ادب وفن

الترجمة.. تفاعل وتواصل وانفتاح على الآخر / جواد وادي

إن المنجزات الفكرية والمعرفية والإبداعية في شتى صنوف الجهد الإنساني من بحوث ودراسات واختراعات وإبداعات بأجناسها المختلفة، كلها تعتبر قاصرة وليست ذات نفع معرفي إن لم تكن على وفاق تام مع الفعل الإنساني الكوني في التواصل والانفتاح على الحضارات الإنسانية بكل مشاربها ومكوناتها لتحقق أهدافها المعرفية، وهذا لا يتأتى بيسر إن لم تلعب الترجمة دورا محوريا في التفاعل الحضاري مع ثقافات شعوب وأمم بتعدد لغاتها وألسنتها وأفكارها ونظرتها للحياة.
من هنا تعتبر الترجمة ذات أهمية قصوى إذا ما أردنا أن نحقق لانتمائنا الجغرافي والسوسيوثقافي هوية متفردة ومتفاعلة مع الآخر من حيث الإضافات النوعية في الراهن الثقافي والعلمي لكل مجتمع يسعى لتأسيس مميز لهويته الوطنية،
إن للترجمة حظوة كبيرة واهتماما لا حدود له في البلدان المتحضرة لوعيها بأهمية الترجمة بتوظيف اللغة الوسيطة التي تعتبر القنطرة للوصول لضفة الثقافات والإنجازات الإنسانية في عالمنا الراهن الذي لعبت التكنولوجيا دورا كبيرا ومتسارعا وخطيرا أيضا في تقريب هذه الثقافات، وبالتالي الانفتاح الكلي لساكنة المعمورة بعضها على البعض الآخر، الأمر الذي بات من اللازم أن يكون التلاقح الثقافي والفكري والسياسي والمعرفي وسواها من أركان الفعل الإنساني اليومي وما يبذله الساعون لتحقيق الإنجازات والابتكارات العلمية والمعرفية وعلى جميع الأصعدة، من علماء ومثقفين ومفكرين وساسة وأكاديميين، هدفا أسمى وضرورة ملحة لقراءة ما يدور وفهم ما يجري والوقوف على ما يحدث من جهد إنساني تنويري يعود بالنفع العميم لسائر شعوب الأرض، يتضح هنا الدور الإنساني والريادي لأهمية الترجمة وهذا هو ديدن الشعوب المتحضرة والناهضة التي تحترم انتماءاتها ومنجزها وفكرها لتمد جسور التواصل مع الآخر في أصقاع الكون، لأن التفاعل الفكري الذي تحققه الترجمة بقوة هو الذي يقرب المسافات ويحقق قفزات نوعية وإنجازات لا مثيل لها تحقق التكامل المعرفي في شتى صنوف المعرفة الإنسانية وبكل مشاربها وفعلها لتخدم الإنسان الذي يعتبر عند هذه الشعوب والحكومات، هو أثمن رأسمال وطني إذا ما أريد لدولة ما النهوض بقوة وتحقيق قفزات نوعية وفي شتى الحقول المعرفية والإبداعية، لتعود بالفائدة للجميع، دونما اعتبار للأرض والجنس والقارة والجغرافيا والمعتقد وغيرها.
هنا يدفعنا هذا الهم لجغرافية وطننا العربي الثقافية الذي يعيش وللأسف الشديد حالة من الركود وضعف الاهتمام بالترجمة الأمر الذي يبقى الحالة الثقافية في ركود وحصار وتشرذم دونما بذل أدنى مجهود لاعتبار الترجمة منهلا فكريا يضاف للمنجز العربي ويحقق نقلة نوعية وحافزا مهما للمبدع والقارئ على حد سواء. ذلك أن الترجمة تأتي في ذيل اهتماماتهم وعدم السعي بنظرة حضارية متجددة وفاعلة وخطيرة للخروج من شرنقة المحلي والاستشراف على المنجز الكوني، والسبب الرئيسي يعود للجهل المطبق للقائمين على الثقافة والعلوم والتربية وتفشي القصور الثقافي الواضح في هذا المجال، وعدم اعتبار الترجمة من أهم مناحي المعرفة الإنسانية إن لم تكن من أخطرها، لأن إدارة الظهر لأهمية الترجمة وما تحققه من منافع كبرى، يعتبر بحد ذاته عماء حقيقيا وسمة متخلفة واضحة لكل من له علاقة وسطوة في الفعل الثقافي والفكري، وبالتالي نلاحظ هذا التخلف الكبير في انجازاتنا الثقافية وعدم وصول ما يحققه المشهد الفكري من إنجازات هامة ليكون في خدمة الباحث والقارئ والمفكر الأجنبي، وبالعكس، بشكل تفاعلي متبادل لتسهيل مهمة المتابع العربي للمنجز الإنساني، وهذه المهمة لا توفرها وتسهل فعلها إلا الترجمة.
إن إيلاء الأهمية للغات الأجنبية وخصوصا الرئيسية منها "الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الألمانية وغيرها" في المدارس والمعاهد والكليات وتأسيس مجامع لغوية وتشجيع حركة الترجمة ورصد ميزانية كافية لترجمة الكتب والدوريات والمجلات المتخصصة والمعاجم اللغوية وغيرها من وإلى اللغة العربية، وتقديم الدعم اللازم، ماديا ومعنويا للمشتغلين في الترجمة والتركيز على الجانب الإعلامي المقروء والمسموع والمرئي، وتنشيط التفاعل التواصلي عبر وسائل الاتصال الحديثة لتسهيل مهمة المتابع والباحث والأكاديمي والمبدع للإنجازات الفكرية والعلمية والثقافية وغيرها، والأهم من كل ذلك عقد الندوات والملتقيات العربية المختصة بالترجمة لتبادل التجارب والمعارف والأفكار والوصول لأحدث وأنجع الصيغ وإرسال المتخصصين والمتفرغين للترجمة في بعثات للوقوف على آخر ما توصل إليه السعي الحثيث لتطوير أدوات العمل في هذا المجال الحيوي للغاية.
إلى الآن لم يتحقق ما يصبو إليه الباحث والمفكر والمبدع العربي وللأسف لتحقيق التفاعل التكاملي بين الثقافة العربية وثقافات شعوب وأمم أخرى، وكم سعى المهتمون لتنبيه القيمين على الثقافة، وزارات وجمعيات ومنتديات وغيرها لخطورة هذا الأمر، لكن لا عيناً ترى ولا أذناً تسمع، ولا إحساساً يشتغل، آملين أن تتضافر الجهود الخيرة للأخذ بيد التجارب المميزة وتشجيعها لتحقق إنجازات ما أحوجنا نحن الساعين للخروج من بيضة المحلي إلى حيث الثقافة الكونية، لنذلل الكثير من الصعوبات والمعوقات والتراجع السوسيوثقاقي والتربوي والفكري والذي نحصد الآن سيئاته وتغييبه وتراجعه بسبب عدم إيلاء الترجمة والانفتاح على تجارب الشعوب الأخرى ما تستحق من رعاية واهتمام يعود يقينا بالنفع العميم لمجتمعاتنا المبتلية بالتخلف والتطرف والإرهاب وتغييب الآخر وتصفية الحساب مع ثقافات ومعتقدات شعوب وأمم أخرى، نحن بأمس الحاجة لها لنعيش حقا في ألفية ثالثة خالية من التطرف والإرهاب ومشاريع الفتك بالآخر، ليتحقق السلم الاجتماعي والكوني وهذا ما تطمح إليه جميع الشعوب المحبة للسلام والخير والتساكن بعضها مع البعض الآخر، رغم بعد المسافات وتعدد الأصقاع، والترجمة هي القنطرة الحقيقية للانتقال للضفة الأخرى جنبا إلى جنب مع بقية الجهود الفاعلة الساعية لمعالجة المثالب الحياتية في مفاصل حياتنا اليومية والتي تجلب الكوارث الحقيقية في التنمية البشرية للأجيال الناهضة، إذا ما أردنا وضع الحلول الناجعة للتخلص من هذه الانحرافات الكارثية والتي تسبب الخراب للجميع.