ادب وفن

السراديب تؤول إلى مخطوطة الدلالة :قراءة في «هدوء الفضة» / حيدر عبد الرضا

مجموعة قصائد "هدوء الفضة" للشاعر الصديق مقداد مسعود لربما تأتي استكمالا لتجربة شعرية إجادة خلق أبعاد اللغة المبهمة شعريا والاعتماد على إيقاعها الداخلي الكامن في نسيج مشهد صورة النص. ولكن هذا الأمر بقدر ما يغري الشاعر، فأنه يجعل لغة قصيدته في بعض الحالات أقرب ما تكون إلى الانغلاق في المشهدية الشعرية التي هي بلا تضاريس، بل ربما هي أقرب ما تكون إلى دائرة اللغة السريالية منها إلى لغة و صورة القصيدة القرائية. وهذا بدوره ما لاحظناه و بلا مشقة في مجموعة الشاعر الجديدة "هدوء الفضة":

"هذا الليل :فضة في راحتي
لتكوني غزيرة الأجنحة..
زبد الموج..
أصوغه .. لقدمك اليمنى: خجلا
كبئر مدورة هذي اللحظة
من قعرها، أراك عالية ..
عالية ببياضك ..
برحيقك عالية".
هذه الرؤية الشعرية "هذا الليل/ فضة في راحتي" هي بمثابة العربة التي باتت تجرها الوعول نحو آليات حلم مدائن التعرف بأصوات معطيات قصيدة "هدوء الفضة" أنها بلا شك مجموعة هواجس لا تحدث إلا في رؤيا أماد و أزمان حالات البياتي الشعرية التي تكثف الصور والرموز الخاصة في شكل شبكة رؤيوية يمتاز بها شعره خاصة. غير أننا مع قصيدة مقداد مسعود في زمن دال "هدوء الفضة" شاهدنا حداثة رموز شعرية ذاتية راح يخلقها الشاعر لنصه على دراية وصواب، مما راح يجعل خطاب قصيدته في الوقت نفسه عبارة عن لغة و صورة لا تكشف عن عالمها الحقيقي و المثير بيسر:
"يا نجمة .. من سلافة الأزهار ..
يدك شمسان
نبضك فضة
همستني دمعتي : لا تفضح عينيك
أنهم .. يتعقبون قلبك
بين الأصابع أنت الإبهام.. كيف لا تعتاظ الخواتم
والكواتم".
إن مجال طموح قصيدة الشاعر، كما يظهر، يقترن بالحلم المؤسس عبر واقع حال مغاير، ولدرجة وصول الأمر الى منطقة "الشطح" الذي هو غيبوبة النص عن عناصر رحيل الحلم فيما وراء دلالة حدوثية المعنى:" يا نجمة.. من سلافة الأزهار/ يدك شمسان/ نبضك فضة" وعندما يتحقق الحلم في النص يصبح التحقق القصدي في مركب الدال قوة حيوية يجوب بها الشاعر كل الأعماق حيث الحركة تظل داخلية وفي حدود مخفية ، و لذلك صرنا نرى بأن الخطاب الشعري راح يتخذ لذاته صيغة وأفق "الأنا / التحول في المخاطب / مدار الحادثة" وفي سياق التحول ذاته تختفي الحدود بين "حضور/ غياب" أو تختلف الحدود أيضا بين طاقة الاستقرار في صفة زمانية لتكتسب في الآن نفسه هوية التواصل الذاتي في تحقق قصدي عن طريق حركة السياق الأولى في دلالة "هدوء الفضة" بوصفها الخطوة الأولى في تشييد الصورة المدلولية في النص. وحين تكون الفكرة الأساسية في الفضاء الشعري هي "الفضة / نبضك / دمعتي / عينيك / راحتي" وما يشتمل عليها من أفكار تدل في ذاتها على نوع من الحركة الذاتية المشخصة في ثنايا الحلم كمسار تصاعدي يبدأ من "ألم تجعلك الفضة.. بضعة منها" الى صعيد حركة دلالة.
"استيقظت .. ما زلت في تجاعيد
نومي .. مسكت حلمي من فضته .. سأرتبه .. أعيد
الجرة الى الماء"..
كل هذه النواة تشير الى هيمنة عناصر الفضاء الحلمي والتوقعي في مقصديات التوليف عند الشاعر بين البعيد و القريب و الممكن والمحال في بناء صورة معنى استثنائي ، حيث أخذت هذه الحالات تبتكر أشكالا جمالية خاصة قد لا يلاحظها المتلقي على الرغم من شيوع دوالها تحت آفاق ناظريه، لأنها تعيد خلق المألوف والغرائبي والحلمي في شكل مصور، على حين غرة تبدو جميع الصور الشعرية في مفاصل قصيدة الشاعر على هيئة تلازم خاص وتناسب فني مقصود إزاء خصيصة الخطاب العام في القصيدة. والقارئ لها يلاحظ من جهة ما أنها ألفت ثنائية
التعبير/ الحلم "فكرة + صورة + شفرة + شكل مضمر" فالصورة في قصيدة الشاعر عبارة عن مكون مؤلف، على الرغم من أنها تبدو من جهة أخرى كما لو أنها إجراءات متخيلة في صنيع تشكيل حلمية غارقة في ضجيج أنقاض السردية المهلهلة بأثمار شجرة المشاعر الخاصة من لدن الشاعر وعوالمه الواقعة في نقطة شواغل الذات:
"وأنا في وطني أراه بعيدا
لكنه وطني..
أفرك يدي بيدي
مثل أم تخفي مثالب أولادها عن أبيهم
أنه وطني لا أحب سواه ..
وأخجل ..
حين أراه منهوب
الفضة .. !".
أن فعل القراءة الأولية لدال "الفضة" في مجموعة الشاعر تقودنا نحو ثوابت جوهرية راهنة ومحتملة مما يجعلنا نطرح التساؤل الآتي، ما الباعث على قول الشاعرحول دال الفضة وهدوئها؟ إذ هناك دليل جوهري يقع لربما قبل حلمية النص أي هناك وما قبل السياقات الكلامية والاشارية وإنفراد الأداء أو ما قبل عروج الأفعال المضارعة أو قبل تأويل ثريا النص هناك في قصيدة الشاعر دلالات غائرة في عنونة هدوء الفضة وعلى مستوى الأسماء والصفات وإيحاءات مواطن الانتماء للقصيدة ذاتها، على أمل الحضور الدلالي في وهج الفضة برغم غياب فضة الثوابت في سطوح المداليل الراهنية في المؤشرات القولية.

المعنى الشعري التكويني

إن القارئ والمتأمل في قصائد مجموعة "هدوء الفضة" حتما سوف يعاين اتجاه الكشف التكويني في دلالات ووحدات القصيدة العضوية، إذ تنطلق بنية لحظة الإفصاح في أنتظاماتها الشعرية والنفسية والجمالية والأسلوبية من حالات رموز و تراكيب بنيات تكوينية متحركة وساكنة، لتدخل في مجال إعتبارات الحضور والغياب والضمور والجلاء.
"من هذا المنعطف
تجلت الفضة
من دموع سواي
يومها ما تمنيتني منديلا
لتلك
العيون
ربما
أصغر من عمري الضئيل
: كانت مشاعري!!
لكن لونها غمر وجهي
و ما يزال!!".
أن ضمير المتكلم ليس في حدود هذه الدائرة المقطعية سوى، "قناع/ هو" أي هذا الحاضر الغائب و المسيطر على روح التكوين الصوري في دال و معنى "فضة" ولكن الشاعر أخذ يستحضره بكل تماه وتباين فكرة التماثل وليس التمثيل:"المنعطف + الفضة = هو = دليل = مدار محايث" ونستطيع تأسيسا على هذا المخطط أن نقول أن معادل "أنا" نفهمه حينا على أنه "عضوية المجاز" وحرارة مخاطبة الغياب أو المسمى التكويني الداخلي، حيث تتجلى لنا المواقف والمشاهد عن أدوار دلالية تتصدر المكون و المضمون والشكل. "أطلق الأجنحة/ صمتي يسألك وحدك/ بين الأصابع/ و الخواتم والكواتم/ الفضة والحناء/ أصوات الليل/ ظلك كله فضة/ خلف زجاج الصواغين/ كأنها تعطيني من فضتها مفتاحا/ هذا لك وحدك / فضة لا مثيل لها في المياه"، هكذا أخذت تتسع الدوائر الدلالية في منطقة و حالات أصوات القصائد الفضية في مجموعة مقداد مسعود، كي تتجلى لنا من عبرها أشارات التوقع والمتوقع في مسعى نموذج الضمير المقابل للأنا ليشكل دورا بارزا في دوائره ومناورة معانيه
"يطل على الخص
الخص يطل على السدرة الحورية
من ذاك الشباك
تنزلق طفولتنا
فضية".
من هنا يعيد الشاعر تسمية تضاريس الأشياء والحالات كي يجعلنا نتعرف على استرسالها المتراوح والمطروح في محاكاة لغة الذات الشعرية المنعكسة في لغة الأشياء. مع أننا ندرك بأن هناك فرقا جوهريا في المصدر والإيحاء ومستوى الأداء التوصيفي، لكن ضبط الأداء الحيوي في لغة خطاب الذات جاءنا بمنحى النمط المشابه لممارسات أناشيد و مؤثرات أعماق الموصوف الذاتي المتخرج بروح المشهد الإحيائي الفطري المؤول في مشهد الأشياء.

تعليق القراءة

هذه القراءة السريعة منا لبعض جوانب مجموعة "هدوء الفضة" ما هي إلا مغازلة شفيفة من جهتي لطاقة شعرية الشاعر مقداد مسعود. فهي مني مجرد قراءة زائر عابر، تسعى الى أن تكون محايدة و بريئة، حيث لا تخضع لأي نوع من أنواع أدب الأخوانيات وزلف أملاءات أبناء المدينة الواحدة، ولا تخضع أيضا لضروب المجاملة و الإنحياز ودا وعداء.. و لكن كل ما أود قوله تحديدا في هذه الخاتمة من المقال، هو أن تجربة الشاعر مقداد مسعود وفي كافة أعماله الشعرية العديدة، يكاد يختفي فعل ولغة التناسخ والنسخ و طرح ما هو سابق من كلام و صور أعماله الشعرية السابقة.. إذ أننا و نحن نقرأ قصائد مجموعته السابقة "ما يختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب" أو مجموعته السابقة أيضا زهرة الرمان"، لم يلفت انتباهنا ثمة إعادة للكلام أو طرح للصور الشعرية السابقة أو الأفكار بل أننا وجدنا أن لكل منجز جديد لهذا الشاعر له سماته و علاماته و مؤثراته الخاصة.
"الفضة تتماوج..
تتسامى متماوجة..
تشهق غيمة
ثم
ها هي: تتهاطل
فتيت قداح
ملء راحتي".
ويمضي "مقداد مسعود" نحو خاتمة شعرية منفرجة، إذ يكاد الشاعر من خلالها و في انشطاره الفضي ذلك، استجماع الموقف الشعري وما يحمله نحو وجهة درامية أخذت تتطور في ذروة النظام الداخلي للقصيدة و في منطق حركتها المكثفة على مستوى العلامات النصية العفوية وكيفية ترميزها لما سبقها وبما لحقها من الصور الشعرية التي لا يملك إزاءها القارئ سوى أن ينساق وراء شجن سراديب هدوء الفضة و هي تؤول نحو جسد مخطوطة الدلالة.