ادب وفن

محمود صبري.. «واقعية الكم» ثانية / عبد جعفر

في جو احتفالي كبير، افتتح على قاعة (لا غاليريا) في وسط لندن يوم 25-6 معرض للفنان الكبير محمود صبري بمناسبة الذكرى السنوية لرحيله بتاريخ 13-4 -2012 بعد عقود من العطاء في مجال الفن والفكر والنضال.
وضم المعرض الذي كان مبادرة من ابنته ياسمين وابنه محمد، 40 عملا متنوعا عكست مراحل مختلفة من إبداعه التشكيلي من الرسوم التعبيرية إلى واقعية الكم التي أعلنها في عام 1971. وفي هذه المناسبة عقدت، يوم 29-6 -2013 ندوة في القاعة نفسها، حول أعمال الراحل اشترك فيها كل من الفنانين فيصل لعيبي وساطع هاشم وعبدالله حبه وأدارها صادق الصائغ.وقال الصائغ في بداية الندوة، قد يختلف الناس والنقاد على الأخص في تقييم أعمال محمود صبرى وخاصة تجربته الأخيرة في مجال واقعية الكم. لكن الجميع يتفق بشكل تام على أن محمود صبري يشكل أحد الأعمدة الريادية الأساسية في التراث الوطني العراقي والعربي.هو مؤسس ورائد ويرتبط اسمه بجواد سليم. وإبداع محمود صبري في الفن التشكيلي العراقي له تاريخ طويل وممتد ويشمل حقلين أساسيين: حقل النظرية وحقل التطبيق أيضا أي الحقل التشكيلي نفسه. محمود من أوائل الفنانين العرب الذين كتبوا بعمق في حقل النظرية، وأسسوا في العراق والبلدان العربية وعيا تشكيليا مؤثرا، استطاع فيما بعد أن يؤثر ليس على جيله فقط وإنما أن يكون بمثابة رسالة مهمة لها أبعاد تتجاوز المرحلة التي يعيش فيها الرسام، ويتجاوز القيمة المتحفية إلى قيمة التفاعل والاستمرارية في حياة الشعب العراقي والفنانين التشكيليين والوعي بشكل عام ـ الوعي التشكيلي العراقي. كما ان رسوماته كانت وستبقى نقطة ينتبه إليها أغلب العاملين في هذا الحقل. وأكد على إيمان محمود صبري بقوة الحرية لديه،
من اجل تغيير الإنسان والعالم معا وإيمانه العميق بحرية المبدع- كفردانية - في الخلق بعيدا عن الوصايا والأيدلوجية.
وفي مداخلته أكد الفنان فيصل لعيبي أن محمود كان من الذين اعتبروا الفن كمرآة للمجتمع، وكذلك كلغة تعبر عن موقف الفنان من قضايا مجتمعه، ولم يكن جواد بعيداً عن هذا ولا فائق حسن أو شاكر حسن وكاظم حيدر ومحمد غني حكمت وغيرهم . لكن التنظير جاء بشكل مقصود وممنهج في البداية مع جماعة بغداد للفن الحديث، في بيانَيها الأول والثاني. ثم تلا ذلك بيانات الفنان شاكر حسن التأملية وذات الصبغة الدينية المحافظة والمغلفة بقناع صوفي ظاهرياً، وقد تميز فكره بالتلفيقية وحشر الأفكار الأكثر حداثة مع فكر إبن تيمية وإبن حنبل فيما يتعلق بحرمة التمثيل البشري في الفن مع حشو غير منطقي للعبارات الصوفية والعرفانية . وقد وصل به الحال إلى حد عدم مصافحة أو ملامسة المرأة واقعياً. بينما كانت جماعة بغداد تدعو إلى ربط الحداثة بالتراث مع التجربة الواقعية المتحققة للفن العراقي المعاصر، وبعد مجيىء البعث الى السلطة في انقلابه الثاني في 17 تموز عام 1968. وظهور أفكار تدعو إلى فن عربي والدعوة إلى فلسفة جمال بعثية، حدث اقتراب الفنان شاكر من هذا التوجه والتأثر بمثل هذه التفسيرات، فظهرت (جماعة البعد الواحد) التي تم دعمها وتبني أفكارها والدعوة إلى معرض عربي شامل أقيم في بغداد جمع معظم الفنانين الذين تعاملوا مع الحرف من قبل السلطة ووزارة الثقافة والإعلام في حينها وبتشجيع ومساهمة فعالة من قبل الشاعر شفيق الكمالي، الذي كان قد نشط في زياراته للمثقفين والفنانين ، لتجميعهم حول السلطة الجديدة. وقد توسعت هذه الحركة وصار لها مؤيدون في معظم البلاد العربية، لكنها اضمحلت أيضاً لتغيير التوجهات الثقافية للنظام العراقي وتحولها إلى فن عبادة الفرد.أما محمود صبري، فقد أكد على الجانب الاجتماعي، وعمل على تفسيره نظرياً من خلال اعتماده على الفكر الماركسي ودور الفن في الحياة الاجتماعية، لكنه بعد فترة، غير اتجاه تفكيره و بنفس المنطلقات الماركسية والمادية، نحو فهم جديد للفن ، من خلال ( واقعية الكم ) التي أعلن عنها في براغ محل إقامته وقت ذاك و هي دعوة لفن جديد هو فن المستقبل كما كان يدعوه، وقد أكد فيه على حركة الذرة الداخلية في عناصر الطبيعة الـ 92 معطياً لها ألوانا محددة. كان محمود صبري وشاكر حسن قد توصلا معاً الى إلغاء الإنسان او الشكل الخارجي للعالم، ولكن من وجهات نظر متناقضة وأهداف مختلفة.ولكن الفنان والمهندس المعماري رفعة الجادرجي ، قدم لنا تفسيره النظري والفلسفي لدور الفن من وجهة نظر أقرب إلى سايكولوجية الإنسان عموماً ،ومن منطلق الشعور بعبثية الوجود نفسه. عكس الفهم الذي يمتلك شيئاً من التفاؤل الروحي لدى شاكر حسن والمادي لدى محمود صبري. لأن رفعة الجادرجي ربط العملية الجمالية بتحقيق التوازن الداخلي والتمتع باللحظة المعاشة دون التفكير بأهداف أبعد من ذلك، معتمداً على المراحل الثلاث التي يمر بها الإنسان. وفي الحديث عن تجربة محمود صبري الفنية وسيرته الذاتية أكد الفنان عبدالله حبه أن الحديث عن تجربته صعب جدا فهو لم يكن فنانا فقط بل فليسوفا، إذ أن له نظرة متميزة للحياة واستطيع القول انه اثقف فنان عراقي، من خلال الفكر الذي ادخله وابتداعه نظرية واقعية الكم. وأشار إلى أن محمود صبري مر بمراحل مختلفة، فهو قد بدأ كهاو ولم يدرس الفن دراسة أكاديمية. وتميز بجرأته في رسم المومسات وتصوير حياتهن البائسة، فالإنسان أساس فكرته في الرسم، بالإضافة إلى رسمه الفلاحين والعمال الذين يعيشون حياة الفقر.ثم تطور كما تطورت الحركة الثورية في حياة المجتمع، غير انه واجهته اكبر مشكلة ألا وهي الدراسة الأكاديمية، فحصل على زمالة عام 1960 للدراسة في موسكو.
وعمل محمود صبري في موسكو على مغالبة أزمته النفسية من نقص معارفه الأكاديمية، إذ اخذ بالعمل حوالي خمس عشرة ساعة يوما، وكان همه تقوية الجانب الضعيف لديه في التخطيط، وبعد ذلك تقوى لديه هذا الجانب بشكل كبير. وأشار إلى أن محمود لديه نظرية بالفن مرتبطة بعلم الاجتماع، وان الفنان بحاجة إلى الحرية كي يتطور، كما أن أي فن لا يمكن ان يتطور بدون حرية المبدع .وخاض الفنان ساطع هاشم في نظرية الكم التي يعد نفسه أحد أتباعها مشيرا إلى أن واقعية الكم هي واقعية فيزياء الكم أو على الأقل هكذا تطمح أن تكون، ولا يربطها بالواقعية المعروفة في الأدب أو الفن سوى تشابه المصطلح أما معناه فمختلف تماما، وقد درس محمود صبري فيزياء الكم بعمق وفهم العالم والأشياء من خلالها، وقرأ تاريخ الفن من خلال تاريخ العلم وليس بمعزل عنه كما يفعل الأدباء والفنانون التقليديون. وتسعى واقعية الكم كطريقة بالتفكير إلى إلغاء الحاجز بين الفن والعلم، أي معالجة ظاهرة الفن الاجتماعية اعتمادا على مناهج البحث في العلوم الطبيعية باعتبار أن النشاط الإبداعي للإنسان متشابه في العلم أو الفن.
واقعية الكم تنقل البحث الجمالي للفنان واستلهاماته من عالم التاريخ والتراث والأفكار الوهمية المجردة والذاتية الممزوجة بالخرافات وتجربة الحياة اليومية المباشرة إلى عالم الفيزياء والكيمياء والرياضيات، حيث هناك تم اكتشاف عالم جديد وغريب للمادة، عالم أكثر دقة وواقعية وإثارة من ما نراه بالعين المجردة كل نهار أو ما نتخيله في الأحلام والتخمين والحدس، هذا العالم الذي يتم التعرف عليه أولا في المختبرات وعبر نظريات العلم الحديث المجردة، يعاد مرة أخرى إلى الإنسان في حياته اليومية، على شكل أجهزة علمية فائقة الدقة ونظريات وفلسفات جديدة غير مألوفة سابقا بالتفكير لتفسير أسرار العالم والكون الذي نعيش فيه لمساعدته في تسهيل حياته، وبنائها بطريقة أكثر تطورا.
هذه الواقعية العلمية الجديدة هي موضوع وهدف واقعية الكم،
حيث ترسم الأشياء كما كشفها العلم الحديث وكما رآها وفسرها علماء الطبيعة والحياة، لا كما فسرها الملا في الجامع أو الحالم بالمقهى، لتعاد مرة أخرى إلى الإنسان على شكل اعمال فنية تشبع رغباته وأحاسيسه الجمالية المتأصلة في تركيبه البايلوجي.وفي ختام الندوة، عرض فيلم محمود صبري بين عالمين، تابع تطور الفنان من خلال أعماله ورؤيته الفنية من خلال الحوار معه، وخصوصا حول نظرية واقعية الكم.