ادب وفن

حسين مردان.. قصائد ومحاكمة

ولد الشاعر حسين مردان في بلدة طويريج "الهندية - محافظة بابل - جنوبي العراق عام 1927". كان والده منتسبا الى سلك الشرطة فتنقل معه حسب مقتضى وظيفته، فعاش حتى الخامسة في مدينة الحلة، ثم انتقل إلى قرية جديدة الشط
- محافظة ديالى. أتم تعليمه الابتدائي في "بعقوبة" وترك المدرسة أثناء دراسته المتوسطة. اتجه إلى بغداد فاشتغل مصححًا ومحررًا في جريدة "الأهالي"، وحكم عليه بالسجن عاماً، بسبب ما نُسب إليه من نشر أشعار إباحية، ثم عاد إلى جريدة "الأهالي"، وبعد إغلاقها أشرف على الصفحة الأدبية في جريدة "الأخبار" ثم في "المستقبل"، ثم عمل محرراً في مجلة ألف باء..
آخر وظائفه كان في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون - قسم الشؤون الثقافية
 
مختارات من شعره
 
لا لن أتوب: وهل يتوب مفكر
حر على قول الحقيقة مجبر
هبني سجنت فلست أول ثائر
يرمى بأعماق السجون ويقبر
هبني شنقت فلست أول مصلح       
أودت بفكرته حبال تذعر
إني لألعن من يعيش ببلده
يعلو الغبي بها ولا يتفجر
****
تهتز من هول اللهيب أضالعي
فكأنما بين الضلوع جهنم
يا من أكاد إذا التقت بعيونها
عيناي يأكلني الحنين الأعظم
ما بال وجهك كالحجارة جامداً
وعلام ثغرك عابس لا يبسم
آمنت بالحب الذي في خافقي
وكفرت بالحسن الذي لا يرحم
****
إن جبيني الخشن كنشارة خشب
لا يحس بعطر الورد
أنا لا أبحث عن الحبَ
لأني لا أعرف الربيع
أعرف الجوع
الجوع الذي يلتصق بنفسي
والجوع الذي يعيش في معدتي
والجوع الذي يدور في رأسي
****
أنت هنا فوق الصخر
فاذهب:
فلم يزل في أعماق الغابات المظلمة
كهف لم يُكتشف بعد.
هناك تستطيع ان تخلع قناعك
وتفهم لغة الصمت
وعلى ضوء هلال أخضر
سيأتي صوت قدميها،،
يخفق فوق النسيم.
****
ما كنت أؤمن بالنضال وحقه
لولا بقية زمرة لا تقهر
ويل لشعب لا يثور إذا رأى
هذا التراب يدوسه مستعمر
ويل لشعب قد أهين ولم يزل
يخشى سياط الحاكمين ويؤمر
أنظل نحلم بالسماء ولونها
وأنوفنا في الطين قبرا تحفر
أنظل نوصم بالخنوع وأينما
درنا نرى شعبا يثور ويبهر
أنظل ننتظر القضاء وكلنا
يدري بان المجد حلم احمر
****
سأتركُ الحبَ إلى حينٍ
إلى أن نجد العسلَ لكلِ طفلٍ
وعندئذٍ سأعود
الى حبيبتي الجميلة كقنديل من ماس
وإلى جسمها القهوائي
****
خطوة.. خطوتان..
عشرة.. مائة..
إلى أين؟
ليس هناك مكان معين..
المساء لحاف خلق،
يتمدد على جبهة الأفق.
لكم هو حزين هذا اللون الرمادي الباهت!
خطوة.
ورفع أحدهم يده بالتحية..
من يكون؟
وتلفت إلى الوراء..
إنه لم يشاهد مثل هذا القالب.
هذا الشكل المفرطح!
هذا.. ما أثقل المساء!..
 
 
********
عن محاكمة الشاعر وقرار المحكمة
المحاكمة
 
"
في اليوم السادس والعشرين من حزيران 1950 ، عقدت محكمة جزاء بغداد الأولى جلستها الأولى لمحاكمة الشاعر حسين مردان عن ديوان "قصائد عارية"، وقد تقاطر عدد كبير من الأدباء الشباب إلى ساحة المحكمة لمتابعة المحاكمة.
توجه الحاكم الى المتهم ببعض الأسئلة، وتولى الشاعر الرد عليها، وكان بينها سؤال عن سر تسمية الشاعر لديوانه "قصائد عارية". وقد رد على ذلك بقوله: إن الشاعر يجب أن يكون صريحا في تعبيره عمّا يختلج في نفسه. "ولم أتوخّ َ في قصائدي إلا إظهار الحقائق عارية ليتبينها الناس". ثم توجه الحاكم بسؤال عما إذا كان في الأدب العربي القديم صراحة في مثل هذا الموضوع . فعدد له المتهم بعض الأمثلة ، ثم اُجـِّـلتْ المحاكمة. وفي الجلسة الثانية استمعت المحكمة الى دفاع وكيل الشاعر المحامي صفاء الا ُورفلي:
 
الدفاع
 
سعادة حاكم جزاء بغداد المحترم
سيق موَكّلي حسين مردان الى محكمتكم الموقّرة وفق المادة 204 ق . ع. ب ، وذلك لنشره قصائد نشرت تحت اسم قصائد عارية . إنّ فعل موكلي لا ينطبق على نص المادة 204 وذلك لأن ما نشره موكلي ليس مخلا بالآداب، وليس القصد منه نشر اُمور مخلّة بالآداب بين الناس. إن موكّلي رجل أديب، ولكل أديب طابعه الخاص. فهناك من يريد نشر الفضيلة بذكر ماهية الفضيلة، وهناك من يرى أن نشر الفضيلة قد يكون بالتطرق إلى الرذيلة. وأمامنا قصة مدام بوفاري لمؤلفها الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير، فقد اُثيرت هذه القضية أمام القضاء، وادعى الإدعاء العام على إنها قصة قصد مؤلفها عرض الرذيلة. إلا أن القضاء العادل لم يأخذ بهذا الرأي واُفرج عن المؤلف لسببين .
1
ـ حسن نية المؤلف والناشر.
2
ـ اعتبرت المحكمة نشر هذه الآراء وسيلة لـتـُفهم الناس معنى الفضيلة .
إن الأدب المكشوف فن كبقية الفنون ، ولو لم يكن كذلك لما وجدناه يُدرّس في كلية الآداب للذكور والإناث على السواء، ولما وجدنا كتب الأدب العربي التي تُدرّس في مدارسنا تتطرق إليه، وتذكر نماذج منه، ولما وجدنا في مكتبات العالم وفي مكتباتنا العامة دواوين شعراء الأدب المكشوف...
قلت: إن الأدب المكشوف فن، كما ان فن النحت فن، وفن التصوير فن. وإننا لنجد في أسواق العراق وكل أسواق العالم والبيوتات الراقية في العراق وغير العراق من أنحاء العالم تماثيل عارية لأجسام عارية، نحتها أو رسمها نحّاتون عالميون. فإذا كان في كل ما ذكرت مخالفة للآداب العامة فليتفضل الإدعاء العام ويسق أساتذة المدارس ووزارة المعارف ومَن عرض في محله التجاري تماثيل أو صورا عارية وفق المادة 204 من قانون العقوبات البغدادي. ولنترك الأدب والفن قليلا ونتصفح كتب علم النفس الجنائي التي تتطرق الى الأمراض النفسية، الجنسية منها وغير الجنسية، نرَ مافيها من أمثال واقعية عن المصابين بالشذوذ الجنسي ، ذكرت بصراحة متناهية. فهل تعتبر مثل هذه الكتب مخالفة للآداب ...؟.
إن هذه الكتب درسناها وتدرس لحد الآن ، ولا تخلو مكتبة مفيدة من بعضها . فهل نشر هذه الكتب وبيعها ينطبق عليه نص المادة 204 من ق . ع. ب ؟
إني متأكد من أن الجواب على كلّ ذلك لا يكون بالنفي. وأعتقد بأن سعادة ممثل القضاء العادل يشاركني الرأي. وإني لا أرى فرقا بين نشر قصائد الأدب المكشوف وبين نشر كتب علم النفس التي فيها أمثال كثيرة عن الشذوذ الجنسي. فالأدب المكشوف فن من الفنون، وعلم النفس علم من العلوم، وليس في نشر الأدب المكشوف ، كما ليس فيما كُتب من كتب علم النفس، تحريض على الفسق والفجور، وخصوصا والجريمة تنتفي مادام القصد الجنائي الذي هو تحريض الناس على الفسق والفجور بنشر امور مخلّة بالآداب معدوما ً. والأدب المكشوف ليس بجديد، فلو رجعنا مئآت السنين الى الوراء لو جدنا كتبا وقصائد ظهرت في زمن ازدهار الإسلام، في زمن كان للدين سطوته، ومع ذلك لم يقتص قضاة ذلك العهد من الشعراء الذين نظموا في الشعر المكشوف بل كان خلفاء ذلك العهد يتذوقون مثل تلك القصائد، ويكرمون الشعراء من أجلها . هذا في الماضي، أما في وقتنا الحاضر فلو تجولنا في الأسواق لوجدنا الكثير من الكتب الحديثة التي فيها من الأدب المكشوف أكثر مما ذهب اليه موكّلي في قصائده . وهذ الكتب منها اللبنانية والمصرية والعراقية ،كديوان أفاعي الفردوس للشاعر الياس أبو شبكة الذي اُعيد طبعه سنة 1948، وديوان أغاريد الربيع للشاعر فؤآد بليبل الذي أجازت مديرية الدعاية العامة دخولها الى العراق وبيعها في الأسواق وكذلك نجد في ديوان الرصافي والزهاوي مثل هذا النوع من الشعر .
إن الأدب المكشوف نوع من الأدب الراقي، فاذا كانت القصيدة من نوع الأدب المكشوف فلا يعني كون تلك القصيدة مخالفة للآداب ، ولا يعني أن نشرها وتوزيعها يقصد منه نشر الرذيلة بين الناس. إن موكلي أراد أن يفهم الناس ماهية الرذيلة ، فللرذيلة ستار برّاق يجلب من كانت تجاربه في الحياة قليلة، واطلاعه على الرذيلة إطّلاعا محدودا. فمتى ما اطلع قليل الدراية على مثل هذه القصائد التي صوّرت الرذيلة كما هي بصراحة متناهية، كاشفة الستار الجذاب عنها اشمأزت نفسه منها، وتمسّك بالفضيلة، وهذا ما قصده موكلي من نشر هذا الديوان موضوع الدعو?. فما أراده موكلي من نشر هذه القصائد ليس نشر أمور مخلة بالآداب بل أراد محاربة الرذيلة عن طريق الرذيلة ذاتها . وقد يكون دواء الداء من نفس الداء . وعقده في ذلك كمثل الأستاذ الذي يؤلف كتابا في الشذوذ الجنسي، فليس ذلك المؤلف يريد بكتابه التحريض على ارتكاب جرائم الشذوذ الجنسي إنما يريد خدمة العلم . وموكلي أراد من ديوانه خدمة الأدب العربي والمجتمع. واضيف على ذلك مناقشة ناحيتين مهمتين: الأولى خاصة بالدستور ونصّه على أن دين الدولة هو الإسلام ، فبالرغم من هذا النص ، فإن المشرّع العراقي إجاز للمصلحة العامة اُمورا تخالف أحكام الدين الإسلامي كبيع الخمر والبغاء العلني. والناحية الثانية هي: هل يجوز للأديب أن يكتب ما يُعَد تخطيا ً لحدود المستوى العام العقلي للمجموع؟ وجوابه أن الأديب يكتب للمجموع الحالي كمنقذ ومفكر، وقد يسبق عصره بقرون . وما عالم الأدب بخاف ٍ على سعادة ممثل القضاء العادل .
لهذا أطلب من محكمتكم الموقـّـرة الإفراج عن موكّلي.
المحامي السيد صفاء الاورفلي
 
بعد ذلك قرر الحاكم أن تلتجيء المحكمة الى لجنة أدبية من كبار أدباء العراق لغرض دراسة الديوان وتقديم تقرير عنه قبل صدور القرار. وفي اليوم التاسع من شهر تموز عام 1950 ، عقدت المحكمة جلستها الثالثة، وبعد تلاوة قرار اللجنة الأدبية قررت المحكمة الإفراج عن الشاعر وديوانه.