ادب وفن

واقعية بلا ضفاف / جاسم عاصي

في البدء لا بد من التعرف على حدود الواقعية. هل هي إجابة على السؤال المتضمن الكيفية التي عليها الصلة بين الإنسان وما يحيطه؟ وإذا ما اكتشف الإنسان مثل هذه العلاقة كيف يُقيم علاقته معها؟ وإذا ما تمت هذه العلاقة ماذا يحصل؟ ولعل الأسئلة تتكاثر وتتناسل إذا ما رغبنا في فتح باب الحوار للوصول إلى المفهوم الذي يمكن تحديده. إزاء هذا يتوجب أن نتمسك بطبيعة الرؤية التي عليها هذا الإنسان، لأنها المفتاح الذي بإمكانه فتح العديد من الأبواب. وحيث يكون هذا تكون نظرتنا للواقع والواقعية أوسع من كيفية بناء مفهوم محدد ومؤطر لها. ولعل الفن أساسا ً هو الجنس الإبداعي الذي يُلغي المحددات، ويتنافى توجهه مع توجه النظرات الضيقة المحددة بالمفهوم الراكد وغير الحيوي والمنفتح. فالفنان يتعامل وفي كل الحالات مع الواقع من خلال رؤيته له، وتحديد مفاهيمه التي تحتمل صياغات متنوعة. وهذا ــ كما أرى ــ أنه محدد ومرتبط بمساحة الحرية الذاتية التي يوفرها الفنان وهو يمارس حواره مع الواقع.
من هذا نكون أمام سؤال يمكننا الإجابة عليه عبر مفهومنا للحرية والحرية الذاتية. صحيح أن كلاهما يمنحها الإنسان لنفسه بمجهود معرفي وممارسة دائمة. لكن الثانية ـ الحرية الذاتية ــ هي المعيار الذي تـُحدده المعرفة الواسعة والمتنوعة والمشبعة بكل ما يتوفر عليه الجهد الإنساني. فالسؤال محدد في الكيفية التي يمارس من خلالها الفنان سعيه لكي يكون قريبا ً من الواقع، لا بمفهومه الضيّق، وإنما بمفهومه الواسع. من هنا نرى أن الفنانين جميعا ً هم ضمن دائرة الواقع وليس خارجه. غير أن الخصائص الذاتية المتأتية من طبيعة الرؤية والتفاعل ما يؤشر الصلة هذه، ويُقيم معايير لها على أساس اتساع الرؤية وخصائص الذات الفنية ومرتكزاتها الفكرية.
في هذا يمنحنا هذا التصور للواقعية فرصة القول أن ممارسة الفنانين لعطائهم الفني إبان سبعينيات القرن الماضي ، كان مرهونا ً بالبعد المعرفي، وكثافة تلك المعرفة وتخصصها. وهذا بطبيعة الحال أحال طبيعة الرؤية الذاتية إلى أن تهيئ معاييرها، وتتعامل مع الواقع وحراكه سلبا ً أو ايجابا ً عبر التوجهات العديدة والممارسات المختلفة التي تصب جميعها في صلب حركة الواقع، الذي كان مركزه حراكا ً سياسيا ً يرافقه بطبيعة الحال حراك اجتماعي واقتصادي، كان الإبداع ومنها الفن التشكيلي في مركز معالجة ما استجد في الواقع. وقد ظهرت أسماء كثيرة، ساهمت بروية فنية لعكس ما هو متحرك في الواقع، اصطف مع أجيال سبقتهم. ولعل الفنان "إبراهيم العبدلي" من الذين ينتمون إلى تلك الحقبة التي مارست برؤية خاصة فعلها الفني فأنتجت توجهات عالجت الصراعات التي كانت دائرة في أفق الواقع من باب نظرتها الذاتية. وذلك باستخدام مُعينات ومنها الرموز الشائعة والمتوارثة، والطبيعة ودلالات مفرداتها. فالرمز المتوارث يكتسب حيويته من طبيعة توليفه في العمل الإبداعي، حيث تستجد حيويته هذه من خلال نظرة الفنان العامة، وخاصية الرمز الذاتية، التي تنتج بطبيعة الحال حراكا ً يبتعد عن النمطية. فاللوحة سردية لونية وخطية، تـُسهم في بلورة المفهوم، وبالتالي تنحت في ما يمكن اتخاذه دليل نقدي للظواهر. وهذا ما فعله فنيا ً "العبدلي". إذا ما حددنا واقعيته على أنها واقعية نقدية والتي شاعت ورافقت حقبة السبعينيات، والتي اتخذت من تجدد الواقع وتطوره معيارا ً يُنظر له عبر جدلية العلاقة بين أطراف الخلق المعرفي والممارسات التي تحكمت بالواقع. وكما أشرنا كونها سياسية واجتماعية واقتصادية. لم يبتعد الفنان عن محورها، بل حاورها بما كان يمتلكه من توجهات ابستمولوجية. لعل "العبدلي" ساهم في هذا من خلال حوار الواقع في جملة عوالم أهمها: عالم حيوات الطبيعة وتحولاتها.
الشيئية واكتشاف عناصرها ودلالتها.
الطبيعة وعناصرها.
المقدس وشعرية عناصره.
البورتريه ودلالات متغيراته.
ولكي نوضح نظرتنا لمثل هذه الرؤى الفنية، لابد من تـسليط الضوء على توجهاتها.

أولا ً: عالم حيوات الطبيعة وتحولاتها

في ممارسة الفنان بهذا المجال استفاد من رمز الطيور، لا باعتبارها دالات للسلام والدعة والمحبة، وإنما استفاد من وجودها في اللوحة باعتبارها جزءاً خاصاً دالاً على كل عام. بمعنى أنه تعامل مع الرمز بحيوية منبثقة من حيوته الكامنة والمضمرة، حيث يستطيع المنتج التعامل معها بحيوية متجددة. وهذا هو المعيار الذي يضع الرمز ضمن دائرة أوسع. فالفنان مارس رؤيته لهذا العالم عبر معيار الخلق والابتكار. فهو أوجد مستويات متعددة من الرموز ولم يكتف برمز الطيور لوحده. فثمة "الماء والسماء" وهي رموز دالة على المطلق في خصائصه العامة والذي يرفد طبيعة رمز الطير في المثيولوجيا. فالماء ــ الخصب ــ والسماء ــ المطلق ــ ساعدا رمز الطير على أن يُحقق مدلولات خارج عن خاصيتهما الذاتية، أي أنهم توفروا جميعا ً باعتبارهم دالات على المطلق كل بخصائصه لإنتاج دلالات لها علاقة بالواقع الذي حفل بطبيعة من الصراع. فرمز الطير في اللوحة لم يكن يهدف إلى جمالية الشكل بقدر ما تعدى ذلك باتجاه استحداث توليفة مع رموز أكثر دلالة. لاسيّما أن الفنان وضع الأشكال التي عليها الطيور على تباين تعكس سردية فنية ذات حراك دلالي مضاف إلى الحراك الجمالي. وهذا أعتقده متأت من النظرة المتغيرة للرمز الذي يستفيد من التعاشق المعرفي والدلالي. فالثنائية التي عليها الطيور تعبّر عن محتوى يتمثل في سطح الماء الساكن والرائق، والطير ــ الأنثى ــ التي تستقر على حافـّة الإناء ، بينما نلحظ أن الطير ــ الذكر ــ يطير واطئا ً في حالة التوجه للاستقرار . وهنا تتوفر اللوحة على نوع من الحراك الدال على الانسجام والألفة. وهذا التعبير لم يكن إلا كونه أداة تعبير عن جوّانية الفنان ــ الإنسان، وبالتالي يكون التعبير منسجماً بين عناصر الدالات التي استلهمت الروحي من الرمز، فعقدت صلة ببعدها الروحي المتمثل بالسماء، وما عليه من سعة ودعة وصفاء. في هذا اجتمعت رموز المطلق في رمز واحد لا يتعدى مثابته، بقدر ما طورها دلاليا ، من أجل تعميق المعنى العام في المشهد.

ثانيا ً: الشيئية واكتشاف عناصرها ودلالاتها
يعمد الفنان في هذا المجال على أن تكون صلة الشيء قرينة بآخر مختلف. من هذا نجده يتعامل معه بمحددات رؤيوية. أي أنه يضع الرمز على هيئتين لكشف الدلالة. وهذه الممارسة تـُحيل إلى قراءة أخرى على الرغم من أن اللوحة ذاتها تعكس مشهدا ً من الحياة. غير أن قراءة هذا الشيء من خلال الصورة معنيّ بمجريات التعدد والثنائية. لأنها في الأساس رموز دالة على التقدمات في الديانات القديمة. إذ نلاحظ الفنان يعمل على أن يتوفر على دلالات فلسفية المتمثلة في المفتوح والمغلق. وهي ممارسات تنطوي على الإشارة إلى المحتوى الذي يضمره المغلق بإشارة المفتوح وعلى النحو التالي:
ـــ رقية مفتوحة × بطيخة مغلقة
ـــ جرّة قائمة شبه مغلقة × جرّة مائلة مفتوحة .
ـــ سماور مغلق
ـــ شبّاك مغلق
هذه التعددية في شكل الأشياء، صحيح أنها أخذت من الواقع باعتبارها من جماليات المشهد، وبالتالي من جماليات اللوحة، لكننا ننظر إليها باعتبارها سردية فنية تـُسهم في التعبير عن حراك واقعي ذو دلالة بعيدة في التعبير. ذلك لأن في مفهومنا ليس ثمة نمطية أو اعتباطية في التعبير، وإنما النص ــ اللوحة ــ أسلوب للتعبير عن اللاوعي وجعله وعيا مجسدا ً في النص. من هذا نرى في لوحات "العبدلي" بهذا الخصوص ذات محمولات دلالية تؤشرها القراءة البصرية من خلال تواجد الرموز الدالة عليها.

ثالثا ً: الطبيعة وعناصرها

يظهر كثيرا ً على لوحاته التي تتمثل الطبيعة الهدوء الصوفي من خلال الاتصال بالعناصر الموجودة ضمن كادر اللوحة، وهي عناصر لا توحي إلا بالبعد المثيولوجي في دلالتها على تصورات روحية. ومنها "الماء النهر، القارب المسجد، المئذنة التراثية، صفاء السماء" هذه العناصر تتوحد من خلال خصائصها الذاتية لتـُشير إلى جدلية الذات مع الوجود. فالاختيار لمثل هذه البيئة، لم يكن عفويا ً بمفهوم معيار الإنتاج بل أنه يخضع لمكمن اللاشعور الذي هو الخلاصة الجدلية التي تمنح المنتج مثل هـــذه ا لاختيار. لذا نرى أن واقعية هذه العناصر المتمثلة بالمشهد أعطت ما هو كامن في النفس على شكل جمالية واضحة، بذل الفنان جهدا ً لكي يـُبرز أناقة وهدوء ودعة المشهد، لما يكمن فيه من روحانية، سواء بدلالة الرمز المباشر، أو غير المباشر. إن صفاء لون السماء أسهم في بلورة مثل هذا المفهوم الذي ينتجه التلقي. إذ نجد كل الموجودات توحـي بالجذب الروحـي الذي يتملك النفس، لاسيّما سطح ماء النهــر وأناقة الزوارق. إن "العبدلي" في هذا يتقصّى من خلال المألوف ما هو أكثر بعدا ً في الدلالة.

رابعا ً: المقدس وشعرية عناصره

يـُطغي على عناصر التقديس في لوحاته سمة خاصة، لعل السكون المهيب والبعد الروحي الموحى به أهمها. فهو يحرص على أن يـُضفي على مشهد المسجد والمئذنة بـُعدا ً متحركا ً من خلال تخاطر لألوان وجاذبيتها الروحية. هذا التخاطر يـُحيل الأشكال إلى موحيات حيوية تتجاوب مع الذات المتلقية. فالتخاطر يتضح من خلال فيوض الضوء ضمن كادر المقدس، وتوحد الأزرق الذي يطغي على المئذنة، والأصفر الذهبي الذي يـُطغي على القبة، وبهذا التخاطر والفيض الروحي نلمح التأثير الذي يتركه هذا الفيض الضوئي ذو البُعد الروحي على المجاور، حيث يتضح الملمح بمثل هذا التأثير، بينما نرى في الطرف المقابل ثمة عتمة يمثلها اللون الداكن. هذه العلامات التي يـُخلـّقها اللون يتحكم فيه الفيض الروحي الذي عليه المقدس بثوابته الموحية. كما ونجد في لوحة أخرى تشاكل الألوان، بما يوحي به المقدس ــ المئذنة ــ فتبدو الألوان الضوئية محايدة وكاشفة، وذات فيوض مستقرة على هيبة راكدة، في ما نجد الحيوات البشرية تخضع لمهيمن عبر الدوران في المكان.
إن الفنان يبتعد عن التسجيل الذي يظهر للوهلة الأولى على المحتوى اللوحة، وذلك بما يضفيه من إيحاءات تبلور مشهدا ً موحيا ً بما يكمن وراء العناصر الواضحة والمجسّدة كحيوات في اللوحة. سواء كانت هذا الحيوات مكانية أو إنسانية.

خامسا: البورتريـــه

في هذا المنحى من الاشتغال يعبّر الفنان عن المتغير في الصورة. وهذا التغيّر يكون بفعل الزمن. لكنه يحاول أن يـُعطي إشارات ممكنة التعبير على الشكلين. وهما علامات أساسية توحي بالمتغيرات جميعها، ويالمؤثرات جميعها وهي هي متغيرات في الشكل، ومؤثرات في الأزمنة المرتبطة بالأحداث. فاللوحة لا تفصّل، بقدر ما تُشير من خلال علاماته الخاضعة للقراءة. فثمة صورتان لوجه واحد، اختلفت عليهما الأزمنة. فالزمن يمحى الملامح الأولى ويؤسس ملامح بديلة. وهي تماما ً كالكتابة تمحي وتـُسطـّر، ولكن تترك الأثر المتداخل مع الكتابة الجديدة. إن شكل الوجه بمثابة مدونة خاضعة للمحو والتدوين، وحريصة على إبقاء المؤشرات التي لا تـُلغي الأصل. لذا نجد في اللوحة ومن خلال الوجهين اللذين هما لشخص واحد تقادم عليه الزمن، فهو يخضع للمتغير بدلالة العلامة. فالأول متطلع إلى الأمام. بمعنى مشدود إلى المستقبل وعليه وفرة من الضوء وفصاحة شكل الوجه وصفائه. أما في الثانية ثمة نظرة تحاور ما مضى، فهي متطلعة إلى الأعلى، وفيها دليل السؤال. وبالرغم من نصاعة الضوء على قسم الوجه الأعلى وبياضه، إلا أن عتمة القسم الأسفل منه دال على انشطار في الأمل . لقد جسّد الفنان على متغير الزمن، بفعل متغير الشكل. وعبّر بهذا المتغير عن الأحداث المتوارية والبارزة من خلال النظرات وطبيعة الشكل أو الهيئة. فاللوحة بمثابة حوارية بين زمنين، تتوارى بينهما أزمنة متعددة، استطاع الفنان أن يجسّد ملامحها من خلال الألوان التي طغى عليها الداكن منها، ومقابله الفاتح المضيء. وهي علامات تـُشير إلى جدلية الوجود والعدم، الفناء والانبعاث.