ادب وفن

درس الفلسفة في العراق (2-2) / عدي حسن مزعل

طرق القبول في الدراسات العليا

هل يستطيع الأساتذة ولاسيما الذين يعانون من هذه الظاهرة إيجاد الحلول ؟ الجواب: كلا، لان الجزء الأكبر من المشكلة متعلق "بطرق القبول"، وهذه الطرق ليست بأيديهم وإنما بأيدي الوزارة والياتها الكارثية في القبول، والمتمثلة بتعدد قنوات القبول، فضلاً عن زيادة عدد المقاعد المستمر، لدرجة أن الوزارة أعلنت أنها قبلت السنة الماضية "عشرة آلاف طالب في الدراسات العليا"، والمهم هنا كما يبدو من الإعلان "العدد وليس النوعية"، في حين أن هذا العدد لا ينم عن تقدم علمي، وإنما العكس تماماً: "عن تراجع علمي"، هذا حكم يدركه جيداً من "تعاملون" مع الطلبة المقبولين لا من "يصدرون التعليمات" ويضعون طرق القبول، أي يدركه كل ملاحظ لنوعية الطلبة المقبولين، لدرجة انه يندر أحياناً وجود "طالب أو طالبين" يستحقون القبول في الدراسات العليا. ذلك أن النظري المعلن ليس كالعملي المجرب، فالمعلن هو تخريج طلبة يحملون شهادات عليا، فيما على الأرض والتجربة أن معظم هؤلاء غير مؤهلين للقبول لا قبل التقديم ولا بعده ولا حتى بعد حصولهم على الشهادة العليا التي أصبح الحصول عليها يسيراً جداً، لدرجة أن قسماً كبيراً من الطلبة ممن عرفوا بمستوياتهم العلمية "الهزيلة"، أو ممن كانوا يلجؤون إلى "النقل" في الامتحانات، أو ممن عرفوا "بالمشاغبة" يتقدمون اليوم إلى الدراسات العليا وهم فرحين مستبشرين بالقبول، يرددون العبارات التي ذكرناها سابقاً، وقد قُبل كثير منهم أما بسب زيادة المقاعد، حتى لو كان راسباً، أو باللجوء إلى قناة النفقة الخاصة، أو قناة ذوي الشهداء.

معاناة الأساتذة
لهذا نرى بعض الأساتذة الكفوئين لا يكفون عن الشكوى من آليات القبول، الآليات التي تسمح بقبول طالب دراسات عليا لم يجتز امتحان التنافس بنجاح، فكثير منهم حصل في هذا الامتحان على "5، 10، 12، 15، 20، 22، 26، 30،.....الخ" من درجات الرسوب الدالة، فأي طالب علم هذا ؟ وأي شهادة سيحصل عليها من لم يستطع اجتياز امتحان التنافس ؟ ان هذا الواقع أنهك الكثير حتى بدت "أرواحهم يائسة" وكأن لسان حالهم يقول: ليس بالإمكان أفضل مما كان، إنها ذوات متعبة بدأ قسم منها يستسلم ولم يعد في مقدوره التصدي لواقع بدأ يقوى ويرسخ، ولعل حديث البعض عن الماضي الغابر للتعليم في العراق هو نوع من أنواع استراحة الروح باللجوء إلى ماض سالف، أو هو نوع من أنواع التعويض للذات التي أرهقها الواقع البائس، لذلك تراهم إذا ما رأوا أستاذا كفوءاً يخرج عن الواقع السائد ويقوم بتقييم دقيق في مناقشة رسالة ما، فينتهي إلى إعطاء الطالب ما يستحقه من تقدير، يتناقلون موقفه فيما بينهم وكأن ما حصل حدث شاذ لا قاعدة ينبغي أن يسير عليها الجميع. ولكن هل يمكن التصدي لهذا الواقع إذا كان العقل الجمعي قد شيد قواعده وأرسى بنيانه وأنتج مقولاته ؟ السنا أمام بنية جديدة تكتسح بنية قديمة?؟ هل كان من الممكن أن يكون ذلك لولا آليات القبول التي ساهمت في ترسيخ هذه البنية ودعمها باسم "تطوير التعليم في العراق" ؟ لنتأمل نتائج هذه المسيرة العلمية: إذا كان هذا هو الواقع السائد، فأي مستقبل ينتظرنا في ظل بنية بدأ الكثير يخضع لسلطتها وهيمنتها ؟ أنكون مخطئين إذا قلنا أن هذه البنية ستكون الحاضنة لولادة واقع تعليمي أسوأ ؟
هذه هي بعض نتائج البناء الخاطئ الذي ظهرت ملامحه قوية في أقسام الفلسفة، واقصد هنا أساتذتها، إذ أن قسماً منهم لا يصلحون لتدريس هذا الاختصاص، بل لا يصلحون لتدريس أي شيء، وما ذلك إلا لان القاعدة اليوم تقول: مادمت حاصلاً على شهادة عليا "ماجستيرـ دكتوراه" فأنت تصلح للتدريس ! هكذا أصبحوا تدريسيين ببساطة. في حين أن التدريس يحتاج إلى أساتذة كفوئين على جميع الصعد ثقافة وشخصية. وللآسف أن الاثنين يفتقر إليهما الكثير من التدريسيين في الجامعات. فقد تجد أحياناً، أن مستواه العلمي جيد لكنه لا يملك أدوات التدريس، المتم?لة تحديداً في القدرة على إيصال المادة إلى الطالب، وتجد من شخصيته لا تتسم بالاتزان والمسؤولية والعدالة في تقييم مستويات الطلاب "وما أكثر هولاء اليوم ممن يمنحون الطلبة أعلى الدرجات بغير استحقاق"، وقد تجد من شخصيته تتسم بالاتزان والانضباط والمسؤولية، إلا انه ضعيف علمياً، وأحياناً كثيرة لا تجد هذا ولا ذاك.

الإشراف والمناقشات في الدراسات العليا
ومن المسائل التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها مسالة الإشراف على الرسائل ومناقشتها من قبل لجان المناقشة. ثمة ظاهرة واضحة للعيان تتمثل في نظر بعض الأساتذة المشرفين إلى الطلبة بوصفهم مبالغ مالية تضاف إلى الراتب، ذلك انه كلما زاد عدد الطلاب زاد الإشراف، وكلما زاد الإشراف زادت الأجور. غير أن هذه الظاهرة رغم سلبيتها إلا أنها لا تنتهي هنا، بل هي تنتج ظواهر أخرى، منها: تعمد البعض تأخير الطالب من اجل الحصول على مبالغ إضافية، الإشراف على موضوعات هي ليست من اختصاصهم، عدم متابعة الرسالة "بدقة" لا في الإشراف ولا في المناقشة، وإذا حصل وتابعها فهي متابعة "شكلية" لا أكثر، من هنا وقوع بعض الطلبة في مطبات علمية كبيرة يتم التغاضي عنها في معظم الأحيان. وعادة ما يتم في المناقشة اختيار أساتذة من النوع "غير العلمي والمجامل"، أساتذة يجاملون ويتحدثون عن أشياء لا علاقة لها بالرسالة، فمنهم من لم يقرأ من الرسالة سوى "المقدمة والخاتمة" أو بعض الموضوعات، "وهذه ظاهرة مستفحلة بقوة اليوم في المناقشات"، ومنهم من يمدح مستخدماً عبارات ضخمة كـ"أنها أول أطروحة أناقشها بهذا المستوى الرصين" أو "أنها عمل فذ ممتاز"، وهي عبارات لا صحة لها مطلقاً. أما النتيجة فهي: تمرير الرسالة أو الأطروحة بكل سهولة، وأحياناً يحصل الطالب على تقديرات تصل إلى "الامتياز" وهو ليس أهلاً لذلك التقدير مطلقاً.
وثمة معيار يستطيع من خلاله الأستاذ تقييم نفسه، وهو مدى "الطلب" المتزايد عليه في مناقشة الرسائل، فإذا كان من هذا الصنف ...... اعتقد أن لا حاجة إلى القول ما معنى ذلك ؟ وإلا كيف نفسر أن أستاذاً "يناقش" خلال شهر رسالتين أو أكثر، وأستاذ كفوء علمياً لا يناقش خلال سنة سوى رسالة واحدة وأحياناً لا ؟ والصنف الأخير حينما يُقيم رسالة أو أطروحة بوصفه خبيراً علمياً أو مناقشاً ضمن لجنة مناقشة، فُيبدي عليها الملاحظات التي لا تؤهلها للمناقشة، وهي كذلك فعلاً، تبدأ المحاباة والإكثار من عبارات: "هسا هيا أول رسالة موزينة، الغيرة مو مشوهم"، أي منطق هذا إذ لم يكن "منطق المجاملة واللامسؤولية" ؟ باختصار: ذلك هو المنطق السائد اليوم في معظم المناقشات. أما ردود فعل بعض الطلبة على هذين الصنفين من الأساتذة، فهو ذاتي محض يقوم على إرضاء ذات الطالب لا غير. فالصنف الأول "جيد ومقبول"، والثاني "معقد مؤذ". وهذا التصنيف يذكرنا بموقف الطلبة من الأستاذ الذي يغض النظر عنهم حينما يغشون في الامتحانات، فهو أمامهم ملاك أنقذهم من محنتهم، ولكنهم ما أن يغادروا قاعة الامتحان، حتى تبدأ التعليقات والسخرية منه، والتي هي في النهاية: "تعبير عن عدم الاحترام".
هكذا هم الأساتذة اليوم صنفان: صنف يؤدي عمله بكل مسؤولية إن في مراقبة الطلبة في الامتحانات، وان في التدريس والمناقشة والإشراف والتقييم العادل لمستوياتهم العلمية، وصنف خلاف ذلك تماماً. بيد انه ما كان لهذه الأخطاء أن توجد لولا آليات القبول، ولولا مجاملات الكثيرين، التي أفرزت لنا بنية ذهنية مدمرة، بدأت تقلب التقاليد العلمية الرصينة نحو تقاليد المجاملة واللامسؤولية.....

مستقبل التعليم إلى أين ؟
وإذا كان ثمة علاج لهذه المشكلة فالبداية من هنا، من آليات قبول الطلبة ذاتها، التي على القائمين عليها اليوم، ولا سيما بعد استفحال ظاهرة الخراب، مراجعة كل الآليات المعمول بها، ابتداءً من قبول الطلبة في الجامعات وصولاً إلى طرق التدريس وانتهاءً بقبول طلبة الدراسات العليا، التي تُعد اليوم اخطر المراحل في مسلسل خراب الدراسة الأكاديمية في العراق. وهو خراب بدأ يتجلى بقوة في أقسام الفلسفة وغير الفلسفة، بل في معظم الجامعات العراقية، وبإمكان من يريد التحقق من ذلك إجراء جولة حوار واحدة "ولا أقول جولات" مع بعض أسا?ذة الجامعات، وسيرى أي مستوى ثقافي يحمله هؤلاء، الذين يبدون كأنهم غرباء، ولا ادري حقاً هل هم الغرباء أم من بقي من الكفوئين وسطهم غرباء ؟ اعتقد جازماً أن المستقبل سيقول: إن الفئة الأخيرة هم الغرباء.
إلى أين تسير جامعاتنا ؟ هل نستطيع أن نبني أجيالاً متعلمة فعلاً بهذه الآليات ؟ هل نستطيع أن نعد كوادر تدريسية جيدة وجامعاتنا تخرج الآلاف من طلبة الدراسات العليا وهم مشاريع أساتذة، في حين أن قسماً غير قليل منهم "لا يفقهون حتى في تخصصاتهم" ؟ هل نستطيع أن نبني أجيالاً بهذه القنابل الموقوتة؟
تُرى أي علم وأي معرفة سيقدمها إلى الطالب ذلك الذي حصل على شهادة الماجستير أو الدكتوراه وألف علامة استفهام على شهادته ابتداء من قبوله إلى كتابة رسالته إلى مناقشته؟ وأي معرفة سيتلقاها الطالب من أستاذ فاقد لكل المؤهلات العلمية والشخصية ؟ ألا يقول لنا التاريخ: إن المفكرين الكبار تعلموا على يد مفكرين كبار أيضاً، فسقراط أستاذ أفلاطون والأخير أستاذ أرسطو ؟ ولعل فقدان جامعاتنا اليوم إلى أساتذة كبار، هو الذي يفسر لنا ظاهرة عدم تأثر الطلاب بأساتذتهم ؟ إذ يندر جداً وجود من يقول: أنني تأثرت بفكر أو شخصية أستاذ ما ! ما معنى ذلك سوى: "أن بنية التعليم التي يُعد الأستاذ عمادها لم تعد منتجة" ؟ اعتقد في النهاية أننا نسير نحو الخراب لا نحو البناء والتقدم كما يقول لنا رافعو شعار تطوير التعليم في العراق

القسم الاول