ادب وفن

في ذكرى بدر شاكر السياب / جاسم العايف


" دماغي
وارث الأجيال
عابرٌ
لجة الكون"- السياب
صباح /11 / نيسان/ 1964 مَثلنا أمام المجلس العرفي العسكري الأول، الذي عُقدتْ جلساته بمقر "القاعدة البحرية" في البصرة . خلال دقائق أنزلت بنا عقوبة السجن لمدد مختلفة، بالترافق مع الأشغال الشاقة.
مساءً حُشرنا داخل عربات حِمل البضائع في قطار محطة المعقل، ثم أنزلونا صباحاً، مقيدين، في مدينة "الحلة" وألقوا بنا في سجنها. يقوم عادة السجناء السياسيون بتنظيم حياتهم اليومية، ولمواجهة أيام السجن المرة والبائسة، واستمرار العيش فيه بطريقة منظمة، ثمة لجنة قيادية عليا، ينسجم تكوينها مع مستوى الدرجات الحزبية قبل دخول السجن، وتتفرع عنها لجان أدنى، لا علاقة لها بالدرجة الحزبية وهي تطوعية أساساً باستثناء مسؤولها، وتعمل على تسيير شؤون الحياة اليومية، من خلال اللجان الفرعية، أهمها: لجنة العلاقات العامة المختصة بالتعامل مع إدارة السجن والجهات الرسمية الأخرى، ولجان أخرى للطبخ وللصحة والخدمات والرياضة، واللجنة الثقافية بشقيها السياسي والأدبي - الفني، ولجنة الاحتفالات بالمناسبات الوطنية والأممية، وما أكثرها في ذلك الزمان؟!.
صحف السلطة تصلنا يومياً، أما الصحف السرية والوثائق الحزبية الخاصة الممنوعة فتصل بين حين وآخر، عبر شبكة سرية تعتمدها العائلات خلال المواجهات التي كانت في بداية كل شهر ومنتصفه، وكذلك بمعونة بعض السجانين المتعاطفين، أو ممن لديهم أخوة وأبناء وأقارب داخل السجن.
الكتب بأنواعها تصل عن طريق المتعهد الذي يرسل في كل أسبوع أو أقل عربة تضمّ عشرات الكتب والمجلات الحديثة من إصدارات دور النشر اللبنانية والمصرية والعراقية.
في أواسط عام 1964 بدأت الصحف تكتب عن الحالة الصحية المزرية والمرض الفتاك الذي ألم بالشاعر "بدر شاكر السياب"، نحن المهتمين بالأدب والفن والثقافة شُغلنا بذلك، ومع قلة عددنا إلا أننا كنا معروفين بين السجناء بنشاطنا الثقافي - الأدبي- الفني، ومن الأسماء المعروفة في سجن "القلعة القديمة"، التي تسمى بـين السجناء بـ "القلعة الخامسة" لسبب أجهله حتى اللحظة، الشاعر فاضل العزاوي والشاعر حسين الرفاعي، والكاتب والقاص الراحل خليل المياح، والصحفي عمران رشيد عمران، والفنان التشكيلي والنحات إبراهيم دراج، الذي فقد في الحرب العراقية - الإيرانية، والشاعر الشعبي المتميز المرحوم مجيد الخيون والشاعر الشعبي عبد الدايم السياب ، وتربطه صلة قرابة مع الشاعر بدر شاكر السياب وعاش معه في "جيكور". وفي السجن ذاته، ثمة "القلعة الجديدة" وهي بناية حديثة البناء ومفصولة بجدار عازلٍ عالٍ، عن شقيقتها "القلعة القديمة/ الخامسة". في "القلعة الجديدة"، ثمة بعض مَنْ يهتم بالنشاط الثقافي والفني والأدبي وفي مقدمتهم أستاذي، في مرحلة الدراسة المتوسطة، الدكتور لاحقاً، المرحوم هاشم الطعان، والفنان التشكيلي هادي الصكر، والصحفي والمترجم حسين فوزي الجاسم، والكاتب فاضل معتوق، والمخرج المسرحي قاسم الشبلي، والكاتب إبراهيم علاوي، وآخرون لا تسعفني الذاكرة الآن على تذكرهم .
أوائل عام 1965 كنت مع الشاعر فاضل العزاوي، نتجاذب أطراف الحديث همساً، في وقت متأخر من الليل، وكنا عادة نقرأ الى وقت متأخر جداً من الليل، والاستغراق في النوم لما بعد الظهر، قلت له: لماذا لا نقيم أمسية خاصة ببدر شاكر السياب بعد وفاته؟!. وظل موضوع أمسية "بدر" مثار حوار متواصلٍ بين فاضل العزاوي والراحل خليل المياح وبيني، بحكم العلاقة الوطيدة بيننا والاهتمامات التي نشترك فيها، وكنا على دراية تامة بسلوك بدر وعلاقته المعقدة جداً بالطيف السياسي المتواجد في السجن، وغالبيته من الشيوعيين وتقاطعه التام معهم والذي وصل حد العداء، و الاستعداء المشترك بينهما، بعد أكثر من عقد ونصف على وفاة بدر ألقى الضوء على هذا الأمر الشهيد الدكتور "صفاء الحافظ" في رسالة له وجهها من ألمانيا ونشرت في مجلة "الثقافة الجديدة" وتمنى فيها د. الحافظ أن لا يتكرر ما جرى مع بدر ،مع انه لم يكن توجهاً حزبياً رسمياً، مع أي فنان ومبدع عراقي. لقد سعينا في توجهنا حول أمسية "بدر"، إلى الارتفاع عن الصغائر والخلافات الضيقة، وفضلنا عدم التعامل مع شخصه شخصياً والذي خضع نهائياً لسلطة الغياب المادي المتمثل بالموت، وسيبقى بدر شاكر السياب الشاعر أرثاً ثقافياً كبيراً في خارطة الموروث الثقافي العراقي والعربي وحتى العالمي، شاء مَنْ شاء وأبى مَنْ أبى . ومن جهة أخرى كانت فكرة الأمسية في ذلك المكان والزمان، تعبر عن تحدٍ لنمط من السلوك السياسي، المغلق و المهيمن حينها، ويضع المثقفين في خانة "الخوارج" والتذبذب والتهميش والاندحار؟!. وحاولنا استحصال موافقة قيادة التنظيم العليا في السجن حول هذه الأمسية، لما لموضوع بدر وتحولاته السياسية ، من حساسية ستؤثر جداً في الرأي العام داخل السجن، وربما سيؤدى ذلك إلى انقسام فيه. وحصلت الموافقة على إقامة هذه الأمسية، بعد جهودٍ مضنيةٍ وشاقةٍ، لكنها كانت مشروطة بأن لا تُكرس تلك الأمسية لـ "بدر" وعلى أن تكون مفتوحة، ولا مانع من تخصيص محور خاص فيها لبدر "الشاعر" فقط. تلك الموافقة، على شرطها، كانت بادرة طيبة تكشفت عن جذور كامنة مهيأة للنمو في وجدان العراقيين وأعماقهم، وعلى مختلف مستوياتهم ومراكزهم وتوجهاتهم السياسية، لما يسمى حالياً بـ "ثقافة التسامح". وأقيمت الأمسية بالتزامن مع الذكرى الأربعينية لوفاة بدر شاكر السياب، وأسهم في الأمسية شعراء بالفصحى واللهجة الشعبية وقصاصون وكتاب كنت بينهم، إذ قدمت قراءة عن قصيدة السياب المعنونة" ارم ذات العماد" ورياديته الشعرية للحداثة العراقية - العربية كما تطرقت فيه إلى موقف السلطات المتعاقبة على حكم العراق منه ومرضه وموته غريباً، وبعيداً عن وطنه وأسرته. ثم قمنا بتهريب المواد الثقافية الخاصة بمحور "بدر" إلى ملحق "المنار الثقافي" وكان يصدر أسبوعياً ضمن صحيفة "المنار" اليومية التي تصدر في بغداد، وقد نُشرت تلك المواد وبأسمائِنا، في أعداد متفرقة، دون أن نشير إلى مناسبتها، والتي اعتبرناها بمثابة "التأبين الأربعيني الأول" له، والذي أقمناه داخل أسوار سجن الحلة المركزي وفي "القلعة الخامسة" تحديداً.
عاصر "بدر" التحولات القاسية الصاخبة المريرة العنيفة التي مرت بالعراق وشعبه، وحمل قيم الحداثة الشعرية العراقية للعالم العربي ومنه إلى العالم أجمع، وساهم فعلياً و شعرياً في كل احداث العراق منذ الأربعينات مستخدماً التراث العالمي وأساطير بلاد وادي الرافدين وكذلك التراث العربي والشعبي العراقي.
بدأ بدر النشر منذ العام 1941 لغاية وفاته في المستشفى الأميري بالكويت بتاريخ، اليوم الموافق، 24 /12 / 1964، ويبلغ عدد قصائده المنشورة في دواوين شعرية عدة "246" قصيدة متعددة التوجهات الخاصة والاجتماعية العامة المحلية والعربية والعالمية، ويختلف الشاعر الراحل"حسين عبد اللطيف والشاعر والباحث محمد صالح عبد الرضا" في عدد القصائد التي كتبها بدر إذ يؤكدان إن العدد أكثر من ذلك بموجب وثائق يحتفظان بها أو اطلاعا عليها خاصة بـه. تناول "بدر" في قصائده عدداً من الأحداث والشخصيات العالمية و العربية التي أثرت في صياغة الحياة العراقية والعربية والعالمية، قديماً وحديثاً، ومنها قصيدته التي ألقاها عام 1960 في حفل بمناسبة "ليلة القدر" وعثر عليها بخطه في "مكتبة قضاء الزبير العامة"، وكذلك قصيدته المعنونة "مولد المختار" والتي ألقاها عام 1961 في منطقة "الأبلة" بمناسبة مولد الرسول محمد "ص"، ووجدت في شريط مسجل بصوته، في مكتبة جامع العلامة "السيد عبد الحكيم الموسوي"، وقد تم العثور على القصيدتين بعد وفاته من قبل الشاعر الراحل مؤيد العبد الواحد ونشرتا في المجلد الثاني من المؤلفات الشعرية الكاملة لبدر- دار العودة / بيروت 1974 / مدخل وتقديم ناجي علوش. كما استخدم "بدر" بعض الشخصيات العالمية والعربية،الإسلامية التاريخية تحديداً، كرمز للتمرد والاحتجاج على هضم حقوق البشر وقوت الفقراء من قبل السلطات الجائرة والحكام الظَلمة والفاسدين وسراق الأموال العامة ودعوتهم المتواصلة للدفاع عن حقوق الناس التي لا نزاع عليها في العيش الآمن الرغيد. وكذلك هجا "يزيد" في قصيدة له سنة 1948، وألقاها في ثانوية العشار في البصرة مؤبناً الامام الحسين "ع" كرمز للثورة على الظلم والفساد والطغيان.
استطاع " بدر " بما امتلكه من قدرات شعرية غنية أن يعبر عن ذاته القلقة المعذبة وأن يحول بعض تجاربه الحياتية الشخصية و السياسية، المُخفقة، إلى نصوص شعرية متألقة، وأن يضع وطنه العراق ومدينته البصرة، وقريته التي ولد فيها،جيكور" النائمة في ظلام السنين" وحكاياتها الخرافية وما تنطوي عليه من "ميثلوجيا" محلية وخصوصية جنوبية، وشخصياتها البسيطة، ونهرها الصغير "بويب" المجهول لنسبة كبيرة من سكان البصرة بالذات ،ناهيك عن العراقيين، والذي لا يؤشر عليه حتى في الخارطة الجغرافية للعراق، في قلب العالم, في صورة أساطير ووقائع ترتبط بالحياة المحلية، وعلى رغم محنه الحياتية، وتحولاته الفكرية وتناقضاته السياسية الحادة، التي أجهد نفسه لأن يجد المبررات الذاتية لها، بالترافق مع حياته المريرة، فانه شعرياً يعلو فوق روحه وحياته الشقيتين وهذه مسألة لا يمكن دحضها أو تجاهلها، لأن الشعر يملك سعاداته وهناءاته ومواقفه الخاصة - العامة مهما كان مستوى وحجم الأحداث، التي ينطلق منها أو يتناولها.