ادب وفن

مراسيم خاصة -5- المناورة / مزهر بن مدلول

سأضيئ المصابيح فوق هذا المكان الذي غمرتنا الظلمة فيه!، سوف أعيد لحظة الخلود الى ذلك الحجر الاحمر الذي كتبنا عليه حروف حريتنا، سأجعل الكلمات اجسادا تحتفلُ وترقص على انغام اوركسترا قلبك الشجي ياصديقي!، لابدّ ان يسمع الآخرون صدى شعورك بالافتقاد حين تفجر في اعماق الهاوية يا(ابو اصطيف)!.
قبل ايام، شعر البعض منّا، بأنّ صمت الجبل مرهق وقاتل لشباب كانت بالأمس القريب كلّ موهبتهم الفرح والمرح والكلام، فأجتهدوا في ترتيب الفوضى، ودخلوا الى المسرح من بابه الساخر!، كان المخرج النصير (صباح المندلاوي) والممثلون كثر، اذكرُ منهم، الفقيد ابو اصطيف وابو اسيل وابو عواطف وابو عبلة ومازن (ازاد) وابو هادي واخرين، ولا اتذكر العنوان، لكننا كنا بلا خشبة ولا مكياج ولا لباس مسرحي، ورغم فشلنا في تقديم المسرحية، لكنّ التمارين كات عبارة عن حفلات ضحك متصل، واكثر ما يدفعنا اليه، هو دور النصير (ابو اسيل)، فهذا الرجل الذي اختصاصه قانون ويعمل قاضيا في الانصار، لا توحي ملامح وجهه بأية علامة من علامات الفن والتمثيل، وكان كلما نطق بجملة، تأخذنا موجة من القهقهات، تبطحنا على الارض، وتجعلنا خارج السيطرة الى الحد الذي لانعود فيه الى التمرين ثانية، وكان الفقيد (ابو اصطيف) اجمل منّا في تندره ودعابته، كانت كلّ ضحكة من ضحكاته عبارة عن كوب ماء عذب لكلّ نصير مقطوع وتائه وظمآن.
وها هو اليوم، يتقدمنا في الهجوم على العدو الوهمي، الذي افترضناه قادما من جهة الوادي المقابلة، قاع الوادي سحيقة، وكثيفة الاشجار والصخور، ولايمكن النزول اليها، وضفتاه يبتعدان عن بعضهما بمسافة طلقة كلاشنكوف!، توزعنا على شكل مجاميع صغيرة، وسيطرنا على القمم المهمة المشرفة على الوادي، وقطعنا الطرق المؤدية الى مقراتنا، وحددنا ايضا موقعا مناسبا للمدفعية، وكان (ابو اصطيف) يلهب فينا الحماس، معنوياته وانفعالاته كعطر فواح في زنزانة ضيقة!، وصرخاته كالرعد المتمادي في سماء معتمة (ها خوتي ها)!.
بدأتْ المناورة، وراح الرصاص يئزّ من كلّ صوب وناحية، كل مجموعة اتخذت لها هدفا توجه نيرانها نحوه، اما في الجانب الآخر من الوادي، فقد توقفت الحركة تماما، وساد المنطقة صمت مستفز اثارَ الغيض والغضب في نفوس الانصار، فهل ترك الاعداء معسكراتهم وولوا هاربين؟ ام تراهم سخروا من قدرتنا على الوصول اليهم!؟، ام انّ المكان خالٍ من الاعداء اصلا!؟، لكنّ المجموعة التي تقطع الطريق الذي ينحدر من القمة ويتجه الى المقر، كانت تطلق النار بغزارة، واصواتهم تتعالى وكأنّ اختراقا ما حصل في جبهتهم!، لقد شاهدوا رجلا يتوكأ على عصاه ويهبط السفح بأتجاه المكان الذي يكمنون فيه، وما ان وصل الى النقطة التي يجب ان يتوقف فيها، حتى تصدى له الانصار بوابل من الرصاص واضطروه ان يلتصق بالارض ويختبئ وراء حجر كبير وهو يصرخ بأعلى صوته (نه م كوزن ، من جاش نيم، نه دزمنتان ، ئم بي جه كم، هيوادارم ته قه نه كه ن)، لاتقتلوني انا لست من الجاش، ارجوكم لاتطلقو النار....الخ!، لكنّ افراد هذه المجموعة لايجيدون اللغة الكردية، ولايسمعون ما يقوله الرجل، وكان واجبهم هو منع تسلل العدو من هذا المكان الذي يحرسونه!، وعندما ساد بعض الهرج وشعر به الاخرون، هرعوا الى المكان وانقذوا القروي من موت وشيك!.
في هذه المناورة، كنتُ مع النصير (ابو زويا) نتولى مهمة الرماية بالمدفعية، لم يكن معنا من يرصد ويستكشف، وليس في مجموعتنا كلها من له دراية بهذا السلاح الثقيل، وعلى الرغم من اني استخدمته في معارك (قنديل) واطلقت قذائف كثيرة مع النصير (ازاد بهديني) الذي كان يعطيني الاحداثيات، لكن هذه المرة لم ننجح في مشاركة الاخرين بتنفيذ الخطة كما هو مطلوب، فما ان وضعنا القذيفة في المدفع حتى أبتْ ان تنطلق، ورحنا انا وابو زويا نضرب اخماس باسداس!، ( وبعد صفنات واقتراحات وكَول بسم اللة الرحمن الرحيم، وحاطين ادينا على كَلوبنا، يلا طلعت القذيفة)، ولكن بعد فوات الاوان، حيث زمن المناورة انتهى، فخاب أملي وشعرت كأنّ احدا ركلني في مؤخرتي!، بينما ابو اصطيف، جاء يمشي متمايلا.. مزهوا وضاحكا كما لو انه عائدا من رحلة طويلة ممتعة.. همس في اذني:
الليلة نسهر!.
كل الانصار يشعرون بأنهم ولدوا يتامى، لكنّ البعض منهم كان شعوره باليتم كشعور (كافكا) به، تطارده الوحشة، وينهمر عليه الاحساس بأنّ الزمن فقدَ معناه في هذه الوديان المعتمة!، فلا شيء يُضئ الروح ولا رائحة انفاس تطرد الوساوس، ووحدهُ الحنين الى الاهل والامهات يطلّ في كل لحظة على شرفات عزلتنا الجبلية.
اخذنا (ابو اصطيف) قبل منتصف الليل بقليل الى اعلى السفح، كنّا اربعة من اليتامى الحقيقيين، وكان علينا ان نمشي بحذر شديد، فهذه الحفلة المحظورة يجب ان لا يعرف بها سوى صديقنا الحرس الذي ظلّ يراقب الاجواء.
وصلنا الى المكان الذي يعرفه (ابو اصطيف)، ازاح عنه التراب بأظافره، فظهرت (تنكة دهن الراعي)!، ولمّا فتح غطاءها وسلّط عليها ضوء اللايت، شاهدنا وقد امتلا نصفها بسائل ثقيل تطفوعلى سطحه فقاعات بألوان واشكال غريبة، كانت تشبه اكواما ميتة من (الخنفسان والدود والصراصير)!، لكنّ المغامرة تقتضي ان تغلق عينيك، وتنتظر حتى يأتي الدبيب اللذيد محملا بالعوالم البراقة البهية المتخيلة، يأتي بها الينا من بعيد، من الحياة الواسعة المفتوحة التي تبعد عنّا مئات القرون!.
كنّا مبتهجين في تلك السهرة، متأهبين للانفصال عن العالم الذي حولنا، وكان (ابو اصطيف) يتوسطنا ويتكلم بلغة العرّاف والمستبصر المطمئن!، ولكن بعد طول انتظار، لم نصل الى حالة الأمتلاء الروحي التي توقعناها، وبالعكس من ذلك، كنّا نشعر بالغثيان والضجر، وبمرور الوقت، بدأتْ معدنا تفرز المرّ، ووقفتْ عاجزة عن هضم هذا الغذاء الجديد!، وهكذا امضينا ليلتنا نفرغ ما في بطوننا احتفاءاً بنجاح المناورة!.