ادب وفن

صورة داعش / عبد جعفر

كمركب غارق يستطيل شبحه بالعتمة ويتموج كلما لمعت الأضواء من بعيد، بدأت الأشياء تتضح لناظرها من بساتين وأبنية وشوارع وبيوت.
تعجب أبو صفو من نومه لساعات بلا أحلام أستقر بها على العشب الأخضر كحجارة تدحرجت من الأعلى واستقرت في واد سحيق.
حاول أبو صفو أن يعرف أين هو الآن؟ الذاكرة استعصت على النطق وتمسكت بالفقدان، ماذا لو يدندن بأغنية يكسر فيها وحشة الليل ويحس أن له صوتا.. بدا أن ذلك محالا فكل الأشياء تتسرب ماء مندلقا يغيب في جوف جسد متخشب، له رأس خشبي وفم خشبي، ولسان خشبي، ويدان وقدمان خشبيتان.
طمأن أبو صفو نفسه أنه في حلم أو كابوس في أسوأ الأحوال. قرر أن يغمض عينيه ليستعيد نهارا لشوارع تتشابك بها خضرة الأشجار ويزدحم فيها البشر مع السيارات ويعلو فيها صخب الباعة، دخل مقهى النت وفتح جهاز الكومبيوتر، طالعه وجهه في رأسه المقطوع متطلعا إلى شاربيه الأبيضين الملوثين بالتراب والدم وقارنها بصورته الأخرى وهو يبتسم رغم التجاعيد وعجز الأيام من فرض كآبتها عليه. تساءل من صاحب الصورة؟ أراد أن يضحك على سؤاله الغبي. تذكر أن لا لسان لديه وأن الضحك غاب مع الأشياء الأخرى يستعصي حضورها.
الأسئلة المقلقة تحاصره، ذهب إلى مرآة بيته بشجاعة يحسد عليها، طالعه شبح غارق في الظلمة وكلما حاول أن يتحسس وجهه تذهب أصابعه إلى فراغ متناه.
إحتار أبو صفو وقرر أن يستيقظ معتقدا أن الكوابيس لن تزوره في اليقظة.
سمع أبو صفو أحدهم يقول:
- إنه مجهول الهوية!
ضحك أبو صفو عاليا بلا فم وعيون مفتوحة، مؤكدا أن الضحك ليس دائما بالفم. فالبحر يضحك بزبده مع الرمل والسماء تقهقه حين ترى الماء الصاعد إليها وهو يحاول بغباء حجب زرقتها، والصحراء تبتسم بخجل للذين يستمتعون بعري كثبانها، والأشجار تكركر لعصافيرها وهي تدغدع ذراعيها بالزقزقات.
- أنا أبو صفو!أنا الذي يضحك!
تركه الجميع ومضوا، فقرر أبو صفو أن ينام. الصحو أيضا مدعاة للقلق، وأن أصل الكوابيس منه. فربما يكون النوم إستيقاظ آخر لا تعرفه الذاكرة، ساعتها أخبرته زوجته أن أشباحا سوداء غزت المدينة وأنها لا تبقي ولا تذر. ظل ساهما ينظر إليها، وهي تكرر حكايتها بلا توقف، ولكنها قطعتها صارخة:
- علينا أن نرحل!
فقال لها كأن يرد تهمة الضعف عنه:
- لن أرحل!
- ولكنهم ...!
- اذهبي ..
- سأبقى معك!
-لا..
قال لها بصوت مدو وأرتجف شارباه قبل يديه. ليعلن للجدران والسقوف والأشجار وحدته ودعوته أن تمده بالدفء والظل وتستمع إلى حكاياته ومغامراته والى نجواه لزمن الخضرة والحقل اللذين نما معهما وكبر.
تطلع إلى النافذة ،أغراه السكون والنهار المشمس في الذهاب إلى المقهى، لم يعر إنتباها لتراكض الناس ولعلعة الرصاص، مر بقربه مطادرون وهاربون، لم يلتفت إليهم أو إلى نداءاتهم وتعجب من أن شعوره أصبح حجرا إتجاههم. الى أين يمضون؟ وكيف يقدرون على التنفس في مكان آخر؟ إحتار في أمره، حين وجد المقهى والمحلات مغلقة وغارقة بالصمت الموحش. قرر أن يعود لبيته وعزلته ويعترف أن كل شيء يضيق عليه، فروحه تهبط إلى مجاهل الخوف وتزداد نبضات قلبه كلما بدأ الرصاص يئز بقربه.
حث الخطى، قبل أن يوقفه شبح أسود مسلح طالبا منه أن يرفع يديه، تسمرت قدماه وارتعشت سنواته المعتبة وأضاءت عيناه بالاستفهام والدهشة.
تأفف أبو صفو من نومه ويقظته مقتعنا أن النوم أيضا إبحار في مسالك غير آمنة. وفكر بطريقة تجمع بين اليقظة والمنام وأستغرق بالتفكير.
فتح عينيه وجد قامة طويلة مجللة بالسواد بوجه ملتح يصرخ به:
- أيها الهرم أين خبأت نقودك؟
- .................
إرتعش وجهه بعد صفعة قوية من القامة الطويلة، ليواجه سؤالا آخر.
- لم لم تعلن التوبة...
لم تصفعه القامة المجللة بالسواد بل رنت في إذنه ضحكة داعرة وقرار لا عودة فيه.
- س.....
مدت أليه أياد قوية سحلت سنواته الثمانين على وخز الحصى والشوك وطلبت منه أن ينحني.
سمع كلمة تكبير، ثم مرت نار حادة دحرجت حبه الأول وقبلته الأولى واحرقت أوراق نبتته الخضراء ، وأسقطت تثاؤب خاصرة بيته على مزرعته، وناثرت ملاعب الطفولة مثل طير مصاب يحاول أن يهدىء خفق جناحيه في دق باب السماء.
- لا!
أخر كلمة سمعها أبو صفو من امرأة مرت قربه، ولكنه لم يستطع أن يفتح عينيه ليراها أو يتعرف على هذه النائحة، كما لم يستطع أن يبتسم أمام أضواء عدسات الكاميرات المتساقطة بشدة على وجهه.
هل يلملم جسده ويمسح الدم المتساقط على قميصه وأن يضع الابتسامة على وجهه قبل ان يعود إلى البيت؟
أعاد وضع رأسه، فتحركت اليدان ورسمت دائرة كبيرة وأحاطها بالحصى مؤشرا الى محيطه وبيته الجديد، دخل مساحتها ومد جسده باسترخاء واضعا رأسه باتجاه جبل سنجار مؤقتا أن الأشباح السوداء لن تقوى على دخولها. وأن الملاك يظل يراقبه ويدثره حين يبرد وأن روحه لن يستطيع أن يقطعها السيف.