ادب وفن

قراءة مجاورة لــ «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث» .. القسم الثاني والأخير / مقداد مسعود

(*)
تأسيسا على ما اقتبسنا من مهدي عامل.. أن مفهوم النهضة لدينا يختلف في محتواه عن مفهوم النهضة الأوربية، فلدينا ضمن البنية الاجتماعية، لم يحدث قطع معرفي طبقي، بل تعايشت الطبقتان معنا حتى ثورة 14 تموز 1958، وكذلك على المستوى الثقافي، فهناك الثقافة المحافظة التي لا يمكن التقليل من شأنها، كما فعلت الباحثة في قولها..(قوة المطاولة التي تملكها الثقافة المحافظة في العراق لا تعني استمرار فاعليتها المؤثرة/ ص63).. كما أن المثقف المتمرد الخارج عن نسق الإجماع القديم (لم يكن هذا المثقف بعيد عهد بالثقافة التقليدية...فكان بناة الثقافة العراقية على صلة بمنحدراتهم الدينية.. وكانت النهضة الأدبية والفكرية في العالم العربي والإسلامي عموما نتاج الإصلاح الديني/ ص9)
وكل شيىء كان معيوشته ضمن قنونة وحدة وصراع الأضداد، الإقطاع والبرجوازية، الإصلاح الديني والتمرد على الدين، ثورة العشرين ووقوف الشاعر الزهاوي ضد الثورة وتجاهل الشاعر علي الشرقي لها؟/ ص24... الماركسي الأول في العراق حسين الرحال وضديده المنظّر العروبي ساطع الحصري- ص158 والد محمود أحمد السيد ، يمنح غرفة في الجامع الذي كان إمامه، لولده القاص والروائي محمود أحمد السيد، لتصبح ملتقى أصدقائه، ولتتحول لاحقا مكانا ينتظم فيه أول تجمع ماركسي في العراق- ص429.....
(*)
رغم المد اليساري الذي أمتلك الشارع والشاعر بدءا من الحلقات الماركسية بزعامة المثقف حسين الرحال الذي يجيد ست لغات والأديب محمود أحمد السيد الماركسي والداعي إلى تحرير المجتمع والمرأة وهناك مصطفى علي وعوني بكر صدقي وعبدالله جدوع ومحمد سليم وابراهيم القزاز وكمال صالح وفاضل محمد البياتي ميخائيل تيسي،صاحب مجلة( كناس الشوارع/ 1926) وكان تيسي يجيد الفرنسية ويحسن الانكليزية..
وما إن تصدر صحيفة (الصحيفة) في 1924 والتي هي بحق أول صحيفة ماركسية عراقية، فأنها سوف تغلق في 1925 (وهذا يشير إلى ما شكلته أفكارهم من تجاوز على قانون التعاقد الرمزي بين اللبرالية الجديدة التي تمثلها الدولة والصحافة التي انتشرت في عهدها/ ص157) لكن الرحال وحلقاته الماركسية، سيتعاون معهم ميخائيل تيسي (ليصدرا معا جريدة عنوانها سينما الحياة في العام 1926ص159)...
(*)
نعود مرة أخرى مقترضين من الباحثة فاطمة المحسن سؤالها وإجابتها للتأكيد على صحة ما جاء في مقتبسنا من المفكر الشهيد مهدي عامل..(ولكن لماذا أختار العرب مصطلح نهضة، لوصف حركة التحديث في الفكر والأدب العربيين وفي تواتر لا نجده في استخدامهم كلمات أخرى مثل (تنوير)؟ أليس في اختيارهم ما يشير إلى اعتقاد بأن نهضتهم تشبه نهضة الغربيين من حيث طابعها؟ الأرجح ان البعد الميثولوجي لمعنى المفردة، أي فكرة الانبعاث أو أحياء أو أعادة الإحياء،وكل تلك المسميات ارتبط بحركة الإصلاح الإسلامي، التي دعت إلى بعث الدين الصحيح والعودة الى الأصول الأولى، ثم تبعها من سمّوا بالشعراء الإحيائيين (النهضويين) بالترافق مع شيوع فكرة القومية العربية وانبعاث أمجادها، كأيدلوجيا للانفصال عن الإمبراطورية العثمانية ثم أعقبتها فكرة الأمة الوطنية أو الإقليمية ..كالفرعونية والفينيقية وحضارة مابين النهرين.../ص16).
(*)
أرى أن الدرس السيسولوجي يفعل اتصالية: الكثرة من خلال الواحد في تفرده المعرفي والباحثة تعلن ذلك في قولها: (أبحث في صورة الفرد عن مجموعة ثقافية،فالنموذج الثقافي يمنحنا فرصة معاينة التفصيل في ما يخفيه الإطار العام للمكان، بمافيه تاريخه الأدبي والفكري المدون.../ص) بدوري كقارئ منتج سأجعل ما تبقى من قراءتي لعينة من النماذج المعرفية.
(*)
*تميزت المعالجة العراقية لخصوصية السؤال الديني.. لا يكون التمييز إلاّ بالمقارنة، وهنا تورد الباحثة جهدا معرفيا.. في حقل الإصلاح الديني، يتمثل الجهد بنتاج الشيخ علي عبد الرازق في(الإسلام وأصول الحكم) الصادر عام 1925.. وشخصيا قرأت الكتاب في أوائل سبعينيات القرن الماضي بمقدمة وضعها الباحث الدكتور محمد عمارة... ترى الباحثة من خلال جهد عبد الرازق أن رجال الإصلاح الديني لم يحاولوا نتاج قراءة محتوى النص قراءة علمية..(تفضي إلى سؤال أوسع في ميدان معرفة الحقيقة من الخيال فيه /ص393)..ثم تشخصن التمييز العراقي من خلال جهد الشاعر معروف الرصافي في كتابه (الشخصية المحمدية)..
* أولا من ناحية الأجراء المعرفي.. فهو يقوض ما يستعمله من الخزين الثقافي التقليدي، وحسب الباحثة..(لا نبالغ إن قلنا إن الرصافي، في مفارقة استخدامه الثقافة التقليدية في تقويض متعارفاتها،وصلت به الشجاعة حدا، تفوق فيه على شيوخ الإسلام النهضويين في محاولتهم ردم الفجوة بين العقل والنقل في الثقافة الاسلامية/ ص388-289).. ومراحل استحالات الرصافي السلوكية، (لا تنحصر فقط بمثليته وتصعلكه/ص382) وتعددية الانتماءات القومية التي كانت تتجاذبه (عثماني الهوى وعراقي التطلع والتعصب وهو كردي وثقافته عربية ).. وانتاجيا بدأ بالشعر ، ثم صار من أكبر شعراء العراق ولم يكتف بذلك فقد صارت (كتاباته خلاصة ما تضمنته النهضة من عناصر نجاح وإخفاق/373).وقد رافق كل ذلك ما يسمى بسيكلوجية الزي وشخصيا أرى أن الرصافي كان يفعّل اتصالية بين الشخصي والتبيئ.. في حين أمين الريحاني فاعلية سيمولوجية، وحسب الريحاني (فصاحب العمامة الذي يقصد اسطنبول، غير الرصافي صاحب البدلة الافرنجية والطربوش التركي، والشاعر العربي غيره السياسي العثماني/373).. إن الزي هنا يتماهى مع البيئة التي كان يقصدها الرصافي..وهكذا سنرى من خلال الباحثة ان الرصافي تجاذب بين (حدود الإلزام وقدرة التفاعل الثقافي على تجاوزه فالرصافي يتفاعل مع فكرة الحرية على نحو يدرك من خلالها حاجاته الخاصة /ص382).. نلاحظ أن التقاطعات التي كابدها الرصافي ربما يمكن تشخيصها في التضاد بين الذاتي/ الموضوعي ..بين شروط الحياة اليومية المتبنية في تخلف مزدوج وبين ما يفتقر إليه الرصافي من عوامل الاستقواء التي كانت سائدة في حقبته بشكل كثيف..
وهكذا توزع الرصافي بين.. (توق الى الاندماج في السوية الاجتماعية والتمرد عليها/ ص381).. وكيف يكون الاندماج والرصافي.. مسلوب الشروط..؟! من هذا الاستلاب تشقق التعارض (بين ما يريده الناس وما يريده هو لنفسه، وهو الكردي الأب الذي نشأ في بيئة يقوم أساس ثقافتها على مبدأ المفاخرة بالعرب / ص381).. ذكرت الباحثة ثلاث سردانيات للمفكر معروف الرصافي وهي..(الشخصية)المحمدية) و(الرسالة العراقية الذي وضعه في الفلوجة عام 1940 و(رسائل التعليقات) الصادر بعد عقد من صدور الشخصية المحمدية، وكتاب (الشخصية المحمدية) الذي بدأ كتابته في 1933، وتداوله عدد محدود من المثقفين كما يشير مصطفى علي كاتب سيرته/ ص384 المحسن، وفي عام 2002 انتشرت طبعة دار الجمل .. بالنسبة لي أنا كاتب السطور وصلتنا نسخ دار الجمل بعد سقوط الفاشية، فاشتريت نسخة أسوة بسواي.. لكن الباحثة ربما لعدم حصولها على كتاب (الآلة والأداة/ وما يتبعهما من الملابس والمرافق والهنات )(6) لم تورده ضمن سردانيات الرصافي والكتاب من تحقيق وتعليق (عبد الحميد الرشودي)،أصدرت الكتاب(وزارة الثقافة والأعلام الجمهورية العراقية) سلسلة المعاجم والفهارس (31)/ 1980والكتاب من الحجم الكبير (516ص) كتب الرصافي مقدمة الكتاب في (قسطنطينية.9ربيع الآخر 1337/ 1918).. وقد اعتمد المحقق الفاضل الأستاذ عبد الحميد الرشودي،على النسخة التي كانت لدى الأستاذ الفاضل مصطفى علي في (ص489) نقرأ (رأي الدكتور السامرائي في كتاب (الآلة والأداة): (هذا معجم في الآلة والأداة، وهو جهد كبير قام بتصنيفه الأستاذ معروف الرصافي . ومن غير شك أن هذا العمل يكشف صفحات من تاريخ العربية وكيف تحولت في مسيرتها الحضارية من الأصول البدوية الى نمط الاستقرار في البيئة والعيش في الحواضر. ومن هنا يلمح المؤرخ نشوء ما يسمى ب (المصطلح الفني) وكيف توفر ذلك في العربية منذ أقدم عصورها/ ص489).
ولا يكتفي الدكتور إبراهيم السامرائي، بل ساهم بإضافة معرفية وجيزة لهذا الجهد الذي بذله الرصافي...(وقد وجدت أن من المفيد أن أضيف ماتهيأ على عجل من المواد التي لم أجدها في هذا السفر النفيس/ ص498)وسيكون ما يضيفه السامرائي تحت باب (المستدرك) من (ص505 الى ص512)..ويذكر السيد المحقق الرشودي كتبا غير ذلك للرصافي منها: (دفع الهجنة في ارتضاخ اللكنة) ضمنه كما يذكر الرشودي ما في اللسان العثماني من ألفاظ عربية. كما وضع كتاب (دفع المراق في كلام أهل العراق) وكذلك ألف كتاب (الأدب العربي ومميزات اللغة العربية في أدوارها المختلفة الادبية) وألقى محاضرات عديدة منها(جمودنا في اللغة) وستنشر هذه المحاضرات في المجلد العاشر من مجلة المجمع العلمي العراقي 1962..ومحاضراته حول التدريسات العربية التي حاضر بها معلمو البصرة سنة 1926 والتي أكد في مستهلها صلاحية اللغة العربية لأن تكون لغة للتدريس وتقديرا لجهوده في صيانة اللغة العربية قرر المجمع العلمي العربي بدمشق في 4/حزيران سنة 1923 انتخابه عضوا مراسلا له..
*رفائيل بطي..
يهمني كقارئ والباحثة تتناول الشخصية الاعلامية (رفائيل بطي) اشتغالها على التضاد بين الذاتي والموضوعي ،في تلك الحقبة من لحظتنا العراقية الثقافية، هذا التضاد الذي علق التعالي النخبوي تعليقا فينومينولوجيا، فاللحظة العراقية كانت بين قوسي الاجتماعي / السياسي وحسب قولها (كانت الثقافة شديدة الصلة بالحراك الاجتماعي والسياسي/ ص416) هذي الاتصالية بين التراتبيات الثلاث: ثقافي/ اجتماعي/ سياسي..هي التي حالت عن ذلك.. (لم يكن بمقدور الثقافة العراقية التي يمثلها بطي الاقتراب من فكرة نخبوية المثقف وعزلته وحتى تفوقه /ص416).. ثم سرعان ما تتوسع الباحثة في توسيع فهم أعاقة هذه السيرورة النخبوية .(في المكون الثقافي لا يمكن عزل الأفراد كبنى رمزية مستقلة أو ككائنات تستمد إلهامها من منابع خفية،فهم يتحركون ضمن عالم متجاذب من التصورات والمعتقدات والأنماط التي تحددها ثقافة بعينها، ولكن الفرد الفاعل في زمن التحولات يستطيع أن يختط له نهجا على مستوى تحديد الأولويات والأهداف/ ص421).
ولم يكن الفاعل الإعلامي المتعارف عليه هو المهيمن في مشغل بطي.. فهو من القلائل الذين جعلوا الأدب والإعلام في ضفيرة واحدة، وتجسد ذلك في مجلته الحرية /1924 وهي (أول مجلة عراقية مكرسة للأدب وتميزت باهتمام غير مسبوق بالأدب الغربي،الشعري منه،كما كانت عاملا حرا ونافعا في خدمة هذه النهضة /ص417)..
* بداية ثانية
لم تنتهِ أفكار حسين الرحال ورفاقه إلى النسيان.. بقيت تمثلات تلك الأفكار شاخصة عبر قصص محمود أحمد السيد ومقالاته التي تناقلتها الأجيال بحكم ريادته في ميدان فني جديد،وغدت شخصية حسين الرحّال ،بفضل تلك القصص، يماهيها السيد بشخصيته عبر روايته الأكثر شهرة (جلال خالد) ص159