ادب وفن

خويه أكوم أعاونك..؟ / علي ابو عراق

في تلك الربوع الغارقة بالخضرة والمزنرة بالماء..حيث تندفع الأنهار الصغيرة من النهر الكبير ببهجة وحماس..تنفرط وتتشابك بعيدا عن النهر الذي لا تكاد تخلو منه قرية من قرى الجنوب...كان هذا قبل عقود ليس سوى... قبل تجفيف الاهوار وحرص دول الجوار على قطع او تقنين المياه على العراقيين..إذ كانت البساطة ونقاء السريرة والود العميم شائعة في نفوس الناس شيوع الماء والخضرة في ربوعها..قبل أن تتمرغ هذه القرى بريح المدن الفاسدة ونفاياتها التي راحت تشيع القيم النفعية والذاتية وتأكل الخزين الهائل من القيم الجميلة والروح العفوية لها..في هذا الجو الذي يبدوا سلسا وشفافا ?متسامحا والمحكوم بأجمل ما رسخ في ذاكرة القرى.. اعتاد هو ومجموعة من أصدقائه السطو ليلا وخصوصا على أغنياء او ميسوري الريف... في تلك الأيام كانت (الحرمنة) مأخوذة من كلمة حرامي...وهذه تبتعد كثيرا عن اللصوص واللصوصية في سياقات ذلك الوقت..و(الحرمنة) حزء من تلك الحياة التي يمارسها الكثير من الشباب والتي تواجه بعقوبات اقل صرامة من العقوبات الرسمية بل تعد نوعا من الشجاعة وإذا أراد الشاب ان يثبت شجاعته او يعلن نضجة وبلوغه مبلغ الرجال يكون حراميا..... ويسيمى اللص (حواف) أو(دواس ليل ) أو (ناحر الظلمة) وربما هناك تسميا? أخرى للص ولكن المؤكد ان أغلب الذين تعدوا مرحلة الشباب قد مروا بهذه المرحلة..والمؤكد أيضا أن هؤلاء لا يمارسون مهنتهم هذه إلا في الأماكن والقرى البعيدة عن مناطقهم..ولا سطو في الريف إلا في الليل...لأن النهارات في الريف فاضحة وضاجة ولا تعطي فرصة للسطو..ثم أن السطو على الأغلب يكون على الماشية بقر أو جاموس أو أغنام..ولم تكن تلك البيوت تحتوي على سلع وأدوات او أجهزة مهمة حتى أواني الطبخ محدودة وليس ثمة سوى الافرشة والأغطية وصندوق او صناديق محدودة توضع فيها الحاجيات البسيطة (صندوف سيسم ) أو (الصندوق المنجم ) الذي ?رسم على واجهته نجمات بمسامير لامعة والذي يكون أساسيا في جهاز كل عروس....(الحرامية ) والذين لا تبلغ سرقاتهم جميعا وعبر كل التاريخ ما يسرقه كلب من كلاب مسؤولينا في هذا الوقت من المال العام، هم مجموعة من الأصدقاء اعتادوا أن يركبوا الليل والنهر وينحدران في زورقهم الذي وفروا ثمنه من عمليات سطوهم السابقة...ولكن هؤلاء الأصدقاء اللصوص تعاهدوا وأقسموا على مجموعة من القوانين التي تثبت صلتهم القوية بالأخلاق على الرغم من انحدارهم بسبب ظروفهم..تعاهدوا على عدم سرقة الفقراء جدا وعدم اللجوء إلى القتل تحت أي ظرف. فضلا عن ت?زيع ما يفيض عن حاجتهم على المعدمين من قريتهم أو من هم على صلة بهم لذلك تمتعوا بسمعة ومكانة طيبتين بل يعدون من خيرة شباب القرية لتصرفاتهم هذه..في ليلة باردة من ليالي (الازرق) البارد جدا.. خرجوا بمشوارهم الاعتيادي رغم قسوة البرد وحلكة الليل... استقلوا زورقهم... وراح اثنان منهم يدفعان بقوة وحماس الشباب... في الحين الذي جلس الآخران وسط الزورق يتأملان النجوم التي بدت كأنها ملفوفة بهالات من الدخان الأبيض كالقطن بفعل برد الأزرق... كانا حينما يدفعان الزورق بقوة تحدث سرعة انزلاق الزورق على الماء طرطشة أليفة تعودوا ?لى سماعها في كل لياليهم صيفا وشتاء..فالشباب يمطرون قوة وعنفوانا... وبعد أن قطعوا صدر النهر وتنحوا بعيدا عن قريتهم راحوا يحدقون بالبيوت المحيطة بالنهر على الجانبين من خلال سجف الظلام لتميز البيت المرشح للسطو.. وهم عادة يختارون البيوت الكبيرة الواسعة والمبنية حديثا والغارقة بالصمت... وبعد تحديق طويل في الضفتين وجدوا ضالتهم... هو بيت جديد رصدوه رغم الظلام الدامس.. بيت فاره حديث البناء يغرق في صمت مطبق... والأكثر إغراءا..أنهم لم يسمعوا نباح كلب حول البيت والبيوت المجاورة... إذ أن الكلاب تشكل مشكلة كبيرة للصوص.?. لذا تضطر المجموعة إلى أن ينقسموا إلى مجموعتين مجموعة تستدرج الكلاب إلى البعيد للتخلص من نباحها الذي يشير لوجود الحرامية.. والأخرى تباشر الأخرى عملها... وبعد أن أمنوا جانب الكلاب قالوا في أنفسهم جميعا هذه ضالتنا... نزلوا بهدوء واحاطو البيت من كل جانب اكتشفوا أن لا ماشية في هذا البيت لا بقر ولا خراف ولا جاموس...ولكنهم لم يتراجعوا... وعليهم أن يباشروا عملهم... فراحوا بحذر شديد يحاولون إحداث حفرة كبيرة في الجدار الطيني لكي ينسلوا إلى الداخل.. وبعد عمل دام دهورا بحسابهم في الحين الذي لم يستغرق ربع الساعة بالز?ن الواقعي... أحدثوا فتحة كبيرة في الجدار الطيني تتسع للولوج إلى داخل الغرفة الطينية... وحينما ولج الأربعة إلى الداخل شاهدوا باطن الغرفة طافحة بأغراض جديدة وجميلة كشفها ضوء الفانوس شحيح الذبالة...وبعد التمعن والتدقيق بالنظر اكتشفوا أن الغرفة ليس فيها سوى امرأة غارقة في النوم على سرير حديدي جديد تلمع رماناته رغم الضوء الشحيح..فيكشف عن وجه جميل لامرأة شابة يضوع اريج عطرها في سماء الغرفة الطينية... حينما شعروا أن لا رجل هنا... أحسوا بموجة من الأمان وراحو يلمون كل شيء على مهل فالأغطية والافرشة جديدة جدا وجديرة ?السرقة وصندوق السيسم الجديد الذي تشم رائحة طلائه الجديد.. يبدوا أن المرأة عروس حديثة العهد لم تكمل أسبوعها الأول كما يشي بذلك نظافة وجدة وجمال كل شيء... جمعوا كل ما في الغرفة بعد ذلك بحثوا تحت فراش السرير وجدوا بندقية ومسدسا... كل منهم عمل صرة كبيرة من الأغراض وخرج الثلاثة ولم يبق ألا كبيرهم... فقد آلى على نفسه أن يجمع كل شيء بما فيها صندوق( السيسم)... وحينما اكتمل له ما اراد حاول النهوض بحمولته الكبيرة لكنه لم يفلح... وحاول ثانية ولكنه لم يقدر على النهوض لثقل ما يحمل...وحاول ثالثة وكانت النتيجة نفسها... ف?الت له العروس الشابة التي كانت تتظاهر بالنوم.... ها خويه جن حملك ثجيل..؟ أجي أعاونك...؟
صعق الرجل ليس من هول المفاجأة ولكن من هول الأسلوب والطريقة التي عرضت فيها الشابة التي سرقوا عرسها المساعدة... بقولها خويه أجي أعاونك..؟ جن حملك ثجيل...؟ لهذه الكلمة وقع كبير في نفوس أهل الريف... فللأخ قيمة ومنزلة كبيرتين لا يضاهيها بالمنزلة الزوج أو الولد ولعل تأثيرات الخنساء وفدعة بنت صويح لم تزل مهيمنة في وجدان النساء الريفيات.... ذهل وظل للحظة غائبا عن وعيه..وحينما استعاد بعض قدرته.... انطفأت كل مواقد الشر والجشع في روحه.. واستعاد إنسانيته التي هدرها بمثل هذه الأفعال..... وسألها هو بحزن وانكسار وعاطفة د?فقة....ها خوية شكلتي...؟ ردت عليه ما كلت شي عوافي عليك الأغراض...كتلك خويه أعاونك... امسك مسدسه وأجهد نفسه للحاق بزمرته مهددا... وقال لهم ارجعوا ارجعوا بكل ما معكم... قالوا له هل أنت مجنون... راح يطلع علينه الصبح... خل نولي....كلهم لا والله ما تأخذون (كشايه) - قشة ارجعوا كل شيء.... هو كبيرهم وصديقهم.. رجعوا بكل ما سرقوا... وقال لهم رتبوه كما كان وأحسن.. فامتثلوا لأمره وأرجعوا كل شيء في مكانه..وهو وهم غرقوا في بحر من الخجل...وكانت كلمة خويه كالناقوس الكبير الذي أيقظ ضمائرهم التي كانت النائمة... بعد ذلك أجبر?هم ليأكلوا.. قامت بخفة الغزال وعملت لهم خبز بدهن وقوري من الشاي... وجاء رجلها في هذا الحين والذي كان في نوبة السقي لزرعه فاستغرب الوضع.. أربعة رجال يأكلون في بيته بعد منتصف الليل... وقبل السلام انتحت به زوجته جانبا وأخبرته بما جرى.. واستوعب الموقف وأقبل عليهم مسلما هاشا باشا مرحبا بهم وامتد سمرهم حتى الفجر...بعد ذلك في الضحى ودعوهم وهم أخوة بعد أن دخلوا بيتهم لصوصا... وامتدت هذه العلاقة الجميلة بينهم حتى قضوا.. واخذ كبيرهم عهدا على نفسه أن يكون أخا حقيقا لمن وصفته بالأخوة في تلك اللحظة الملتبسة...