ادب وفن

لقاء الرفيق رائد فهمي مع نخبة من مثقفي ومبدعي مدينة الناصرية

طريق الشعب  
تحت عنوان: "دور المثقف في الظروف الراهنة"، عقد لقاء للرفيق رائد فهمي نائب سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي مع تجمع من مثقفي مدينة الناصرية. وجرى اللقاء الجمعة الماضية على قاعة مقر اللجنة المحلية للحزب في محافظة ذي قار.
في بداية  اللقاء، قدم الرفيق فهمي مداخلة تناول فيها التحديات الكبيرة التي تواجه بلادنا اليوم وهي تمر في مرحلة وظروف تهدد كيانها ووحدة نسيجها المجتمعي، والسلم الأهلي والتعايش واللحمة بين الأطياف المتنوعة التي تؤلف الشعب العراقي. وأشار ان المخاطر الداهمة، وفي المقام الأول الهجمة الإرهابية الدموية التي تقوم بها "داعش" ومن يناصرها من قوى إرهابية أخرى، تستهدف العراق وشعبه لا في حاضره مستقبله وحسب، بل وفي ماضيه أيضاً بتدميرها لموروثه الحضاري والثقافي. وهذا ما يجعل المواجهة مع داعش والإرهاب بصورة أعم، لا تنحصر في الجوانب العسكرية والسياسية، وإنما عليها أن تتصدى الى ما يعيد إنتاجها وتمنع ظهور تشكيلات وحركات مشابهة تحت مسميات أخرى.
فداعش ومثيلاتها لم تظهر من دون وجود حواضن لها، بشرية وسياسية، وكذلك فكرية أيديولوجية وثقافية، وان المواجهة في المجال الفكري الثقافي والأيديولوجي لا تقل ضراوة عن المجابهة العسكرية، وهي أطول أمداً وميادينها تتعدى الكلمة والكتاب والنص. فالثقافة كما خلصت التعريفات الحديثة تعني نمط حياة الشعب أو المجموع البشرية، بما يشتمل عليه من أفكار ومعتقدات وآداب سلوك وأخلاق وعلوم وفنون وآداب وأشكال الملبس وأنواع المأكل والذوق والقيم الجمالية، وما إلى ذلك مما يتعلق بجوانب حياة الشعوب والإنسان.
 ويمثل المنجز الثقافي للشعوب ثروة لا تقل أهمية، عن الثروات الطبيعية التي تمتلكها، بل وتفوقها. وتظهر العقود الأخيرة إن البلدان الأسرع تطورا هي تلك التي تولي الاهتمام الأكبر لتنمية رأسمالها البشري عبر الاستثمار في نظامها التعليمي والتربوي، وخلق بيئة مؤاتية ومشجعة للتفتح الفكري وللابتكار والإبداع. ولنا في تجارب اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها أمثلة مثيرة للاعجاب.
وتوقف الرفيق فهمي عند الأوضاع في العراق خلال العقود الاخيرة، وما شهدت من تراجع ونكوص على المستويات المختلفة التي يشملها البعد الثقافي. فبعد أن كان العراق يصنف ضمن مجموعة البلدان المرشحة للانطلاق نحو التطور المتسارع واللحاق بالدول المتقدمة، الى جانب كوريا الجنوبية وبعض دول جنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية، تراجعت مكانته وتخلف اقتصاديا واجتماعيا بسبب الحروب العبثية المدمرة، وسياسات الدكتاتورية والحصار الاقتصادي الدولي والاحتلال، وسياسات نظام المحاصصة بعد التغيير. فقد أدت كل هذه العوامل وتداعياتها إلى أن تتسرب إلى خارج العراق أعداد كبيرة من حملة الفكر والثقافة والمعرفة والخبرة وأصحاب الاختصاص. وهذا يمثل تفريطا بالرأسمال البشري أقدمت عليه الأنظمة المتعاقبة في السابق ولا يزال مستمراً.
 وعلى الصعيد الداخلي، انكفأت الثقافة وسادت أفكار الانغلاق  والتطرف وانتشر العنف بجميع أشكاله ، المادي والرمزي، ويكاد أن يصبح ثقافة. كما ادت هذه التطورات على المستوى الداخلي وما رافقها من تفكك وتداعي للدولة وضعف في تأدية وظائفها الأساسية في حفظ الأمن وتأمين الخدمات العامة، الى انحسار مشاعر الانتماء للهوية الوطنية الجامعة  لصالح الهويات الفرعية والثانوية، الدينية والمذهبية والقومية والعشائرية والمناطقية، وجاء نظام المحاصصة الطائفية والاثنية ليجعل من هذه الهويات مرتكزا للنظام السياسي ومؤسساته على حساب مبدأ المواطنة.
وفي هذه المواجهة الصعبة يمتلك العراق الإمكانات اللازمة لخوض المعركة في الاتجاه الصحيح وبحيث يكون للمثقف دور مهم في ذلك. والمقصود بالمثقف  كل من يمتلك قدرة واداوت للتعبير عن الأفكار والمفاهيم وصياغتها ونشرها، كما يمتلك رصيدا معرفيا وثقافيا ووعيا اجتماعيا متقدما وحاملا لقيم انسانية واجتماعية رفيعة، كقيم احترام الآخر المختلف والتنوع والتسامح والتآخي، التي تؤهله ليمارس دورا مؤثرا في المجتمع ويساهم في عملية تغييره نحو الأفضل.  والمثقف بهذا المفهوم اشمل من المتعلم، وقد يكون اديبا أو فنانا أو عالما أو سياسيا أو رجل دين متنورا، وهذا التوصيف يسري بالطبع على المرأة المثقفة
ان بلادنا تتعرض إلى هذه المخاطر والدولة تعيش أزمة  تتمثل في  عجزها حتى الآن عن تحقيق الأمن والاستقرار والاعمار وتوفير الخدمات العامة والنهوض بالاقتصاد الوطني. فمنذ التغيير سنة 2003 تكرس الطابع الريعي للاقتصاد العراقي، وامتد تأثير الريع على المجتمع ليصبح هو ايضا ريعيا ، بمعنى انه يحمل ثقافة ريعية بعيدة عن قيم وسلوك الانتاج، وتسوده قيم وسلوكيات الاستهلاك والربح السريع والاهتمام بالمظهر من دون الجوهر. ويمكن اعتبار الفساد بجميع أشكاله جزءاً من هذه المنظومة الثقافية والسلوكية الريعية. ويثير هذا الوضع  تساؤلاً  عن مدى الشرعية المجتمعية لسلطة تسيطر على الريع وتوزيعه، وتمتلك أغلبية انتخابية، ولكنها تعجز عن أداء وظائفها الرئيسية وتوفير الخدمات الأساسية لنسبة كبيرة من المواطنين، وينخر الفساد في أجهزتها.
ان التحديات في المجال الثقافي تضع مسؤولية اساسية على المثقفين لينشطوا دورهم في رفع الوعي الاجتماعي، واحياء واستحضار وتفعيل الرصيد الثقافي التاريخي في هذا الشأن. ومن جانب آخر تبرز ضرورة تطوير البنى التحتية للثقافة من مسارح ودور سينما ومنتديات، لان البيئة المتخلفة الخالية من هذه الصروح الثقافية تخلق تربة خصبة لنمو وانتشار الفكر الظلامي المتطرف، الذي تروج له منظمات ارهابية او قريبة منها والذي يستطيع أن يجذب إليه الشباب غير الواعي.
 واشار الرفيق رائد فهمي الى ان الحرب مع داعش لها افقان، فاما ان يخرج العراق منها موحدا قويا، او ينتهي مجزءا ضعيفا. وان من يدعو لاقامة الاقاليم بعقلية الهويات المعروفة حاليا، يشكل عبئا على الادارة الافضل للموارد.
وخلص فهمي إلى "اننا نواجه تحدياً ثقافياً جسيماً وان المعركة مع الفكر الذي اتى بداعش طويلة وهي بحاجة لكل العقول المتفتحة.
بعد ذلك فتح باب المداخلات للحضور، فاثيرت اسئلة حول آليات اعادة المثقف الى الواقع، وعن مكمن دور المثقف حاليا في ضوء  تعامل قسم من المثقفين مع المعطيات بشكل خجول، وعن كيفية العودة الى هوية المواطنة.
وتوقف بعض المداخلات عند الواقع السياسي الراهن ونظام المحاصصة الطائفية والأثنية وتأثيره على الواقع الثقافي وعلى الوعي الاجتماعي، لا سيما عند ممارسات تزييف الوعي وتغييب العقل.
 وأجمل الرفيق فهمي اجابته الشاملة على المداخلات بالتساؤل عمّا ينبغي عمله، وبيّن انه رغم تعقيدات الأوضاع توجد في العراق مساحات واسعة لحرية التعبير، وهي تتعرض إلى محاولات لتضييقها، علما ان هذه الحريات الدستورية تعتبر من أهم، إن لم تكن أهم منجز للوضع الذي نشأ بعد التغيير. ويتيح ذلك الفرصة لاقامة نشاطات وفعاليات ثقافية وتوعوية مختلفة.
واشار الى ضرورة قيام المثقفين بتحديد اولوياتهم وتعميم بعض الحالات الايجابية،  كتجربة شارع المتنبي، في المحافظات. وفي معرض اجابته وتعليقه على بعض الأسئلة والمداخلات حول مواقف الحزب السياسية، أكد الرفيق رائد فهمي موقف الحزب الواضح من العملية السياسية رغم عدم موافقته على طريقة ازاحة النظام. وبعد سقوط النظام ونظرا لوجوده اصلا كقوة معارضة ذات علاقات نضالية فقد دخل العملية السياسية وما كانت لدخوله هوية طائفية، وان وجوده بالعملية السياسية ومشاركته فيها تنطلق من اعتباره لها ميدانا للنضال والعمل من أجل دفعها في الاتجاهات السليمة التي تنسجم مع مشروعه الوطني الديمقراطي. وتهدف المشاركة إلى التأثير في القرار، وهو ما  فعله الحزب ولا زال  فيما هو يعمل على معارضة نظام المحاصصة وتبني قوانين تدعو الى اقامة الدولة المدنية من خلال البناء السليم  لمؤسسات دولة وطنية وتعليم متطور وجيش وطني،  وتكريس وتوطيد البناء الديمقراطي ومؤسساته. كما ينسحب ذلك على سعيه في مختلف ميادين نشاط الدولة التنفيذي والتشريعي.
وقال للحزب والقوى المدنية الديمقراطية مشروعاً بديلاً متبلوراً ينبغي إيصاله إلى أوسع القطاعات الشعبية، والتفاعل مع أفكارها وآرائها ومطالبها. وثمة أفق مفتوح يجب الاستفادة منه باستغلال كل الامكانات الفكرية والثقافية والموارد البشرية المتاحة. واشار الى ان الازمات تخلق ظروفاً لانتاج وعي عابر للطوائف موحد للجهود.
وفيما يتعلق بالعلاقة مع اقليم كردستان،  اكد الرفيق رائد فهمي حاجة الاقليم الى العراق وحاجه العراق الى الاقليم، وان الخلافات يجب ان تعالج بهدوء وتفاهم على الحقوق وأن يتم ذلك في اطر ديمقراطية وحوارية.