ادب وفن

مراسيم خاصة 3 ( النغمشة)! / مزهر بن مدلول

شعاع ابيض نزل من السماء وقطع عليّ تأملاتي، الانصار الذين مازالوا لم يستسلموا للنوم بعد، شاهدوا ذلك النور المدهش الذي هبط على قمة الجبل، فساد بيننا نقاش مصحوب بالقلق والحذر، كنّا في ذلك الحين نتوجس من كل حركة، لقد فقدنا الثقة بكل شيء حتى بما تبعثه الطبيعة، فبعد الغدر الذي تعرضنا له في (قنديل) وراح ضحيته العشرات من الانصار اصبحنا ندير رؤوسنا كثيرا الى الوراء خوفا من ان تتكرر المأساة، حمل البعض منّا سلاحه وصعدنا الى الاعلى لنستجلي الحدث، كانت في القمة عين ماء وحيدة وشحيحة وينام قربها في العراء مجموعة من الانصار القادمين من الخارج، وجدناهم يقظين ويتهامسون في ما بينهم حول ذلك الشعاع الذي كما قالوا انه نزل على القمة التي تقع خلف موقعهم، لم يصدر عن ذلك النور اي صوت، فهو ليس صاروخا ولا قنبلة تنويرية ولا نووية ولا اي سلاح اخر، كما انّ جبهة الحرب العراقية الايرانية بعيدة عن هذه المنطقة، ولهذه الاسباب المعقولة توصل بعض محللينا الى ان هذا الشعاع صادر عن (نيزك) هبط على حين غرة.
ربما كان ذلك (النيزك) علامة ربّانية، أو ملاكا يحمل لنا بعضا من أمل ضائع، من يدري!، ربما يد بيضاء امتدت الينا من السماء بعد ان سمعت مناجاة ارواح شباب لايشعرون بأنهم يعيشون في صلب الحياة، بل كانوا في ماورائها!، ربما وربما!، وتعليقات كثيرة، وضحك يملأ الاشداق!، وبسرعة فائقة جمعنا الحطب واشعلنا النار وتجمعنا حولها، تحررت الحناجر من صمتها وراحت تصدح بالاغنية التي طالما عبّرت عن احاسيس الانصار وألهبت في قلوبهم الاشواق، ( مكَدر والنبي اودعك، خذني ياحبيبي معك، مثل الظل انا بتبعك، حتى لو طلعة الكَمر، ياروحي بلاش السفر).
بعد منتصف الليل ستكون نوبتي في الحراسة، والحراسة في الأماكن الآمنة هي فترة للتعرف على الذات، هي عودة الى الوراء، وهي اطلاق سراح للعواطف والذكريات، كنّا في السبعينات في مقر الحزب بالناصرية نقوم ايضا بالحراسات ولدينا بندقية كلاشنكوف!، تراءى لي الان الكثير من الاصدقاء، بعضهم مازال يحتل مكانا مهما في الذاكرة والبعض الاخر بألكاد المح وجوههم ( ضياء وعباس وخزنة وطه وزينب وعلي وناظم وايمان وصباح ومناضل ولبنى وابو عثمان وغيرهم)، اتذكر في احدى الليالي حصلت مشادّة بين اثنين من رفاقنا وجمهرة من البعثيين في النادي القريب من المقر، تطورت هذه المشادّة الى معركة استخدت فيها كافة انواع (البوكسات والكلات)، ثم هجموا على المقر، كنّا انا وابو عثمان فقط هناك، صعدنا على السطح مع سلاحنا، لكن الشرطة سبقتهم وجاءت في الوقت المناسب ووقفت (المسلحة) في الباب.
بدأت مفارز الانصار تتوافد قادمة من الحدود الايرانية باتجاه مقراتنا الجديدة، هذه المفارز ليس في نيتها ان تبقى هنا، وانما وجودها سيكون مؤقتا حتى يُتخذ قرار بشأنها، فأما ان تتوجه الى بهدينان ومن ثم العبور الى سوريا، او انها سوف تستقر في احدى الافواج التابعة الى القاطع هناك، او بعضها يتجه الى مقراتنا في برزان وريزان واربيل، كانت الاعداد تتزايد وكنّا جميعا في حال من الترقب، نفكر في كنف هذا الصمت الفاحش وبتلك المخالب التي تحاول انتزاع قلوبنا من نبضها، فقد كانت الاشياء تختلط مع بعضها مثل حلم عبثي لم نعثر فيه على خيط يرشدنا الى التفاصيل!، وكل الذي عرفناه هو اننا هنا، في هذه الجبال الخالية من الحنان!، بينما اولئلك الذين يدخلون الى (البلاط) يخططون لقتلنا وهم يلعبون النّرد الحرام!.
همس لي صديقي (ابو رائد الشايب) الذي ربطتني به علاقة مودة منذ ان كنّا في اليمن الجنوبية، قال: بأن العمل خارج المقرات رغم مافيه من مشقة، لكنه يخرجك من شرك الكآبة ويقتل الروتين ويجعلك قريبا من الحياة الاعتيادية بعض الشيء، ومن تلك اللحظة قررت ان اخرج في اول مفرزة متجهة الى بهدينان، وتدريجيا تعرفت على مخابئ الطريق وتعلمت فيه اشياءا كثيرة، مناطق وعرة عديدة، جبال ووديان وعيون ماء وعواصف واعداء، اكتشفت الكثير من اسرار الجبل وصخوره ومغاراته، تعلمت من خلال الطريق كيف تكون ردود الافعال عندما يتعب الانسان الى درجة ان تنتفخ اقدامه او عندما تصبح معدته تاكل من لحمها من شدة الجوع، او عندما تتجمد خلاياه في عاصفة ثلجية هوجاء، او يقف حائرا امام تيار جارف ربما يأخذه الى مجهول، وفي كل مرة في هذا الطريق هناك قصة، قصة جميلة او قصة حزينة، فالمسافة التي تستغرق خمسة ايام الى (كَلي زيوة) واربعة ايام الى (شيرين) لابد ان تحمل في طيات تضاريسها الصعبة الكثير من المفارقات، لكن بالرغم من قسوة الجبل تبقى لياليه انصع بياضا من ليالي ديستوفسكي البيضاء واقل عتمة من مقابر الطغاة، وكم اشعر بالندم لاني لم اسجل في ذاكرتي تلك التفاصيل المهمة وذلك المقدار من اللامألوف الكامن في داخل كلّ واحد منّا.
في احدى المرات، وكانت السماء مزينة بألوان ما قبل الغروب، صعدنا من قرية (جمجو) بأتجاه نهر (الشين)، ثم نزلنا في وادٍ مظلم تتراكم فيه الصخور بطريقة كما لو ان بركان قديم انفجر في بطنه، وادٍ موحش وخالٍ من الماء والذي ينظر الى قاعه يصاب بالدوار، تعبنا كثيرا حتى وصلنا الى النهر، وبعد استراحة قصيرة، مشينا بمحاذاة الجرف باتجاه نقطة العبور التي تبعد مسافة نصف ساعة تقريبا، كان الطريق الذي سلكناه محاطا من الجانبين بالاشجار والاشواك الكثيفة، وكنّا نسير بمسافات بين واحد واخر تحسبا لأي طارئ، وفجأة سمعنا صياحا قادما من مؤخرة المفرزة، احد الانصار يضع كفه على اذنه ويصرخ كالمجنون ويركض الى الامام، أُصبنا بصدمة، ماذا حدث!؟، لم نسمع اطلاق رصاص ولا انفجار لغم، كما ان المكان خالٍ تماما من البشر، فهل لدغته افعى في رأسه كانت كامنة على غصن شجرة؟، بذلنا جهودا كبيرة حتى نعرف منه عن الذي حصل، فاذا ب(نغمشة) دخلت في اذنه وراحت تضرب باجنحتها الغشاء الحساس حتى جنّ الرفيق!.