ادب وفن

«في باطن الجحيم» وحشية الجلاّد .. إنسانية الضحية / ثامر الحاج أمين

ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 صدرت للروائي العراقي سلام إبراهيم رواية "في باطن الجحيم" بعد سلسلة أعماله الروائية "رؤيا الغائب 1996" ، "الأرسي 2008 " ، " الحياة لحظة 2009 " . ما يميز روايته الجديدة عن سابقاتها هي أنها رواية تسجيلية، وثقت فضائع وجرائم حملة الأنفال 1987 ـ 1988 وجرت فيها ــ بمهارة عالية ــ المزاوجة بين الوثيقة والفعل التخيلي بحيث نجح الروائي سلام ابراهيم في توظيفهما ضمن بنية روائية متجاوزاَ بها تأطير الوقائع وتسجيلها فقط مما يجعل منها وثيقة تاريخية لا نبض للحياة فيها .
ما يستوقف القارئ في هذه الرواية ان " سلام ابراهيم " بالرغم من عودته إلى اِرثه النضالي وتجربته الكفاحية المشرقة في حركة الأنصار الشيوعيين التي اِستفاد منها كثيرا في اشتغاله الابداعي ( القصة ـ الرواية ) والتي جعل من تلك السيرة النضالية مادة رئيسة لرواياته الآنفة الذكر الاّ انه في عمله الروائي الجديد تجاوز القص الذاتي وانفتح على عوالم أخرى أثرت بنية روايته الجديدة فجاءت بانوراما ترى فيها الرصد والتدوين وتاريخ الأحداث وجغرافية المكان وسيرة الأشخاص بأسمائها ليبلور من كل هذه الأدوات عالما روئيا جميلا في أحداثه و?ياديته .
تشكل المفارقة أو التضاد بين عالمين عنصرا واضحا في هذه الرواية ، فالروائي يدخلنا في ذلك منذ أول سطورها حيث تجد الضحية التي كانت ترزح تحت سياط الجلاد وطغيانه ترقص منتشية في حين يقبع الجلاد في قفص الاِتهام مهاناَ ذليلاَ بعدما كان آمراَ ناهياَ ، وهو توظيف ذكي يشير الى دورة الزمن وتقلباته، "ننصت انا والطاغية ..
هو في دهشة وامتعاض .. وأنا في نشوة وطرب ..
هو في قفص وأنا في فضاء " وبطريقة الفلاش باك يستحضر الرائي معاناته الطويلة مع الجلاد من خلال وجوده جنديا في ساحات حربه وكذلك في معتقلاته التي ذاق فيها مرّ العذاب وصولاَ الى وجوده مقاتلا في صفوف حركة الأنصار وينسى كل ذلك في غمرة انتشائه وهو يرى الصورة مقلوبة ، فهو اليوم في قمة الهرم والجلاد في أسفله.
لقد أبدع الكاتب في التركيز على تفاصيل الحياة اليومية لمجموعة الثوار التي شكلت الحركة حيث يدخلنا جحيمه فنرى الثوار وهم يعيشون حياة تعددت الصراعات فيها ، فهناك المقاومة لظروف الطبيعة الجبلية القاسية والوسائل البدائية للاحتماء منها وقصف الطائرات اليومي ومشاهد تساقط الرفاق حرقا بنيرانها ، الغازات الكيمياوية التي كان الرائي ــ سلام ـ احد ضحاياها ، شحة المواد الطبية والاضطرار إلى بتر ساق المقاتل المصاب "جابر هيجل" لمرتين جراء التلوث باستعمال وسائل بدائية ، الخيانات التي وجدت طريقها الى بعض المقاتلين الذين جندهم?النظام للفتك برفاقهم عن طريق بث السموم في الأطعمة والأشربة والتي كان من ضحاياها " ابو فؤاد " أحد أبرز الثوار الأشداء والذي عندما نجا من السم بعد سنة من العلاج وعاد الى موقعه القتالي أردته الطائرات قتيلاَ بقصفها الوحشي ثم تضيع عائلته بعد ذلك في المقابر الجماعية، وبالمقابل نلمس صوراَ تقف بالضد من تلك الوحشية التي شكلت بمجموعها قاع الجحيم فهناك العلاقات الِانسانية التي سادت بين المقاتلين حيث الحميمية والصدق في التعامل اليومي ، روح العمل الجماعي ، الايثار ، سهر البعض على راحة الآخر ، اهتمام العالم المتمدن والس?ي الجاد لملاحقة المتسببين بالضربة الكيمياوية من خلال التحقيق مع الضحية في محكمة العدل في لاهاي ، النظام الاجتماعي في الدنمارك الذي يدين له الكاتب بالفضل حيث وفر ّ له "فرصة تأمل الدنيا والتجربة" لقد سجل الكاتب كل تلك الصور والمواقف بالأسماء والوثائق فيكون بهذا قد نفخ الروح في الوثائق بعدما كانت مجرد أوراق مليئة بالأرقام والأحداث فجعل من الصعب الفصل بين ما هو وثائقي وما هو جمالي .
لقد تجلت قدرةّ الروائي سلام إبراهيم على تجسيد التضاد بين الصورتين (الوحشية ــ الإنسانية) من خلال مشهد زيارة أرملة الشهيد (ابو فؤاد) الى قبر زوجها الذي أعده واحدا من أكثر المشاهد الانسانية المؤثرة والمستفزة للضمائر الحية وكان يصلح أن يكون عملا دراميا مستقلا ، جعلنا الكاتب في هذا المشهد نعيش ألم المرأة المحطمة وهي تسرد عند رأس زوجها الشهيد " كل ما جرى لها وللعائلة اثناء غيابه الطويل، قصت إلى أن أنهكها الكلام والحكاية، فصرخت صرخة واحدة طويلة حادة وارتمت على كومة التراب، غطتها مولولة صارخة باسمه " هذا المشهد ?عيد امام ناظريك صورة الجلاد وأفعاله المشينة مما يتفجر الحقد في داخلك على من تسبب بكل هذا الألم والخراب.
" في قاع الجحيم " توثيق لحركة ثورية مهمة في تاريخنا المعاصر وتوثيق لبطولات ثوار ومواقف رجال لم يجعل منها الكاتب عملا دعائيا لأيدلوجية معينة بل ساد فيها الجانب الآنساني على السياسي وصهر كل تلك المدونات في بوتقة إبداعه وأدواته السردية المكتملة فقدم لنا واحدة من أهم وأجمل أعماله السردية، وأضاف رواية مهمة ومميزة إلى مسيرة الرواية العراقية والعربية.