ادب وفن

لقاء خاص مع الشاعر الكردي عبد الله به شيو / حاوره : يوسف أبو الفوز

القصيدة مثل الانسان تنمو وتتطور، لكنها خالدة لا تموت!
(عن مجلة الثقافة الجديدة البغادية العدد 370 تشرين الثاني 2014)
الشاعر عبدالله بە شیو(بَشيو)، يعد واحدا من أشهر الشعراء الكرد المعاصرين، ومن الشعراء المعدودين الذين حافظوا على تقاليد القصيدة الكردية الكلاسيكية الحديثة، التي كتبها بيره ميرد، عبد الله كوران وجكر خوين وغيرهم، ويعد من ابرز الشعراء المطورين والمجددين للشعر الكردي انطلاقا من انفتاحه على الثقافات الاخرى، كالثقافة العربية والروسية والاوربية. ورغم محاولته الابتعاد عن الاضواء، الا ان له حضورا قويا ومؤثرا على الساحة الثقافية في ارجاء مناطق كردستان، الموزعة بين العراق وتركيا وسوريا وايران . عرف شاعرنا بمواقفه الثابتة والثورية الى جانب نضالات شعبه الكردي وشعوب الانسانية، فلم يقف يوما عند باب حاكم، وعرف بعزوفه الدائم عن تقبل دعوة رسمية من أي جهة حاكمة تنشد وده تحسبا لأستغلال اسمه. قصائده الغنائية الرومانسية والسياسية ــ ومنها المسجلة بصوته ــ تنتقل كالمنشورات بين عشاقه من ابناء الشعب الكردي في كل مكان، في ارجاء كردستان وفي المنافي .
ولد شاعرنا عام 1947 في قرية " بیرکوت" في محافظة اربيل، وفيها درس الابتدائية، ثم درس الثانوية في مدينة اربيل . كتب اولى قصائده في اوائل الستينات ونشر اولى قصائده عام 1963 في اربيل، ثم نشر اول ديوان له "عبرات و جراح " عام 1967 في كركوك، ثم اصدر ديوان "الصنم المهشم" عام 1968. كان ديوانه "يوميات شاعر ظامئ" الصادر عام1972 جريئا في أسلوبه وطريقة تناوله للقصيدة بأسلوب متميز وجريء فوجد طريقه الى قلوب عشاق الشعر وخط له مسارا مختلفا عن مجايليه من الشعراء . فی العام نفسە شارك فی المهرجان الاول للشعر الکردی فی مدینە کرکوك بقصیدتە المعروفە " 12 درسا الی الاطفال". هذه القصیدە لم تصدر فی دیوان فی حینها، بل کانت تستنسخ بالید حتى التسعینات من القرن الماضی. فی عام 1973 غادر الى الاتحاد السوفياتي. بعد السنة التحضیریة فی مدینە "فارونیج" بدأ دراستە في معهد "موريس توريس للترجمة" فی موسکو، حيث نال شهادة الماجستير في الترجمة (أنكليزي ـــ روسي) عام 1979، وفي عام 1979 في برلين صدر ديوانه " دروس للأطفال وقصائد ممنوعة " بطبعة محدودة، وصار اساسا لطبعات لاحقة. جمع قصائده التي كتبها خلال سنوات الدراسة في ديوان " أحلم بكم كل ليلة" وصدر في بغداد 1980. ثم نال شهادة الدكتوراه في الادب الكردي عام 1983، من معهد الاستشراق التابع للاکادیمیة السوفیتیة، حیث کتب أطروحتە عن الشاعر الكردي المجدد بيره ميرد . ثم غادر للعمل استاذا للادب المقارن في جامعة طرابلس الليبية وعاد الى موسكو عام 1991 لكنه سرعان ما انتقل وعائلته عام 1995 للاقامة في فنلندا .
هذا اللقاء الخاص، والذي أمتد عبر عدة جلسات، منذ فترة ونحن نهيأ له لكن سفر الشاعر المستمر للمساهمة بنشاطات ثقافية، كان يحول دون أتمامه،وأخيرا تم أنجازه علماً ان الشاعر عبدالله بە شیو(بَشيو) عرف بأبتعاده عن الاضواء والعزوف عن الظهور في وسائل الاعلام ، وقد خص المجلة بمجموعة من قصائده التي تنشر لأول مرة باللغة العربية ، وهي من ترجمته شخصيا ومراجعة الشعراء سعدي يوسف ومحمد عفيف الحسيني :
أين عبد الله به شيو الان ؟
ــ أنا موجود. اقيم جغرافيا في فنلندا، وأقامتي الدائمة في القصيدة مع الهموم الذاتية والوطنية والانسانية. منشغل حاليا بأعداد الطبعة الرابعة لمجلد اعمالي الشعرية بالكردية، وأريدها ان تكون طبعة شبه اكاديمية، بمعنى ترافقها شروحات وهوامش عن الامكنة واسماء الاعلام والاشياء الاخرى، واحرص على تسجيل سیرە حیاە بعض القصائد، اين كتبت، واين القيت او نشرت لاول مرة، وكل ما يخص القصيدة . یلحق بکل مجلد معجم صغیر یضم الكلمات الصعبة لتكون مفهومة من قبل القراء في كل اجزاء كردستان.
 وماذا عن زمن كتابة القصائد، هل أنتقيت القصائد على مراحل زمنية معنية أو ارتباطا بالتجربة الشعرية ؟
ــ انها تمتد على مساحة حياتي الشعرية، من البدايات في اعوام الستينات، وحتى الان . ولكوني اؤمن بأن القصيدة مثل الكائن الانساني، تلد ثم تنمو وتتطور، لكنها تختلف عنه فی العمر. قد تعیش القصیدە زمنا طویلا بعد الشاعر او تسبقه فی الفناء، بل أحیانا تولد القصیدة میتە ! من عادتی ان لا أخجل من "طفولة " قصائدي. تضم المجموعات الکاملة قصائد من اواسط الستینات، يوم كنت " ألهو" بالاوزان والقوافی .
 وماذا عن الطبعات المزيفة ؟
ـ للاسف، لا توجد لدينا في الشرق قوانين لحماية الملكية الفكرية رغم كل ما يقال ويكتب عن ذلك، وقد تعرضت اعمالي المتواضعە للسطو والتحریف باستمرار وصدرت العدید من الطبعات المزيفة. هذه الطبعات اوجعتنی واساءت ألي اکثر من ای شیء اخر. قد تحدثت وكتبت عن هذا مرارا . هل هناك شی اکثر ایلاما من رؤیە فلذات اکبادك ممسوخة، فی أسمال بالیة، ملقاة علێ أرصفە الشوارع ، ولا تستطیع ان تفعل شیئا لانقاذهم؟
 وهل تجد ان الطبعات المزيفة تمت لاغراض منفعة تجارية بحتة ام أن لها اغراضا اخرى،سياسية أو فكرية، اقصد هل تعرضت قصائدك في الطبعات المزيفة للتحريف والتغيير؟
ــ وهذا ما يغيضني قبل كل شيء. فبعض الطبعات المزيفة، خصوصا الصادرة في ايران، كانت تلجأ للتحريف والتحوير واحیانا للتألیف بشكل متقصد، مما اضطرني لنشر العديد من التحذيرات والتنبيهات. رغم شكوكي بنزاهة الطبعات المزيفة، فقد يكون هناك بعض تجار الكتب الذين يلجأون الى استنساخ الاعمال الشعرية وبيعها لاغراض تجارية ربحية بحتة. هذه الطبعات، حتی وان کانت غیر محرفة، الا انها في كل الاحوال طبعات غير قانونية، واغلبها للاسف بحالة بائسة من الناحیة الفنیة، و لو كان بامكاني لجمعتها واحرقتها جميعا. الان، وبعد عودة الامور الی نصابها، اری بان عدم صدور ای دیوان من سنە ١٩٨٠ الی سنە ٢٠٠٠ عندما طبعت دیوان "غرس البروق" فی السوید لعب دورا اساسیا فی کل ذلك. لم تکن لدی الامکانیة المادیة، ولم اکن ــ وما زلت ــ أقبل اية مساعدات مادیة من اية جهة كانت . ان قدری کشاعر وانسان لعب دورا فی ذلك.
نشر مؤخرا في الدوريات الكردية اخبار وتقارير عن زيارتك في شهر آيار الماضي الى مناطق ديار بكر. كيف رأيت اجواء الجولة واصداءها ؟
ــ كانت جولة ناجحة في بعض مدن كردستان الشمالية، حيث زرنا اولا دياربكر ثم تحركنا الى ماردين ثم مدينة باطمان و وان، وكانت الجولة في الفترة من 15 الى 22 من ايار الماضي، شهدت امسيات شعرية عديدة ولقاءات مباشرة مع الجمهور واخرى مثمرة مع الشخصيات الثقافیة من الشعراء والادباء والفنانين وايضا الناشطين السياسين، واستثمرت الجولة كذلك للقيام بزیارە ضریح کبیر الشعراء الکرد احمد خاني فی مدینە بایزید .
 بلغنا انك خلال هذه الجولة، وفي أحد المرات رفضت الصعود للمنصة واكتفيت بالحديث والقاء قصائدك من عند مكانك ؟
ـــ (يضحك) شكرا للمتابعة لتفاصيل الرحلة. نعم، حصل ذلك في مدينة وان، كان هناك جمهور غفير، وايضا حضور بعض مسؤولي المدينة من رجال الدولة، وكانت المنصة الكبيرة العالية، في مقدمة المسرح، تعلوها صورة اتاتورك . فعز عليّ ان أقرأ قصائدي و خلفی صورة کبیرة لاتاتورك، العدو اللدود لشعبی ووطنی. ففضلت البقاء في مكاني بین الجمهور والقاء القصائد .
رافقك في الجولة شعراء ومثقفون كانوا جزءا من برنامج الجولة ؟
ـ في الجولة رافقني بعض الزملاء من مختلف المدن الکردستانیة، وکذلك حضرت الشاعرة والمترجمة الامريكية ماريا لابروسيه، وهي تعمل حاليا استاذة في الجامعة الامريكية في السليمانية، شاركتني أمسیتی فی دیاربکر ، والقت کلمة فی مقدمة الامسیة، ثم القت وبأداء بارع بعض قصائدی المترجمة الی الانجلیزیة. والجدیر بالذکر ان السيدة لابروسیه تعمل على ترجمة مختارات من قصائدي الى اللغة الانكليزية مباشرة عن اللغة الكردية، وأنجزت لحد الان ترجمة عدد کبیر من القصائد ، وفي النية، بعد اتمام انجاز ترجمة عدد كاف من القصائد، ان تصدر باللغة الانكليزية كمجموعة مختارة من قصائدي. واعتقد ان هذه الترجمة هي الترجمة المهنية الاولى لشعري الى اللغة الانكليزية لحد الان .
تعد واحداً من الشعراء الكرد، الذي حضيت نصوصه بأهتمام جيد من المترجمين، فهناك ترجمات عديدة لشعرك الى لغات عدیدة وانت مقيم في فنلندا منذ عام 1995، ماذا عن ترجمة شعرك الى اللغة الفنلندية؟
ــ أنا ، ولسوء الحظ، أفهم، الی حد ما، شؤون الترجمة، لاننی درستها أكاديميا خلال سنوات الدراسة، لذلك لیس من السهل ان أسمی کل ما "نقل" الی اللغات الاخری ترجمة. لا أطیق الترجمة الحرفية ولا التي تنجز عن طریق لغة ثالثة. الترجمة الناجحة هی ما یجعلك جزءا من المکتبة الشعریة للغة المنقول الیها الشعر. یهمنی الهیکل من القصیدة ومکانة کل سطر فی الهیکل العام، بل مکانة کل کلمة وکل صوت فی الکلمة الواحدة. هذه الاسباب چعلتنی حساسا للتراجم الموجودە "عن طریق الصدفة" حالیا. منذ سنين أُنجزت بعض الترجمات المتفرقة لبعض القصائد من شعري الى الفنلندية، نشرت فی بعض الدوریات، وقدمت في الاذاعة الفنلندية وفي بعض المهرجات الثقافية. حالیا أعمل مع الشاعر والمترجم الفنلندی ليفي ليهتو علێ ترجمە مختاراتی الی اللغە الفنلندیة .
 وماذا عن مشروع المختارات المترجمة الى اللغة العربية؟
ــ الطبعة العربیة فی غایە الاهمیە بالنسبة لی. قام العديد من الزملاء الشعراء والمترجمين بترجمة الكثير من قصائدي الى اللغة العربية منذ السبعینات من القرن الماضی. قمت في السنوات الاخيرة بجمع هذه القصائد المترجمة ومراجعتها من جديد بالتنسيق مع مترجميها، وهناك قصائد وجدت من الضروري ان تترجم من جديد، فقمت بترجمتها بنفسي (الترجمة الحرفیة) وقام بمراجعتها بعض الاخوة من الشعراء العرب والکرد، کالصدیق الشاعر سعدی یوسف و محمد عفیف الحسینی واخرين. ويمكن القول الان ان مخطوط مختارات شعرية باللغة العربية شبه جاهز لدفعه للنشر، والامر خاضع فقط للظروف الفنية المؤاتية اضافة الی القلق الفنی الذی یلازمنی فی مسألة ترجمە الشعر.
 هذا يقودنا للحديث عن علاقتك بالثقافة العربية والشعر العربي؟
ــ أن دراستي في المدرسة الابتدائية كانت باللغة العربية، وأولى محاولاتي الادبية كانت بلغة الضاد. كنت من القراء المدمنین لمجلة الأداب. كنت أحرص على قراءة سلسلة روايات الهلال وثم مجلة الاقلام والثقافە والثقافة الجديدة البغدادية وکذلك كنت متابعا لحركة الشعر العربي واصداراته، وكانت لي ولا تزال علاقات وثيقة مع كتاب وشعراء عرب وخصوصا العراقيين منهم .
 كيف ترى الشعر الكردي الان ؟ الاجيال ؟ الاسماء ؟ مستوى القصيدة ؟ هل هناك حركة تجديد ترفع لوائها اجيال جديدة من الشعراء ؟
ــ بصراحة هذا سؤال صعب ومعقد. كتابة الشعر تتطلب أولا الالمام بأدوات الشعر، واهمها اللغة. المقاتل لا يمكنه دخول معركة بدون سلاح، ومعركة الشعر سلاحها اللغة، فأين تقف اجيالنا الجديدة من التعامل مع اللغة؟ نعم هناك اسماء مثابرة في الكتابة من الاجيال الجدیدة، خصوصا جيل الثمانيات، فهناك كتابات جيدة ومتميزة، بعضهم له معرفة باللغة والشعرية خصوصا، وملم بتقاليد الشعر وهو جيل مفعم بالعطاء ولا استطيع ذكر اسماء لاني لا اريد ان اظلم احد ما. اجيال التسعينات، هذه الاجيال التي فتحت عيونها على الفضائيات، ثم جاء الانترنيت فأبتعد الكثيرون عن الكتاب الورقي الجدّي. ان عدم قراءة الشعراء الكلاسيكين والالمام بتاريخ الشعر وضعف الحس اللغوی لدی بعضهم ينعكس على نتاجاتهم. اکثر الفضائيات والمواقع الاکترونیة والدوریات حزبیة یدیرها کوادر حزبیة همها ارضاء القیادات وعوائل القیادات. وتقدم ثقافة سحطية وبلغة مدمرة للذوق الفنی والحس اللغوی وتخلق بيئة غیر صحیة للابداع. انا لست متشائما، ادرك بان جبالنا انجبت و ستنجب ولکنی قاریء للواقع ایضا.
 انت من الشعراء الكرد الذين غنى الكثير من المطربين قصائدك، بل بعض القصائد لحنت بأكثر من لحن . هل تجد ان الموسيقى والغناء أضاف للقصائد أبعادا اخرى ؟
ـــ ان للموسيقى سحرا خاصا. وان نجاح الملحن في الاقتراب من روح القصيدة ومقاصد الشاعر سيكون له تاثير کبیر في اضافة ابعاد جديدة تلامس احاسيس المتلقي بشكل اخر يقرب القصيدة اكثر. قد تکون هناك اصوات ظلمتنی واخری نجحت في تقريب قصائدي للناس اكثر.
اضافة لكونك كتبت القصائد الرومانسية والسياسية،نعرف انك كتبت القصائد الملحمية ؟
ـــ حين تخطر لي الفكرة، لا اتقيد لتنفيذها بحجم او شكل. لدي قصائد من ثلاثة أبيات فقط. الموضوع هو ما يفرض ذلك . حين تبدأ الكتابة لا تعرف الى اين ستقودك القصيدة مهما تكون خططت وتهيأت لها. قصيدة "اربيل فی الاول من شباط" مثلا، كيف يمكن ان تكون قصيدة قصيرة ؟ الکارثة التی حلت باربیل فی الاول من شباط 2002 فرضت هیکلا ملحمیا لتجد متسعا من المکان والزمان، کی تجد لنفسها تنفیسا و مجالا للمناورات الفنیة وایجاد مداخل الی عالم الاساطیر.
 هذا يقودنا للحديث عن اسلوبك في كتابة القصيدة . كيف تتحكم بهيكل وشكل القصيدة حين ترى ان الموضوع يدفعك لكتابة قصيدة قصيرة او ملحمية ؟ وخصوصا وكما عرف عنك ان للشعر عندك نكهة النار والبارود والتوق الى الحرية، وايضا ثمة من يتهم بعض شعرك بأنه انفعالي خطابي ؟
ــ اولا، وهل هناك شعر خارج حدود الانفعال؟ هل من المعقول ان یطلب من الشاعر ان يكون موضوعيا وهو يرصد حرکة الزمن ویفتح صرر الذات؟ الشعر أصلا هو عصيان على قياسات وضوابط الموضوعیة، التي لا ترى ظواهر الاشياء الا من زوايا محددة، لكن للشعر زوایا وابعاد خاصة بها لرؤیة الظواهر نفسها. الضبابیة والهذیان المفتعل یغتالان اجمل ما فی الشعر الا وهو الصدق. الشعر کان و ما زال و سیظل طفولة الفنون وعفويتها و براءتها. هناك انماط من الشعر، بل اکاد اقول ان انماط الشعر توازی عدد قراء الشعر. قاریء الشعر فی نهایە المطاف هو "مستهلك" واذواق المستهلکین مختلفە. لکل قاریء شعره الجمیل. اکتب الشعر دون ان اتهیا للکتابة او افکر کیف اکتب او انتقاء ادواتی مسبقا. العمل الدؤوب یبدأ بعد اکمال الکتابة. اکتب منذ اكثر من خمسين عاما و لاازال اعتز بطفولة وعفویة فلذات اکبادی وعدد قرائی یعرفه الجمیع رغم انی لا اتعکز علی ای حزب او دولة او دکاکین الدعایة. لیکتب الاخرون لنخبهم، اما انا فاکتب كي ابرر وجودی وادفع فواتیر حریتی. ولا يمكن للشكل ان يتغلب عندي على محتوى القصيدة. اسعى دائما ليكونا مترابطين، ويعبران عن وحدة متكاملة. احرص كثيرا ضمن العمل على شكل القصيدة ، على تجمیع القصیدة، ثم تشریحها من القصیدة الی الابیات، من الابیات الی الکلمات و من ثم الی تناغم الاصوات داخل الکلمة الواحدة. انا ابحث دوما عن المستحيل للتوفيق بين الشكل الفني والمحتوى. لذا ترى احيانا تتأخر عندي القصيدة فترة طويلة لاني لم اجد ساعة كتابتها الكلمة المناسبة فی المکان المناسب وبالايقاع المناسب . أن فكرة جميلة لا تعني شيئا ان لم تكن في شكل جميل، بصور شعرية جدیدة.
 وهل وصلت بك "عفویتك" الی "المباشرة" کما وصل الیها فی بعض الاحیان الشاعر العربی مظفر النواب؟
ــ صحيح جدا ، كتبت قصائد فيها بعض الشتائم، واستخدمت لغة ايحاء وصور، وكتبت هذه القصائد ارتباطا بالاوضاع التي يعاني منها شعبي، فالقضية التي اكتب عنها كانت تتطلب هذا النوع من القصائد. كانت كتابتي لهذا النوع من القصائد انطلاقا من واقع ضرورة ايصال افكاري للناس . حين كتبت ضد "اقتتال الاخوة" وتجار الموت والسلاح من السياسيين، كان في بالي ان غالبية المقاتلين الذين يموتون في ساحات القتال هم اميون او شبه امیین ، واذ اعرف ان قصائدي صارت توزع بالكاسيتات، فكان علي التوجه للفرد المغرر به لاتحدث معه بلغة شبه مفهومة للحصول علی التأثیر المطلوب. انا لا اعتقد بان الشتائم لوحدها تكفي وتستطیع ان تجمع الالاف ومن ثم الملایین من القراء والمستمعین. اذ لابد من استخدام وسائل فنیە تتیح لك ذلك. عندما كتبت قصیدة " دیوان أقتتال الاخوة" كنت ادرك هذا، لذا حين قرأت هذه القصائد في كردستان، وسط حشود من الناس التي جاءت لتسمع، قلت بصوت واضح : اليوم ليس يوم الشعر وانما قادم لاقول لكم موقف !
 ان هذا يعني ان قصيدة الموقف هي قصيدة سياسية ؟
ــ ان الشاعر مطالب بموقف من كل شيء، من الحياة، والجمال والحب والعدالة والحرية، وأيضا من كل القضايا السياسية بحكم ارتباطه بهموم الناس وتطلعاتهم . لقد قلت في مناسبات عديدة ، باني لو كنت شاعرا تربى في مدينة مثل باريس او اوسلو او اية مدينة اوربية ، لكتبت ازهى قصائدي احتفاء بالحب. لا شيء اجدر بالشعر من الحب. ولعبرت عن مكامن افكاري السياسية والاجتماعية بالادوات المتاحة في تلك المجتمعات المدنية الحضارية، ولما لجأت الى اداة الشعر، ولكن ما حيلتي وانا ابن اكثر الشعوب مظلومية على وجه الارض؟ كيف لي ان اهرب من قدري الذي يطاردني في كل شبر من الارض؟ هكذا كتبت قصائدي ضد " اقتتال الاخوة " عام 1994 ، وانا احترق وارى ابناء شعبي يموتون في حرب القبائل، ورغم تحذيرات الاصدقاء، قرأت القصيدة في مدينة اربيل مخاطرا بحياتي وحياة عائلتي التي رافقتني الی الامسیة. لا اكتب القصائد السياسية كسياسي او بدافع اجتماعي، بل اكتب حين لا استطيع ان لا اكتب . الصفة المميزة لهذه القصائد والسبب في انتشارها هو عندما تدفع فواتير الصدق من مالك وصحتك وراحتك . انا غالبا لا اقرا لشاعر جبان یکتب عن الشجاعة، لشاعر بخیل یکتب عن السخاء ولا لشاعر مرتشی من قبل الحکام یکتب عن الفساد .
وهل يعني ان الشاعر في وقت الازمات الوطنية يجب ان لا يتغنى بعيون محبوبته وإلا اعتبر خيانة لأمته؟
ــ لاقل اولا ، انا مؤمن جدا بحرية الانسان، والشاعر حر في أختيار اغراضه وادواته الشعرية. هناك شعر جيد مهما كان موضوعه، وشعر رديء بغض النظر عن الغرض الذي قيل فيه. وهناك مسألة اخرى مهمة للغاية بالنسبة للشعراء الكرد، ان استخدام اللغة كأداة كتابة وكشف مكامن سحرها وجمالها وتلوينها وتحبيبها وادخالها الى القلوب هذه كلها من صلب القضية القومية. ولأن اللغة الكردية مستهدفة لانها أهم عوامل بقاء الامة الكردية وانطلاقا من هذا فأن شعراء الغزل والتصوف أمثال ملا جزيري ونالي واسوة بالعظيمين احمدي خاني و حاجی قادر كوييي هم من اقطاب الامة الكردية .ان من يتغزل بلغة كردية سلسلة ، سليمة ، متناسقة ، متناغمة ، يقوم بواجب قومي دون ان يدري. عشرات بل ومئات الالاف من ابناء الشعب الكردي أحبوا اللغة الكردية من خلال قصائد الملا جزيري ومولوي وعبد الله كوران في الحب والطبيعة. ان التغني بالطبيعة الكردستانية من صلب القضية القومية.
 هذا يعني ان القصيدة السياسية معروفة بين اجيال عديدة من الشعراء الكرد ؟
ــ هذا صحيح، فالقصيدة السياسية ليست وليدة أحداث اليوم المعاصرة. ان القصيدة السياسية التي ظهرت في سبعينات القرن الماضي، تختلف كثيرا عن القصيدة السياسية التي سبقتها من حيث اللغة والصور والادوات الفنية، والتعامل مع المفردة التي لم تعد مادة في قواميس اللغة وبمعانيها المدونة هناك. هناك عناصر القصيدة الوطنية الغنائية لدى عميد الشعر الكردي الملا جزيري، وبدأت تلك الغنائية الوطنية تتطور وتكتمل وتاخذ ملامح جديدة، لدى شيخ الشعراء الكرد احمد خاني، ثم خفت الصوت الى ان ظهر الشاعر القومي الحاج قادر كويي ومن ثم شعراء النصف الاول من القرن العشرين بيره ميرد، عبدالله كوران، قانع، جكر خوين، عثمان صبري، كامران، هزار،هيمن، وغيرهم . ليس من الصعب ان تقارن بين القصائد السياسية لهؤلاء الشعراء مع ما كتبه شعراء من جيل السبعينات. واعتقد جازما بان القصيدة السياسية وجدت تجديدا من حيث القيمة الفنية والادوات الجمالية لدى بيره ميرد، فهو اول من كتب القصيدة السياسية وهو يهمس ويلمح ويؤشر، وجيلي من شعراء السبعينات طوروا أدواته.
 لنختم حديثنا بما هو مفرح جدا . خبر ترشيحك لجائزة نوبل للادب لهذا العام؟ كيف ترى الامر، وما هي حظوظك في نيل الجائزة ؟
ـــ الشعر لا يكتب من أجل الجوائز. الجائزة هي من يجب ان تذهب الى الشاعر. نعم، لقد شرفني اتحاد الادباء الكرد في شمال کردستان بترشيحي، وهو عندهم محاولة لتعريف العالم بالادب الكردي. وتم قبول الترشيح ادرك ان عوامل سياسية كثيرة تلعب دورها في نيل هذه الجائزة . فلقد فاز شعراء متواضعون بالجائزة فقط لاسباب اخرى غير الشعر. ولم يزل شاعر عربي مجد مثل ادونيس مرشحا " قويا" من عدة دورات، وقد يكون ارتفاع حرارة الازمة السورية، عاملا مساعدا له . لنكن واضحين، ربما بعد عشرين او ثلاثین سنة يمكن لشاعر كردي ان يكون منافسا قويا، عندما تكون معادلات العالم السياسية تغیرت، واللوبی الکردي قوي تأثيره والتراجم المهنیە للادب الکردی قد ظهرت واصبحت جزءا من المکتبە العالمیة. قد يكون ترشیحی لە اهمیة واحدة ، وهو کونی اول کردی یتم قبول ترشیحه، رغم انی اعرف بان هناك من زملائی من الادباء الکرد من هو اجدر منی بهذا الترشیح .
مختارات من شعر عبد االله به شيو *
الجندي المجهول
لو زار وفد ما بلادا ،
وضعَ إكليلاً من الورد
على نصب الجندي المجهول .
فإذا زار وفد ما وطني وسألني :
ـ أين ضريح جنديكم المجهول ؟!
سأقول له :
ـ ياسيدي
على ضفة أي جدول
عتبة أي مسجد
باب أي بيت
أية كنيسة
أي كهف
على صخرة أي جبل
وعلى شجرة أي بستان
في هذا الوطن
فوق أي شبر من أرضه
وتحت أية بقعة من سمائه،
لا تخف !
طأطىء قامتك خشوعاً
وضع إكليل وردك !
15 ـ 11 ـ 1978 موسكو
أمّ
أنحني لـ "جميلة" ،
لـ "جان دارك"،
لـ "تريشكوفا".
لكن،
تلك التي، في وطني المترع موتاً ،
تدوس كبدها وتصبح أمّاً ،
أحني لعرشها قامتي خشوعاً
وعند قدميها
أمسح الأرضَ بجبيني .
30 ـ 8 ـ 1979 بوتسدام
* جميلة: جميلة بوحيرد، الفدائية الجزائرية.
** تريشكوفا: فالانتينا تريشكوفا، رائدة الفضاء الروسية .
عباد الشمس
وطني عش الشمس
وخميلة النور،
ورأسي زهرة عباد الشمس،
تلك التي دوما تدور .
13 ـ 4 ـ 1989، طرابلس
الشهيد
أرقت ليلة أمس.
غادرتُ البيتَ صامتاً.
رفعتُ نحو السماء
رأسي المترع بالبروق.
رأيتُ طائر التمِّ
يحضن بيضَه،
وأسراباً عارية من النجوم حوله
تبعثرت كحبات الرمان.
عدتُ إلى البيتِ
وأعلنتُ الحِدادَ على نجوم جريحة الأجنحة،
مائلة الأعناق،
خَبَتْ وهي في ذروة تألقها.
13 ـ 7 ـ 1992، موسكو
الى هادي العلوي *
في زمن يحكمه الاقزام
من أين لك قامتك الفارعة ؟
في زمن دب فيه القحط
من أين لك هذا الموسم الاخضر؟
كيف سمعت أنين عليّ ،
وانت محاصر بجلجلة حليّ قريش
وصرير سيوفها ؟
كيف جاءتك تأوهات ماريا القبطية
ودندنة عائشة وحفصة تصم الاذان؟
***
عصورنا ، جميعها،
غصون تفرعت من الجاهلية ..
كنائسنا ومساجدنا،
مجالس شورانا، برلماناتنا،
مقرات احزابنا ودواويننا ـ
دكاكين في سوق عكاظ
والنوابغ هم النوابغ ،
من سلالة الخنازير
وعابدو الكروش
هنا يروحون عن عورات ملوك الغساسنة
وهناك ينبطحون ، معابرا ،
تدوسهم نعِال ملوك المناذرة !
***
في شرق تداس فيه الشمس
في شرق يتوضأ بالدم والبترول
في شرق " زواج التحليل " والصىْبان والأقمال
في شرق يفر منه الحياء
حتى اصبح لاجئا في السروال
انا حائر ، سيدي ،
كيف تجرأت ان توقظ قفير الصمت
وتأذن في الناس جهارا ؟
***
يا شرقا يحكمه الاقزام
هنيئا لك بهذه القامة الفارعة
يازمنا دب فيه القحط
هنيئا بهذا الموسم الاخضر !
2/ 12 / 1990 ،موسكو ـ ستاره مينسكايا
هاجس
أفتح الشبابيك ، أشعل شمعة.
أزين مزهرية بباقةِ ورد البراري.
أنثر أرخم القصائد حول وسادتي، كقطرات الندى،
تأخر الليل ،
وأنا على موعد مع قوام أهيف في المنام .
22 ـ 7 ـ 1992، قرية شوكينا
مقارنة
كان الليل في منتصفه
والكون في سكون.
كنت نائمة وخدك فوق ظهر يدك.
تأملت محياك،
واذا بأمواج من عبير "الشبو" تحملني
وألحان سرمدية تهزني.
أغلقت كتابا كنت في زنزانته،
وبدأت أطالع وجهك المقدس،
آية فآية، حتى الفجر .
13 ـ 6 ـ 1993 قرية تشيريكوفا
إن عثرتُ على تفاحة
إن عثرتُ على تفاحة،
فسأشطِّرها بالتساوي إلى نصفين:
نصف لكِ، ونصف لي.
إن عثرتُ على بسمة،
فسأشطرها بالتساوي إلى نصفين:
نصف لكِ، ونصف لي.
وإن عثرتُ على حزن،
فسأكتمه عنك،
وأستنشقه بشَرَهٍ كالنَّفَس الأخير.
31 ـ 12 ـ 1983، براغ
كنز
منذ بدء الخليقة..
يعشق الإنسانُ الجواهرَ واللآلىء،
يبحث عنها في قيعان البحار وذرى الجبال.
وأنا.. أعثر كل صباح على كنزٍ
حين أرى شعرك المحلول
يغطي نصفَ وسادتي.
10 ـ 8 ـ 1984، أوديسا
أمل
عندما ،
في الاعالي،
فوق القمم،
تعصف الزوابع والرياح حول الشجيرات .
لا تحزن،
لا تيأس،
في الاسفل،
عند الوديان،
تبزغ من تحت الارض
البراعم والعشب الريان !
25/12/1988 طرابلس
* قصائد "الجندي المجهول" و"الى هادي العلوي" منشورة سابقة بالعربية ، وبقية القصائد تنشر لاول مرة مترجة الى اللغة العربية .