ادب وفن

مراسيم خاصة 6 / مزهر بن مدلول

دفتر عواطفي!
استيقظت فجأة من نوم ثقيل مشحون بالنسيان، كان الوقت بين الخامسة والسادسة صباحا، والنهار بدأ من اوله حارا وموحشا رغم نسمات الفجر العابقة بالطمأنينة، وقفت بجوار (عين الماء) الشحيحة، وتأملت (الانصار) الذين مازال بعضهم مطويا على اطرافه، والبعض الاخر غاطسا في صمته، فتراءى لي عالم غريب في تلك اللحظة!، او بكلمة اخرى ومضة عابرة من ومضات الاحساس بعبث الدور الذي نقوم به، فهؤلاء (الانصار) الذين تشققت اقدامهم من كثرة ارتطامها بالصخور يترفعون على الاذي ويظنون بأنهم يحملون اعباء العراق على اكتافهم!، لقد كانوا يدخلون من الباب الخفي ليتقمصوا شخصية (حفار القبور) في (مسرحية هاملت) هربا من طغيان الجبل!.
انطلقتْ مني زفرة أسىً لهذا المشهد التراجيكوميدي!، ثم انحنيت لأملأ (زمزميتي) بالماء، كنت شديد الحذر من (الدودة) التي وجدتْ لها مرتعا في حلق النصير (سليم نفط) وجعلته يتقيأ دما، لاتستغربوا، ففي هذه الجبال وهي اخر حدود البلاد، تعيش معنا كائنات (عجيبة غريبة) كما ايبولا وجنون البقر في وقتنا الحاضر!، وماعليك الاّ ان تتصدى لها بقوتك الجسدية وتركيزك الشديد ونسيان عالمك الروحي!، اما التفكير بغير ذلك، فما هو الاّ نوبات صداع من شأنها ان تقضي على هدوئك!.
تحركت المفرزة من هذا المكان الذي كنت اسميه ب(التقاطع)، لأني لا اعرف له اسما باللغة الكردية، ولأنّ طرق عديدة تتقاطع فيه، وكل طريق يقودك الى جهة مختلفة، فمن اليمين يأخذنا الى (زيتا) التركية، ومن اليسار الى جبل (شيرين)، ومن الاعلى الى (نهر الشين وقاطع بهدينان)، كما يؤدي من الاسفل الى منطقة (لولان وسوران)، وهذه العين التي تقع اسفل قرية (ادلبي) تنفتح على منخفض واسع ينتهي بسلسلة جبلية تسيطر عليها قوات السلطة، والذي ينظر الى تلك الجبال المخيفة يصاب بضعف جهاز المناعة!، حيث الصخور العارية تبدو مثل اشباح عنيفة متربصة تشعرك وكأنّ الشمس لاتشرق ولاتغيب في هذا المكان ابدا!.
كان عدد افراد المفرزة كبيرا، وكان النصير (ابو رائد الشايب) هو آمر المفرزة ودليلها من بهدينان الى سوران، والمسافة المتبقية لكي نصل الى (المقر) تستغرق منّا النهار كله، ولكن بسبب ثقل المفرزة ووجود انصار كبار بالسن، تاخرنا كثيرا، حتى عمّ الظلام وتفاقم التعب والمفرزة مازالت في (ده شت براز كرت).
عندما عبرنا (الروبار) الى الجهة الاخرى، غيّر آمر المفرزة رأيه، وقرّر ان ننام في قرية تبعد ساعة من هنا، لكني رفضت تلك الفكرة، وحاولت ان استميله واشرح له، بأنّ هذه القرية الفقيرة لا توفر لنا اي مقدار من الراحة، لذلك علينا ان نواصل مسيرتنا الى (المقر)، لا سيما وان الطريق لم يبق منه سوى ثلاث ساعات فقط، دار بيننا حوار، ثم علت اصواتنا حتى كاد النقاش يصل الى مشاجرة!، ولمّا فشلت في اقناعه وعدوله عن رأيه، قررت ان اترك المفرزة واذهب الى (المقر) وحدي!.
قبل ان اضيع في الوديان، لا بد ان اقول بعض الكلمات بحق هذا النصير الجميل، صديقي الذي اكلت وشربت ونمت في بيته عندما كنّا نعيش في اليمن الجنوبية، ترك (ابو رائد) زوجة جميلة وابنين هما (حسن وزينب) والتحق بحركة الانصار، كان نشيطا ومبادرا، وفي نفس الوقت كان عنيدا لا يتردد عن ارتكاب اية فعلة عندما يشتد غضبه!، عمل دليلا بين سوران وبهدينان، واستطاع ان يقود مفارزا كثيرة للافراد والسلاح والبريد، كان قلبه مفعما بالامنيات، واهم تلك الامنيات التي اعتلت مسرح حياته الجبلية هي ان يرى (حسن) ولو للمرة الاخيرة!.
(آخ يا حسن)، تخرج بعفوية ومن دون عناء، تخرج في لحظات الفرح او عندما تقترب رائحة الموت!، كان (ابو رائد) من الذين اصيبوا بالسلاح الكيمياوي في (كَلي زيوة)، وسببت له الغازات حروقا في الجلد وافقدته حاسة البصر لعدة ايام، وكلما عاودته نوبة سعال حادة، ردّد بألم ( تيتم حسن، اخ يا حسن).
وفي مفارقة اخرى، كنت واياه نتبارى في شدّ السلاح على ظهر البغل، وما ان اقتربت من رأس الحيوان لكي الفّ الحبل (الوريس) على صدره حتى فاجأني بعضة قوية تحت عيني اليسرى!، فأمتلأ وجهي بالدماء، وبدلا من ان يركض (ابو رائد) لنجدتي، رأيته وقد ادار لي ظهره، وجلس على الارض غارقا في ضحك عميق ومحبوس وبين شهقة ضحك واخرى (اخ ياحسن)!.
اتجهت المفرزة نحو الجنوب، بينما سلكتُ الطريق الذي يؤدي الى الشرق، افترقنا انا وابو رائد وفي داخلنا مشاعر ندم، كان الظلام شديدا، وكنت واثقا من معرفتي التامة بجغرافية المنطقة، فبدأت بخطوات سريعة، وكنت مصرا على قطع المسافة بساعتين او اقل من ذلك، صعدت تلالا كثيرة، وهبطت الى وديان سحيقة، مشيت في طرق تتعرج وتلتفّ، تلتقي وتفترق، حتى جعلتني اعتقد بأني ادور حول نفسي!، بدأ الظلام بمشاغبة البصر، وراحت مسامعي تلتقط اصواتا غريبة، وكلما سمعت بحركة ما، كمنتُ على جانب الطريق، كنتُ خائفا من ذلك اللامرئي الذي سوف يداهمني على حين فجأة!.
فقدَ رأسي قوامه، واختلطتْ فيه الاتجاهات، حتى رأيتني اقف على حافة سفح شديد الانحدار، ومزدحم بالاشجار والصخور، ولا اثر لطريق فيه، وكل ما هو واضح تلاشى في هذه العتمة الطاغية، وعندما صفنت لأستعيد توازني، شاهدت بصيص ضوء يظهر ثم يختفي في اسفل الوادي البعيد، فغمرني الهدوء، وقررت ان امشي بذلك الأتجاه.
نزلت من السفح، وكلما قطعت مسافة منه، ازداد انحدارا، كنت امسك بأغصان الاشجار وأتشبث بالصخور لكي لا تنزلق قدمي، كنت اتدحرج، ضائع، مهموم وبائس، نظراتي لاتحيد عن ذلك الضوء الذي كلما اقتربت منه يبتعد اكثر، ماذا لو كان مجرد خداع بصري!؟، ماعساني ان افعل لو ان ذلك النور كان وميضا لعيني ذئب او ايّ حيوان اخر مفترس!؟، اسئلة ترددت في لحظة خوف ثم اختفت من دون ان تنتظر جواب!.
وبعد ما يزيد عن اربع ساعات من الضياع والقلق، وصلت بأنفاس متقطعة وساقين يترنحان، طرقت الباب، فاستقبلني القروي بدهشة وخوف لم تستطع عيناه اخفاءهما، طلبت منه ان انام فوق السطح، وعلى الرغم من انّ جفني لم يغمض في تلك الليلة، لكنّ (دفتر عواطفي) الذي حلقتْ روحي فوق سطوره!، وسال على صفحاته عبثي الطفولي!، تركته تحت المخدة، ومازال هناك حتى هذه اللحظة!!.