ادب وفن

في ذكرى السياب :قصيدة «هل كان حباً».. مقاربة شكلية إحصائية / ريسان الخزعلي

1- كلما اقترب يوم 24 كانون أول من كل عام، يحضر السياب بقوة في الذاكرة الشعرية، لا يحضر موته، يحضر وجوده الشعري، وتبدأ العودة إليه من جديد تمعناً في حداثة أسلوبه التجديدي؛ وتحضر البداية التي حاولها وأشارت إليه كمجدد.
وهذه البداية في كل لحظة مطالعة يغريك بالمراودة والمطاردة، لأن تكشف، وتكتشف، إنها قصيدة "هل كان حباً".
2- القصيدة كتبت بأربعة مقاطع، كل مقطع يتألف من سبعة أسطر عمودية التتابع، أي لا وجود لأية أفقية كما هو معتاد في القصيدة ذات الشطر والعجز. والعدد "7" في شكل وبناء الشعر له دلالته المعروفة.
3- القصيدة مبنية عروضياً على البحر الخليلي/ الرمل وتفعيلته الأساسية "فاعلاتن". والبحر يتكون من ست تفاعيل، ومن أربع تفاعيل حينما يكون مجزوءاً.
وقد التزم السياب بالتفعيلة الأساسية، ولم يخرج إلى تحولاتها إلا ما ندر.
4- أدرج القصيدة، أدناه، كما جاءت في المجموعة الشعرية الكاملة الصادرة عن دار مية السورية عام 2006، مثبتاً عدد التفعيلات أمام كل سطر شعري فيها:
القصيدة: "هل كان حباً..؟" عدد التفعيلات
هل تُسمين الذي ألقى هياما؟ 3
أم جنوناً بالأماني؟ أم غراما؟ 3
ما يكونُ الحبُ؟ نوحاً وابتساما؟ 3
أم خُفوقَ الأضلع الحرّى، أذا حانَ التلاقي 4
بين عينينا، فأطرقتُ، فراراً باشتياقي 4
عن سماءٍ ليس تسقيني، إذا ما 3
جئتها مستسقياً، إلا أواما 3
ــــــــــــــــ
23
* * * * * *
العيونُ الحور، لو أصبحن ظِلاً في شرابي 4
جفت الأقداحُ في ايدي صحابي 3
دونَ ان يحظينَ حتى بالحبابِ 3
هيئي، يا كأسُ، من حافاتكِ السكرى، مكانا 4
تتلاقى فيه، يوماً، شفتانا 3
في خفوقٍ والتهابِ 3
وابتعادٍ شاعَ في آفاقهِ ظلُّ اقترابِ 4
ـــــــــــ
23
* * * * * *
كم تمنى قلبي المكلومُ لو لم تستجيبي 4
من بعيدٍ للهوى، أو من قريبِ 3
آه لو لم تعرفي، قبلَ التلاقي، من حبيبِ 4
أيُّ ثغرٍ مسَّ هاتيكِ الشفاها؟ 3
ساكباً شكواهُ آهاً.. ثم آها 3
غير أني جاهلٌ معنى سؤالي عن هواها 4
أهو شيءٌ من هواها يا هواها ؟ 3
ـــــــــ
24
* * * * * *
أحسدُ الضوءَ الطروبا 2
موشكاً، مما يلاقي، أن يذوبا 3
في رباطٍ أوسعَ الشعرَ التثاما 3
السماءُ البكرُ من ألوانهِ آناً، وآنا 4
لا يُنيلُ الطرفَ إلا أرجوانا 3
ليتَ قلبي لمحةٌ من ذلكَ الضوءِ السجينِ 4
أهو حبٌّ كل هذا؟!.. خبرّيني 3
ـــــــــــ
22
مجموع التفاعيل في المقاطع الأربعة = 92
ولو التزم الشاعر بالشكل الأول لكتابة القصيدة "الصدر والعجز" لألزمه ذلك "84" تفعيلة، أي أن الذي حصل في الشكل الجديد هو زيادة ثمان تفاعيل. فهل زيادة التفاعيل تشير إلى التجديد في شكل السياب هذا؟
5- في كل مقطع من المقاطع الثلاثة، هناك بيت شعري يتكون من ست تفعيلات، كُتب بشكل عمودي، إلا أن حقيقة شكله هي الأفقية، فهل أراد السياب من ذلك خلق إيهام شكلي بصري؟:
المقطع الأول:
هل تسمين الذي ألقى هياماً
أم جنوناً بالأماني، أم غراما؟
المقطع الثاني:
جفّت الأقداحُ في أيدي صحابي
دونَ ان يحظينَ حتى بالحبابِ
المقطع الثالث:
أيُّ ثغرٍ مسَّ هاتيكِ الشفاها؟
ساكباً شكواهُ آهاً.. ثم آها
المقطع الرابع:
موشكاً، مما يلاقي، ان يذوبا
في رباطٍ أوسعَ الشعرَ التثاما
"يمكن ملاحظة التزام الشاعر في الأبيات الثلاثة الأولى اعلاه بنظام تقفية الصدر والعجز وكذلك الروي الواحد، أي البيت المصرّع/ من التصريع/"، كما ان نظام الروي في مقاطع القصيدة يأخذ النماذج الآتية وحسب تسلسل المقاطع:
(أ،ب،أ)، (أ،ب،أ)، (أ،ب،ب)، (أ،ب،جـ ،د) أي ان مشترك نظام الروي هو (أ،ب). وهذا النظام يرتبط بشكل الموشحات.
6- السياب، إذن، في هذه القصيدة كان ملتزماً كلياً بالوزن الخليلي، وملتزماً بنظام روي وتقفية ذات صلة بشعر سابق، وان الذي حصل، وكما موضح في عمود.
عدد التفعيلات، هو إما المحافظة على عدد التفعيلات في السطر الشعري (3)، او زيادة تفعيلة واحدة (4)، وان إنقاص تفعيلة واحدة (2). وحينما يحافظ على العدد (3) في السطر الشعري فهو في البحر (الرمل المتكامل)، وحينما يُزيد أو ينقص (4،2) فهو في مجزوء البحر. إذن، هو في ايقاع، وموسيقى عروضية.
7- ان التوصيف الذي حصل لهذا القصيدة، بأنها شعر حر، قد جاء من زيادة او نقصان في عدد التفعيلات، وهذا غير التوصيف الذي يدل عليه معنى (Free Verse) وبذلك يكون التوصيف (شعر التفعيلة) هو الأدق والألصق، حيث تم إستدراك ذلك حقاً.
8- القصيدة مكتوبة بتاريخ 29/11/1964، ولم نجد قصيدة مشابهة لبنائها، سواء كان ذلك عام 1946 او 1947. فهل كان السياب في موقف تردد في مواصلة تأصيل النموذج هذا؟ أم لم يكن قد توافر على قدرٍ من الوثوقية بما فعل؟، وان إنتباه القراءة والكشف النقدي بعد ذلك، هما من اشارا اليه بالجديد في هذه القصيدة وسارع في هذا التحول الشعري الذي أحدث هزة في الشعرية العربية، وأوجد قصيدة تفعيلة بطرائق تختلف عما كان في قصيدة "هل كان حباً".
9- ان التجديد ووعي التجديد "ثقافة وموهبة وتجربة" ولا يمكن ان يحصلا بالمصادفة، وسيبقى السياب حضوراً شعرياً مستمرا يثير الأسئلة والأسئلة.
10- في الشكل البياني الآتي، يمكن ملاحظة الفرق بين الشكل الأساس للبحر بيانياً، وما أحدثه السياب من زيادة في عدد التفعيلات في هذه القصيدة، وكيف أصبح الشكل البياني الجديد؟
الشكل البياني الأساس يمثله المستقيم AB، أما الشكل البياني السيابي فيمثله مجموع المستقيمات (CD+DE+EF). وقد يبدو بصرياً ان (AB=CD+DE+EF) إلا أن التحليل الرياضي يُثبت ان مجموع أطوال المستقيمات أكبر من طول المستقيم AB، حيث أن التحليل الرياضي "تحليل المثلثات" يوضح ان: [AB=CD+DECosx+EFc0sx].. وتلك هي حقيقة الاجتهاد الرياضي السيابي في زيادة التفعيلات في قصيدة "هل كان حباً؟" نوضحها بيانياً "والشاعر قطعاً لم يكن يقصد هذا التحليل الرياضي" لأنه في موقف عروض/ موسيقي، لا في موقف التحليل البياني، رغم ان شعرية السياب التحديثية قد احتملت الكثير من التحليلات الصوتية والعروضية الحروفية: