من خطوط لا ينبغي تجاوزها حيث كانت الثقافة العراقية آنذاك مدجنة وموجهة وسلعة رثة، لا تتعدى التغني بالقائد وانتصاراته الجوفاء، فعملت على تجنيد العديد من الكتاب ليكونوا صوت السلطة لتصب كل كتاباتهم في هذا المسار دون غيره، الأمر الذي حدا بالعديد من المثقفين من كتاب ومبدعين الاختباء تحت جلودهم خوفا من سياط الجلاد لئلا تسول لهم أقلامهم بالكتابة خارج ما مرسوم له وهم مطوقون بعيون راصدة حتى من زملائهم والمقربين لهم بعد أن جند النظام كل شرائح المجتمع العراقي لمراقبة بعضها للبعض الآخر، إضافة إلى هروب المئات منهم ليتوزعوا في منافي الكون خشية من سيف الجلاد، لهذا جاء التغيير متنفسا لشم نسيم الانعتاق من المحاصرة المخيفة، وباتت حرية التعبير بكل أبعادها متحررة من قيد السلطة الصارم لتنطلق الأصوات مغردة في كل اتجاه وبشتى صنوف مكونات الثقافة والإبداع، رافق ذلك ظهور العشرات من الفضائيات منها الموجهة من الأحزاب، ومنها الحرة وخارج سطوة القرار السياسي، مع صدور العشرات من الصحف ذات الاتجاهات والأهداف والانتماءات المختلفة، والمجلات الثقافية المتخصصة الخارجة عن سلطة الرقيب، ثم إطلاق حركة النشر والإصدارات بشكل واسع وخارج رقابة الممنوعات التي كانت سائدة في عهد ما قبل التغيير، حين وصلت قسوة الرقيب إلى اضطرار العديد من الكتاب الذين تحاصرهم وتوخزهم رغبة الكتابة الجادة والمبدعة عهدذاك أن يصدروا كتبهم وابداعاتهم بطريقة الاستنساخ وتوزيعها بشكل سري رغم المحاذير الخطيرة لهذا الفعل الموجب للقتل والتصفيات الجسدية، لاعتبار السلطة مثل هذه الانشطة مروقا وخروجا عما هو مرسوم لهم، فلا غرو إذن أن يجد المبدع نفسه في هكذا أجواء من الانفتاح والحرية المطلقة للكتابة والإبداع حيث يجدها حالة غير مألوفة ليطلق العنان لمبادراته في العطاء في كل أجناس الإبداع الفكري والأدبي والفني، إلى جانب تفعيل وتكثيف ظاهرة النشر وتعدد دورها ومؤسساتها خارج رقابة سلطة ما بعد التغيير، تلك السلطة التي انشغلت في تكريس الطائفية والتطاحن فيما بين الكتل السياسية على الامتيازات والاستحواذ على المناصب وتوزيع الكعكة العراقية، تاركين الحبل على الغارب الا فيما ندر، وهذه «نعمة» نزلت على المبدع، مع ظهور بعض السلبيات في جدية العمل المنشور، يلازم ذلك كأمر طبيعي لغياب سياقات العمل المبرمج والمخطط له بمهنية العارف، انفلات نوعية المنشور من الكتب والاصدارات، رغم معاناة الكاتب في النشر وما يتطلبه من تكاليف سيما ان سلطة الثقافة في العراق متمثلة بوزارة الثقافة وأقسامها التي لا تعرف بمجملها من التخصص الا النزر القليل، قونت النشر المجاني لتخضعه للزبونيات والعلاقات الشخصية الا فيما ندر طبعا، شأن ما يعانيه المبدع العربي في هذا المضمار من اشكالات في النشر والبحث عن طرق لا تمت للابداع بصلة.
من هنا نجد كثافة الحراك الثقافي وسعي المثقفين لخلق مؤسسات تعنى بالبحث والإبداع وتنظيم ملتقيات ووضع برامج، إلى جانب المؤسسات الموجودة أصلا مثل الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق الذي خرج من شرنقة المحاصرة الظالمة وبدأ مرجل الحراك الثقافي بشكل مكثف ويومي ليفتح المجال للابداعات بشتى أجناسها للتقرب من المتلقي بتنظيمه لملتقيات واصبوحات واماسٍ، والاحتفاء بالمبدعين وخصوصا المغتربين منهم وهم العدد الأكبر، والتحمت وشيجة المبدعين العراقيين، رغم تحسس بعض الأحزاب والمنظمات من هذا الفعل الثقافي الذي هو أشد ما يخيدهم، بالرغم من أنهم كانوا مطاردين من النظام الفاشي المنهار، ولكن الحراك الفكري يعني خلخلة خططهم في الاستحواذ على مفاصل الثقافة في العراق شأن بقية الحراك السياسي والتربوي والاقتصادي وغير ذلك، وهذا أمر له وجهان من حيث فهم المراقب، يثيران الاستغراب والاستهجان، أولهما أنهم هم ذاتهم كانوا ملاحقين ليناصبوا العداء للمثقف الطليعي، وثانيهما الممارسات التعسفية والتي تصل حتى البطش بالمفكرين وعن طريق مليشيات قتل مجرمة، كما حدث للمفكر التقدمي كامل شياع والإعلامي المعروف هادي المهدي اللذان تمت تصفيتهما بدم بارد لأنهما صوبان حران يزعجان ظلاميي بعض الاحزاب، شأن العديد من المفكرين والأكاديميين والإعلاميين الذين وصلت إليهم أيادي الجريمة المنظمة ليصبحوا شهداء الكلمة الحرة والفكر النير الذي لا يرتضيه خفافيش الظلام وسدنة القتل من التابعين للأحزاب الطائفية.
ورغم كل هذه التجاوزات الخطيرة التي كانت تظهر يوما بقوة لتختفي وقتا وتظهر ثانية وكل ذلك خشية هذه الأحزاب من تمكن هذه العقول الحاملة لمشاعل الحرية من أخذ زمام المبادرة وسحب البساط من تحت أقدام الظلاميين والسعي الحثيث للمطالبة بتأسيس دولة مدنية ديمقراطية تحترم الإنسان كرأسمال حقيقي للتغيير وتسعى لتطبيق حقوق الإنسان التي انتزعها العراقيون من اعتى نظام فاشي كوني، وبالتالي خلق نظام علماني من شأنه ان يطيح بكل رؤوس الفساد والنهب والسحت الحرام، دون أن ننسى الخيوط الخفية والمعلنة للتدخل الأجنبي واملاءاتها لتلك المليايات في تنفيذ مسلسل المضايقات والتي وصلت الى حد التصفيات الجسدية.
يظل نضال المبدع العراقي في عدم إضاعة فرصة الانعتاق هذه وإطلاق المبادرات واستمرارها على أوسع نطاق وفي شتى مجالات التعبير والإبداع أمرا كيانيا لا يمكن ان ينتزعه القادمون الجدد من السياسيين وأنصافهم، ليظل المثقف العراقي يقاتل بكل ممكناته للحفاظ وتطوير هذا الاستحقاق الهام، وعليه نجد ان الحراك الجماهيري الواسع وسط المثقفين ابعد إلى حد ما شبح السياط وتكميم الأفواه، فنجد انتشارا واسعا وحركة دؤوبة للانشطة الثقافية التي قد تفوق في كمها ونوعها العديد مما يحصل في بقية البلدان العربية، فنلاحظ هذا الحراك جليا وبشكل يوم? في الكتابة الإبداعية بشتى أجناسها والمحاضرات والملتقيات وعشرات المقالات اليومية لكتاب ومفكرين نيرين في الصحف ووسائل الإعلام ومعارض التشكيل والانتاج السينمائي والمسرحي والموسيقي وغيرها، مع ظاهرة انتشار البيوتات الثقافية في عموم العراق، وهذه الأنشطة بمجملها يلاحظها المتابع العراقي والعربي بشكل جلي وواضح، ومن أهمها عدد الجوائز التي يحصدها المبدعون العراقيون باستمرار كمؤشر لما ذهبنا اليه، ومع ذلك لا نجد الدعم الكافي من المؤسسات الثقافية العربية للمثقف العراقي وعراكه اليومي من أجل إزاحة الظلام الذي خيم على الع?اق لأكثر من أربعة عقود، ليبقى بعض الغبش قائما اليوم والذي بإمكانه أن يزيحه نهائيا الإسناد الأخوي من الأشقاء العرب عبر مؤسساتهم الفكرية وتحديدا منها اتحاد الكتاب العرب، والمؤسسات الإعلامية، ومنظمات المجتمع المدني الثقافية، لانه من غير المعقول ان يترك المبدع العراقي في عراكه المستمر مع قوى التخلف دون وجود ظهير له من الإخوة العرب ممن تعنيهم الثقافة العراقية بعطاءاتها وتجددها وتأريخها الحافل، خدمة لحركة الإبداع العربي برمته كونه عملية تكامل لإزاحة المعوقات وتوحيد الرؤى وتقوية أواصر العلاقات لتصبح من الصعوبة بم?ان على أعداء الفكر والإبداع من النيل منها.
تبقى نقطة أساسية لا بد من التأكيد عليها، تلك هي سعي ذوي الشأن الثقافي بفتح مراكز ثقافية خارج العراق، وفعلا فقد تم افتتاح العديد من المراكز الثقافية في عواصم مختلفة من العالم، وما يهمنا في المغرب نحن المثقفين العراقيين المقيمين في المغرب، السعي الحثيث لفتح مركز ثقافي في العاصمة الرباط بتنصيب كفاءات فكرية ومعرفية للإشراف عليه ليكون جسرا لتقريب الثقافتين العراقية والمغربية وإيجاد صيغ عديدة للتعاون بين البلدين، نتمنى صادقين أن يتحقق هذا المطلب الهام لخلق تعاون وتبادل تجارب وإيجاد وشائج باتت من الأهمية بمكان، م? تقديرنا واعتزازنا بالمنجز الثقافي المغربي بشتى أجناسه للاستفادة منه في بناء مشهد ثقافي عراقي يستمد خبرات الأشقاء المغاربة التي أثبتت جدارتها وكفاءتها وحضورها في الفعل الثقافي العربي والدولي.
وللحديث بقية..