ادب وفن

فنتازيا الواقع والسياقات السردية في «ثورة عقارب الساعة» / رنا صباح خليل

تتناول رواية "ثورة عقارب الساعة" للقاص نهار حسب الله يحيى رحلة ذبابة جاءت من أمريكا بطائرة الاباتشي التي كانت متوجهة للعراق، ابان سقوط النظام السابق وكان قد حدث ذلك سهوا, اذ شاءت أقدارها أن تحملها من نعيمها الذي كانت تعيشه في مخبترات أمريكا للأبحاث وأجواءها المفعمة بالرفاهية الى عالم البؤس والدمار والحزن في العراق، وبذلك حمّل السارد نصه الفنطازي عبر جعل الذبابة تتمتع بحس مرهف وادراك غير متناهِ للعلاقات الانسانية ضمن عائلة منكوبة هي عائلة "أبو علي" في العراق، وتتعايش معهم وتتألم لألمهم وتتعجب من تحملهم لأحزانهم حتى يضيق بها الأمر حداً يجعلها تغادرالمكان.
الرواية تحققت الفنتازيا فيها عبر وساطة التحول اذ أن الذبابة فيها قد تحولت من صفاتها كحشرة الى شخصية فاعلة تفكر وتحاور نفسها كالإنسان, وقد استطاع السارد من اتخاذها بطلاً لروايته أن يقدم رؤية سوداوية شاملة لربما تعجز الشخصيات التقليدية عن تقديمها وبذلك حاولت أن تقترب من الواقع برؤية فنطازية انتظم البناء الأسلوبي للسرد القائم فيها, وقد أراد لها المؤلف أن تكون تسجيلاً غرائبياً للواقع العراقي ومتقصية للوضع البشري للفرد العراقي وما جرى له من وضع، مخترقاً للقونين الطبيعية والمنطق الذي ينظم الحياة المعاشة للانسان ?يه.
افتتح المؤلف روايته بـ "حانت ساعة الصفر، ساعة الحصاد بالنسبة للشيطان، إنها الساعة الثالثة من فجر يوم العشرين من شهر آذار2003"، معلناً عن بدء الهجوم الأمريكي للعراق وما تلاه من اختلاط مشاعر تجتاح الناس انذاك وهي خليط من الخوف والفزع والفرح أيضاً، فبدأ سارد النص بصياغة مبررات وجود الذبابة التي كانت تفكر بالحرية والتحليق خارج جدران المختبر ومن ثم وصولها الى المعسكر الأمريكي واتخاذها قسطاً من الراحة في غرفة القيادة الى وقوفها على التمثال الجاثم في ساحة الفردوس بعد وصولها الى بغداد ودخولها الى بيت "أبي علي" الذي فقد ابنه دون أن يعلم به أن كان حياً على قيد الحياة، أو أن الحرب قد نالت منه وأماتته، فيبدأ التوصيف للنص بلغة استعارية مجازية نهضت بها مشاعر الأب المنكوب ومشاعر الأم المقهورة على ولدهما والجو العام لذلك المنزل الكئيب لفقدهم ولدهم ولحزنهم على مرض حفيدتهم المصابة باللوكيميا وهي ابنة يوسف الأبن الثاني لأبي علي ،ان وصف تلك الاجواء نزع الكثير من التفاصيل التي كانت تحمّل النص الاستطالة، ان شاء ساردها الخوض في دقائقها، إلا انه كثفها على لسان تلك الذبابة بشكل تصويري يقدم رؤية بصرية تحيط بها الغرائبية، ففي ص22 يصف حال الأب وهو جالس في حديقته يستذكر أيام ولده البكر المفقود:".. ينهض من كرسيه الخشبي، ليقترب من وردته الذابلة ويخاطبها قائلاً: هل استشهد علي في ميدان الحرب؟, هل مازال على قيد الحياة, هل هو مصاب أم أسير في سجن مظلم, بحق كل قطرة ماء سقيتك اياها لا تخفي شيئاً من الحقيقة.."، الا انه من الممكن عدها رؤية داخلية في ذهن ذلك الأب حيث بدأ الأمرعادياً وفق المدرك الحسي للمتلقي الذي يعرف التفاصيل الكثيرة عن هذا الواقع الذي يكتسب غرائبيته من خلال الوصف الاستعاري ليوميات تلك العائلة للدلالة على الخراب الذي لحق بها، كما أن?الفنتازيا في هذه الرواية هي تقليدية بمعنى انها توظف طريقة مألوفة هي استذكارات الأب تارة وتوصيف الذبابة للحالة العامة للبيت تارة أخرى، فالذبابة "ارتكزت صامتة على النافذة بعيون حذرة وظلت تمارس طبيعتها وتهز جناحيها بحركة لا تثير انتباه أحد.. تراقب وتحدق وترصد كل ثابت ومتحرك في الداخل.."، وبحركة الذبابة تلك عرفنا السارد على شخصيات روايته واحداً تلو الآخر، بدءاً من يوسف وزوجته وفاء وابنته أمل الى سارة الأخت الوحيدة والشخصية الواقعية التي تتصرف مع أمر فقدها أخيها بروية وتعقل ومن ثم الشخصية الثانوية في الرواية هي الجارة "أم محمد"، المرأة المقعدة المحبة للناس والمتفاعلة بشكل كبير مع مأساة تلك العائلة الجارة لصيقة حياتها في أفراحها وأحزانها.
ان ابتداع خيال المؤلف في سرد روايته لحاسة السمع التي كانت المعين في تعرف الذبابة على الشخوص والأحداث هي علامة فارقة ومميزة في إثارة متعة، فما هو معروف لدينا أن الفنتازيا تقدم حالات يزول فيها الاتفاق المعقول حول العالم الخارجي ويتوقف من خلالها التوقع الاعتيادي لصفات الكائنات والأشياء، فما هو معروف علمياً ان الذبابة لا تمتلك حاسة السمع فضلاً عن عدم قدرتها العيش أكثر من اثنين وسبعين ساعة طيلة دورة حياتها الا أنها داخل الرواية قد عاشت بما يقارب من عدة أشهر فالخارق والمثير هنا يكمن في عرض مسوغات ذلك الوجود لذلك الكائن النادم على وجوده في تلك الأجواء وهذا الندم قد منحه اياه المؤلف ليتجاوز امكانيات الواقع واستحداث حاسة السمع للذبابة يريد من خلالها تحقيق الوجود الخاص لبطل روايته فتلك الذبابة مفعمة بعدة صفات هي فضولية وفضولها جعلها تتنقل داخل المنزل بل وداخل بيت الجيران أيضاً وهي متذمرة على هذا الواقع المحزن ومن خلال تذمرها وصفت لنا حالات إنسانية مؤلمة لتلك الأم زوجة أبي علي "لكن الصبر سحقني ولم أعد أطيق الاحتمال.. قلقي عليه يزداد مع كل دقيقة تمضي".
يذهب يوسف الى "مدينة الطب" وتذهب معه تلك الذبابة الفضولية ليبحث عن أخيه بين الجثث وجرحى الحرب ويتقن السارد وصف تلك الردهات في المستشفى وتلك الروائح الكريهة المختلط فيها الدماء مع المواد الطبية بما يثير منظراً مقززاً ومخيفاً وربما اسطورياً بالنسبة للذبابة التي فاجأها أمر ذلك الطبيب الذي اعتاد الأمر وتعامل معه ببرود قاتل ازاء أهالي الضحايا المنكوبين فطلب من يوسف بعدما لم يجد أخاه ضمن سجل الأسماء، عليه أن يذهب الى دائرة الطب العدلي، وبذلك يتحتم موته بوجود جثته أو عدم وجودها، وبرجوع يوسف الى البيت تقصد المؤلف وأضفاء المأساوية بحدها الأكبر أن يزامن ذلك الخبر مع وصول "أمل" تلك الطفلة المريضة الى حالة الموت السريري بعدما تفاقم المرض عليها فيخيم أمر احتمال موت علي مع احتمال موت أمل الذي أصبح أمراً مؤكداً للعائلة.
ان حجم المأساة قد نالت من الذبابة وجعلتها تغادر ذلك المكان بل وحتى تفقد متعتها بمفهوم التحرر ولم تجد مسوغاً لهجرتها من ذلك الهناء والعز في حياتها داخل مختبرات الأبحاث في أمريكا إلا أنها لم تستطع الرجوع الى ذلك العرين في أمريكا وبعد عناء وجولات تعود الى بيت أبي علي لتجد مراسيم العزاء قد نصبت أمام البيت.
ولغرض استمرارية غرائبية الواقع بين الداخل والخارج حتى ليغدو الخارج مرآة للداخل وظف السارد تجوال الذبابة وسوقها الى أمكنة مجهولة ليشعرنا بما يدور حولها وما يجري داخل اروقة الجيش الأمريكي وما يعتريهم من انكسارات وخيبات توصلهم حد الانتحار بسبب وحشية الأوامر التي تلقى اليهم وانتهاكاتهم المستمرة لحرمة الأبرياء وابادتهم.
ان معاينة هذا الوضع البشري المنتهك تدعو الذبابة أن تقاوم رغبتها بالرجوع الى حياة الرفاه والنعيم ويستمر السارد في تحويل الواقع الى ما يشبه الحلم بغرائبية تتجاوز الحدود المألوفة لنا لتكون مألوفة وبأن ما يجري وما يريده السارد هو عالمنا دون شك في ذلك رغم انه شيء من المر لا تقوى حتى الذبابة على استساغته.