ادب وفن

الفاو ما تسوه بلياهم .. صمود الشيوعيين بوجه الفاشية / علي ابو عراق

بعد أن أصدر الحاكم العسكري حكمه بالسجن لمدد مختلفة على نحو 30 سياسيا من قضاء الفاو التي تقع أقصى الجنوب العراقي...إثر انقلاب 8 شباط عام 1963 وكانت الحركة الوطنية مزدهرة فيها وخصوصا اليسار العراقي بسبب وجود مصالح ووظائف فيها استقطبت أبناء المدن الأخرى واغلبهم من العمال الفنيين والموظفين في دوائرها الحكومية فضلا عن المعلمين والمدرسين...حيث كانت هناك شركة النفط والموانئ وغيرها... مما كان سببا لجذب شرائح مختلفة تتميز بالوعي والتنوير، إضافة إلى أن كل الحكومات المتعاقبة اختارتها كمنفى للوطنيين والمعارضين للاستعم?ر والأنظمة القائمة بسبب جوه الحار ورطوبته الخانقة وبعده عن مدينة البصرة على نحو أكثر من 100 كم..ولكن هذا القضاء النائي الذي اتخذ كمنفى تحول بوجود هؤلاء الى واحة للتحضر والفن والسياسة والأدب..مما وسم اغلب أبنائه بحب الثقافة والنزوع للخيارات الوطنية وعلى وجه التحديد اليسارية منها..وكان حملات القمع تطالهم مع كل انقلاب فاشي..وبعد 1963 وحملة القمع الواسعة طالت الكثير منهم وضمنهم هؤلاء الثلاثون واغلبهم من الذين استقروا بسبب العمل ومن المنخرطين في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وكانوا رفاقا في منظمة واحدة..غير أن اح?هم لم يكن من المنتظمين في صفوف الحزب ولكنه كان صديقا لأغلبهم فاعتقلوه معهم.. لذا لم يصدر عليه القاضي حكما لأنه وعلى الضوء التحقيقات لم يكن سياسيا ولكنه كان يعمل سائقا في إحدى الدوائر التي تكاثر فيها اليساريون.. وكان صديقهم يخرج معهم ويرافقهم في كل الأمور... وبمرور الزمن أصبحت صداقتهم عميقة جدا وصار لا يفترق عنهم أبدا.. لذا وإثناء عملية الاعتقال لم يفرق شرطة الأمن بينه وبين أصدقائه الشيوعيين فاقتيدوا سوية إلى السجن.. وبعد أن أزف وقت المحاكمة وأصدر القاضي حكما بمدد مختلفة على المجموعة.. ظل هو وحيدا يلتفت يمي?ا وشمالا.. لان الحاكم لم يصدر عليه حكما كأصدقائه.. فهو ليس بمدان ولم يجد الحاكم موجبا لسجنه.. ولكنه استغرب من سلوكه فقد كان يتلفت بحزن وحيره كأنه ضائع يبحث عن مخرج بعد أن فرق الحكم والحاكم بينه وبينهم... فسأله الحاكم بسخرية... هل تريد إن يكون مصيرك مثل مصيرهم...؟ هل تريد ان تكون معهم...؟ فرد دون أي تردد أو تأخير وبلباقة بينة "نعم أستاذ والله أحنه ربع و الفاو ما تسوه بلياهم.".. فاصدر الحاكم حكما بسجنه رغم قناعته بعدم شرعية الحكم.. فقد حكمه تعسفا بستة اشهر.. لأنه ظن أن الرجل الطيب (طيبة اهل الفاو) التي تضرب ?ها الأمثال.. يسخر منه.. وكان هو راض جدا بل في سعادة غامرة..لأنه وسط أصدقائه الطيبين.. ولم تستطع ماكنة القمع التي كانت تهدر بقوة في تلك السنوات السود أن تفرق بينه وبين ربعه) الذي عززت أيام السجن والمعاناة علاقتهم وقوت أواصر الصداقة.
واسترسل الأستاذ عيسى في سرد ذكرياته وكأنه يتحدث عن أيام عرسه فرحا منطلقا حيويا.. رغم عمره الذي تجاوز السبعين..قائلا... على الرغم من أن تلك الأيام كانت تعبق برائحة الدم والجراح وتكتظ بأصوات السياط وصرخات التعذيب وهمسات الموت المفزعة والتي كانت توقظ في منتصف الليل صمت زنازين ترتجف من البرد والهلع والوحدة.. حيث أثلجت الريح الشديدة القسوة الكون كله.. و ليس هذا الثقب الأسود المنسي في ذاكرة صحراء تمتد بلا تخوم وحسب... بل تجمد فيها الخوف والذعر نفسهما وتحولا إلى سلسلة من جبال سود حاولت حجب الحياة والنور عن هؤلاء ?لذي يواجهون كل هذا السعار القمعي واللؤم الفاشي بحرارة قلوبهم ووهج وعيهم...صحيح أنها كانت ذكريات اشد مرارة من الحنظل..وأكثر بؤسا من الألم.. لكن ونحن نسترجعها بعد نحو نصف قرن نشعر أنها أجمل أيامنا وأكثرها القا وبهاء ومعنى وجدوى أيضا... فقد كانت مفعمة بالإيمان والقوة والأمل وتجلت فيها قوة الشعب بوضوح كشمس النهار رغم الغيوم التي كدرت سماء الوطن واستباحت شموسه... إذ كنا نحس ودون ريب تراصف قلوب الناس خلفنا وتلاحمهم معنا دون حدود.. فعلى الرغم من العزلة الرهيبة التي أحاطونا بها وفرضتها مقتضيات الانتهاك والاستبداد.? حيث أن وجودنا في هذه الصحراء أشبه بوجود سفينة صغيرة تمخر عباب محيط... لكننا كنا نشعر أننا في ذروة التواصل والحميمة والمجد... ونرى أننا وسط الناس بل في لجة أفراحهم وهمومهم وهم قد وقفوا ظهيرا لنا ظهيرا ضد هذا المد ألظلامي الجامح بانقلابات العسكريين ودونية الرجعية... فامتلأت سجون العراق من شماله إلى جنوبه بالشباب والشيوخ والنساء... وأضحى مجرمو الأمس الذين أودعوا السجون بسبب جرائم جنائية هم الجلادون والمتحكمون فيها... وما كان أمامنا نحن الوطنيين من الشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين سوى أن نتحصن و نستعد أمام ?ذا الزحف الأصفر المليء بالكراهية والعنف البدائي وتصفية الحسابات.. وننظم قوانا كي نقطع الطريق على جلادينا... وفعلا قد أثبتنا جدارة منقطعة النظير وحيوية ليس لها مثيل ورباطة جأش وبطولة وتحد تقترب من الخرافات والأساطير وقد أصبحت معروفة للجميع بل صارت من التراث البطولي للشعب الذي يتغنى به،.. وأول ما فعلناه هو العودة إلى الحياة والخلاص من كل القيود التي قيدوا حياتنا بها وأولها العيش برعب دائم وخوف لا ينتهي.. ورسم حياتنا على أسس تجعلنا على صلة وطيدة بكل ما هو حي وطبيعي وجوهري وتقدمي وأن تستمر حياتنا بعيدا عن الخو? والرعب وكأننا في بيوتنا، فخططنا لكل أمورنا أحسن تخطيط ووطنا أنفسنا على أن الإقامة في هذه السجون المروعة هو ليس طارئا او سريعا.. بل ربما سيمتد سنينا... رتبنا قضايا الأكل والنوم والنظافة والصحة وفتحنا صفوفا للثقافة والتعليم انخرط فيها كل نزلاء السجن وكل حسب خلفيته.. فالنزلاء الأميين انتظموا في صفوف لمحو الأمية وغيرهم في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية كما فتحنا دورات تثقيفية في السياسية والاقتصاد والشعر واللغات والنقد... لقد ضمت السجون في تلك الفترة طاقات هائلة في المجالات السياسية والثقافية والرياضي? قادت العراق في المراحل اللاحقة والى الآن.. ولعلي أنسى كل هذه التفاصيل ولا أنسى البطولات الملحمية والقوة الهائلة للكثير من السجناء الذين واجهوا أجهزة السلطة وماكنتهم القمعية التي كانت تعمل بحماس كبير ليلا ونهارا لتحطيم إرادة الشيوعيين والديمقراطيين وغيرهم... وإحدى هذه الذكريات أن هناك سجينا شيوعيا اسمه رحيم..صدر حكما بإعدامه من المجلس العسكري الأول.. وكان بانتظار التنفيذ... وضعوه في غرفة ضيقة يسموها غرفة الرياضة.. كانت غرفة ضيقة جدا..سموها بغرفة الرياضة لأنها كانت غرفة المشنقة التي تنفذ فيها أحكام الإعدام.?فكان رحيم هذا يقابل المشنقة التي ستلتف حول عنقه بعد أيام لا محالة..اي بعد مجيء أمر التنفيذ...يقابلها ليلا ونهارا ولا يكف عن إطلاق النوادر والطرف..التي يسمعها نزلاء الزنازين القريبة... لقد وصلت به السخرية منها يسميها (الحبيبة).. فقد تآلف معها تماما ولم يعد يشعر بأي ضغينة ازائها... وكان يأكل بشهية بالغة دون اي تلكأ أو قصور أو ضعف شهية.. وهو ينظر إليها ويناغيها.. في حين أن بعض النزلاء كان لا يشتهي الطعام وهو قد سجن لسنوات.. كان رحيم أنسانا خارقا.أثار في الكثير من الفضول... فدبرت حيلة بعد رشوة الشرطي برشوة مقد?رها درهم فقط لالتقية..وكان لي ذلك حينما قابلته... سألته رحيم من أين لك هذه القدرة والقوة تأكل وتنام وتسخر مع هذه الآلة التي ستقتلك بعد أيام...؟ أجابني مبتسما ها أنت قلت أيام.. فلماذا أضيع هذه الايام بالحزن والتفكير..؟ وهي محسوبة علي... سأستغل كل لحظة متبقية لي من الحياة ولا أفرط بها...سأستغلها أحسن استغلال، وحتى في صبيحة إعدامي سأطلب الفطور واشرب الشاي وأدخن ما يسمح لي الوقت من سكائر واستغل كل ثانية لي... وختم كلامه بقهقة طويلة.. تردد صداها في كافة الزنازين... وفعلا صدق في قوله.. ففي يوم إعدامه طلب الفطور ?الشاي ودخن ما لديه من سكائر واسلم عنقه للحبل بكل هدوء ما جعل جلاديه يشعرون بأنهم أقزام ونفايات أمام شجاعته وقوة بأسه.. كما لا أنسى ذلك الرفيق الرائع الجميل منذر أبو العيس الذي كان لم يتجاوز عمره السابعة والعشرين حينها كان جميلا ووسيما بشكل ملفت ومثقفا كبيرا على صغر سنه...وأخلاقيا أدهشني بأخلاقيته... ففي يوم أخذوه لتنفيذ حكم للإعدام في سجن آخر وبعد أن فشلت جميع التظاهرات في إطلاق سراحه... قال لي بعد أن قبلني وهو يهم بالرحيل... رفيق إن لهؤلاء السفلة بطانية بذمتي ولم أجدها الآن... ارجوا عطاء إحدى بطانياتك لهم?لكي لا يطعنوا بذمتي بعد موتي... بعدها سلمت إدارة السجن البطانية التي كانت في ذمة أبو العيس الشيوعي الجميل والأخلاقي الكبير وربما كان فيها زخات من دموعي.
وكان هناك رفيق من كردستان اعتقل مع أبيه معنا في السلمان..كان أبيه شيخا كبيرا..لكن هؤلاء الفاشيون لا يجدون فرقا... فبعد أن اشتد زمهرير الصحراء الذي كنت اسميه الجحيم الأبيض.. إذ أن للبرد في تلك الصحراء شجونا وقصصا مرعبة لا تنتهي... لم يقوى الشيخ الكوردي على تحمل برد وبؤس السلمان وهو الشيخ الكبير ابن ذرى كردستان المتوجة بالجليد والشكيمة.. قضى الشيخ في ليلة ليلاء.. فأصيب صديقنا ابنه بحالة من الهلع والانهيار... وحينما حملوا جثمان ابيه بعيدا.. وأغلقوا باب الزنزانة خلفه بوجه المودعين.. وكان صاحبنا ممسك بطرف التاب?ت.. وحينما خرجوا بالتابوت وأغلقوا الباب... ظلت يداه مرفوعة ومتوقفة حيث كان مستوى يديه على التابوت.. ظل لفترة طويلة على هذا الحال.. وهو يسألني "إلى أين يذهبوا به؟ الى اين يذهبوا به..؟
كان يفكر ان جسد ابيه سيرمى في الصحراء وتأكله الكلاب والذئاب.. ولكنه بعد أيام استعاد هدوئه ورجع إلى طبيعته ونسي مأساته.. فقد أحاطه الرفاق بدفء يتناسب مع مستوى فجيعته.. للخروج به من دائرة الألم الى دائرة النسسيان ولا أنسى شيوعيا آخر وأنا في سجن العمارة وقبل مجيئي للسلمان ذلك الكردي الرهيب.. الرهيب بوفائه ورباطة جأشه..حيث كان عدد من الشيوعيين الأكراد معنا في سجن العمارة جلبتهم الحكومة بعد ان اشتد الكفاح المسلح ضدها.. توطدت علاقتي معهم جدا.. وكنت معهم في ذات الزنزانة.. وبعد مرور الأيام أردنا أن نقتل روتين السج? بشيء نافع.. كنت معلما فكان حلا امثل أن اعمل لهم صفا لمحو الأمية.. وتعليمهم العربية أيضا.. فكانت فكرة جميلة راقت لهم بشكل كبير وعرفانا لذلك راحوا يقدمون لي خدمات لم أقبلها ولكنهم كانوا يصرون على ذلك.. يفرشون فراشي ويجلبون الطعام والشاي ويغسلون ملابسي على الرغم من اعتراضي الكبير على هذا... وفي احدى الصبيحات جاء احدهم واخذ ملابسي بغية غسلها.. ولكنه جاء بعد فترة وجيزة وقال اعذرني يارفيقي انا خجلا منك.. لم استطع أن اغسل ملابسك.. فقد استدعوني قبل ان أقوم بغسلها... عذرا سيرحلونني.. فأرجو ان تتقبل عذري... وكان جب?ا انهار على راسي... ورحت اجز على أسناني بقوة حتى خيل لي اني سأحطمها.. فصديقنا يعتذر عن عدم غسله لملابسي لأنهم نادوه لتنفيذ حكم الإعدام...هل سمعتم عن اعتذارا كهذا هل سمعتم اعتذارا في مثل هذا الموقف.. كانت أيام ليس لها مثيل.. فلا عجب إلى الآن يرافقني الحنين إلى تلك السجون والزنازين والى رفاق الأمس الذي سحق أكثرهم الموت والمنافي والسجون... وربما لو سألني احد.. عن أجمل الأيام التي عشتها.. سوف لن أتردد قطعا بان تلك الأيام هي أجمل أيام حياتي... وأكثرها امتلاء ومعنى.