ادب وفن

قراءة نقدية لديوان «دوائر مربعة» ..القسم الثاني والأخير / عباس باني المالكي

يعيش الشاعر التأمل الإدراكي الممتد الى داخل الذات ليكشف الصراعات في الإنسان حين تمر عليه الكثير من الانكسارات الروحية والذاتية وكيف يحاول أن يتجاوز كل هذا، والشاعر جابر بدل أن يحول هذه الصراعات الى انكسار دائم يحولها إلى رموز شعرية قادرة على استيعاب كل همومه كإنسان أستطاع أن يتغلب كل ما مر به.
ويحول الشعر عنده الى معادل موضوعي للحياة لهذا تأتي جملته الشعرية ممتدة بالزمن الى حد حدوث فعل التحرر من جميع الإخفاقات وتكون الرؤية الشعرية صوته الداخلي ويسمعه وفق النهايات المفتوحة على أزمته الإنسانية, نجده يخلق الرؤية وفق زمنه الداخلي ويسقطه على الخارج وهذه هي طريقة التحرر من اتباع الماضي ومن ثم يتحول الى مراقب يتحكم بكل مسارات الدلالات المنعكس وفق مدلولها (البهجة المظللة لفراشات الضوء/ طلبت من الموت/ أن يؤجل الترافع /في قضية موتي) وتحوله إلى مراقب لكي يكشف كل ما في داخله من معاناة صورية يحاول أن يطابقها مع الرموز وتحسسها الوجداني الذي يسعى الى مقاربته الى لحظة مكاشفة الذات وفق صوتها اللغوي لكي يكثف الإحساس الشعوري في رموز اللاوعي .
حيث نلاحظ هنا الاستناد الكلي على هذا اللاوعي ففراشات الضوء ما هي إلا لحظة التنوير للمكاشفة الذاتية من الداخل وفق صوتها الذي يعطي أبعاد الإخفاق الممتدة داخله وأصبحت فراشات الضوء هي زمن ادراك لكل ما عاشه من إخفاقات, لكنه في نفس الوقت يحاول أن يستميل القوى الأخرى المدركة في ذاته بأن تؤجل موته, لأنه أصبح يمتلك الأمل من أجل اكمال تصوره الروحي تجاه ما يأتي في إكمال مجموعته الشعرية (لحين اتمام مراسيم / حفل زفاف). ديوان ( دوائر مربعة ) والذي يميز الشاعر جابر بقدرته التصورية على الامتداد الإنساني من خلال معرفته الفكرية الإدراكية التي تساعده على إعادة خلق لحظة الموت الى لحظات أمل وانتصار عليه, فهو أصبح يتحكم بالزمن وفق أحلامه وآماله في الحياة لكي لا يقع في مساحات الارتداد والنكوص الفهمي لكل ما يجري حوله, وتكون مساحات الدلالات تقارب مساحات المدلول لها من خلال التكثيف الحتمي للصور و الرمزية الموحية إليها , ما يريد أن يقوله الشاعر هنا هو أن لا نفقد الأمل وحتى في لحظة الموت. ص 57
( وحين رأيت / ظل الشبح / يدور / حول دوائر مربعة / تحرك مصباح الوجع /في يدي / ودق جرس المتاهة / في أذني /اتجهت نحو / ساحة الروح / بعد أن /سحبت بساط الخوف / من ذاكرتي ).
يأتي هنا الشاعر ليؤكد أن الدوائر المربعة ما هي إلا رمز للذات هي المربع والحياة تدور عليه , فيشظي الرمز ويعطيه أبعاداً حياتية مبطنة بالرموز الموحية بدلالتها , ويصبح هنا المربع هو مركز الذات والدوائر هي الحياة التي يتمثلها مع كل ما مر به من أحداث في حياته الذاتية والخارجية, وبهذا تكون الحياة هي الدائرة حول مربعها والتي تصبح مركز البؤرة التي تحقق الجملة الشعرية بنسقها الانفعالي ومن خلال المعاني المتوترة في اللغة ( وحين رأيت / ظل الشبح / يدور / حول دوائر مربعة )فكل شيء يدور حول الذات ورمزها المربع, يأتي هنا ليؤكد ما دفن في تأثره الداخلي المتوتر (تحرك مصباح الوجع /في يدي / ودق جرس المتاهة / في أذني /اتجهت نحو/ ساحة الروح / بعد أن/ سحبت بساط الخوف / من ذاكرتي) ليحدد ما يدور في كل حالات الانفعال الدرامي الممتد في روحه, وفضاء القصيدة عند الشاعر هو حركة الحياة وعمق تأثيرها في عمق وجوده الذاتي, لهذا اعتمد في تركيب جملته الشعرية على البنية الذهنية وعلى طاقة التخيل الرؤيوي وفق الانفعال الذي تعكسه الأحداث حوله ...
ص 73
( الحزن ../يتجول في دورتي الدموية / يؤسفني أن أرحل.../ وأترك/ مسودات أحلام لم تكتمل)
وبعد أن أعطى الشاعر حركة الحياة ومركز دورانها على الذات, يأتي هنا ليصف مشهدية الذات من الداخل لكي يبين مدى التقارب مع الأحداث التي مرت عليه والتي هي سبب كل حالات الانفعال الداخلي, حيث يصف كل ما تأثر به وانعكس على ذاته الداخلية, فيحول جملته الشعرية الى جملة اعتراضية في الفهم الوجودي عند لحظة تمازج وتكافئ لحظات الإخفاق مع مشروعية الحياة بأن الآمال يجب أن تستمر ولا تنتهي بالموت, لهذا يتشبث بالحياة من أجل حياة أجمل وأعمق وذات معنى إنساني واسع الحدوث (../يتجول في دورتي الدموية/ يؤسفني أن أرحل.../ وأترك/ مسودات احلام لم تكتمل ) من أجل تحقيق كل أحلامه الحقيقة التي تحقق اكتساب المعنى في اعادة طرح ذاته كمحور إنساني عاش أزمته واستطاع أن يعيد خلق حياته من جديد وفق ما يمتلك من أحلام.
ص 80
( كنت أقف أحيانا/ عند حدود الذاكرة / أتصفح أوراق المستقبل / يا للعار / ماله ذلك الماضي يذوب / في مستنقع الزمن / لقد تركت خيالي / يسبح بصمت مكفن ../ بعار الخيبة )
والشاعر هنا يرتد الى ذاته ليبين عناوينها الإنسانية ضمن دائرة الحياة ومركزها معتمدا الذاكرة التي يتذكر بها الزمن الذي مضى لكي يحدد شروط حياته القادمة اعتمادا على ما مر به من زمن الماضي لكي يتجنب كل الإخفاقات التي حدثت له, هو يريد أن يستفيد من ذلك الزمن لكي يعيد تصالحه مع الزمن القادم, أي يحاكي الماضي من خلال مداركه لكي لا يقع بكل ما به من انكسارات كادت تؤدي به الى الموت, لكي يبني حياته في المستقبل القادم , فهو يعتمد على طاقته التخيلية في رسم كل ما يأتي, وهنا يقف كشاهد على الزمن (( كنت أقف أحيانا / عند حدود الذاكرة / أتصفح أوراق المستقبل / يا للعار / ماله ذلك الماضي يذوب / في مستنقع الزمن / لقد تركت خيالي) ليربط ما بين الماضي والمستقبل اعتمادا على التذكر والخيال, وقد تحول الزمن الى مستنقع لأنه فقد أهدافه الحقيقة في حياته ولم يعد له وجود في حياته إلا عند حدود الذاكرة فقد تحول الى عار لأنه فقد معناه ورموزه (يسبح بصمت مكفن ../ بعار الخيبة ) لهذا تحول الى خيبة, وبهذا تكون الجملة الشعرية عند الشاعر سلسلة من المرئيات التذكرية يجمعها ويعيد ترتيبها الزماني اعتمادا على التذكر والخيال حيث تتحول أفعال الرؤيا لديه من جمل انشطارية المعنى الى جمل متقاربة الزمن في مرئيات الذاكرة وفق نسق التأمل الإدراكي الباطني لكي يعيد خلق الفكر التأويلي الفهمي في تحديد الدوال في مشهدية لغة الصور الشعرية, الشاعر لا يستبدل المعنى الدلالي في التأويل بل يعيد خلقه من أجل التوازي والتوسع في ذهنية الصورة الشعرية وجملتها التي تحمل الكثير من التأويل ضمن مرئيات الزمن خارج مسميات المكان, لأن الذات هي محتوى المربع والحياة هي الدائرة عليه أي أن الزمن هو المتحرك فقط والشاعر جابر يسعى الى اعتماد البنية الزمنية في خطابه الشعري والذي يحرك الإيقاعات الموسيقية الخفية في النبرة المتوترة في الانفعال الشعوري وما يولده من تواتر الفعل الدرامي المتفاعل مع الانفعال الذاتي عند الشاعر في زمن الكتابة.