ادب وفن

«طشاري».. حنين السرد إلى وطن يضيع! / عامر هشام الصفار

أصدرت الروائية والصحافية العراقية إنعام كجه جي، المقيمة في باريس روايتها الجديدة "طشّاري" عن دار الجديد في طبعتين، كانت أولاهما في صيف عام 2013، أما الثانية فكانت في ربيع عام 2014. وقد جاءت الرواية في 250 صفحة من القطع المتوسط، ومهداة إلى ماهي شمّاس "لا أعرف عن ماهيته/ ها شيئا، وشّماس اسم يعود لجذور سريانية" لتكون رواية الشتات العراقي. وقد استهلّتها المؤلفة الواثقة من حبكتها وبنائها بمقطع من قصيدة بدر شاكرالسيّاب التي يقول فيها: لو جئتِ في البلد الغريب إليَّ ما كَمُلَ اللقاء.
الملتقى بكِ والعراق على يديّ هو اللقاء
وتُسرَد الحكاية على لسان طبيبة عراقية مسيحية من مدينة الموصل، تخرجت من كلية طب جامعة بغداد لتواصل خدمتها الطبية لأبناء مدينة الديوانية، بل قل لبناتها وسيداتها حيث كانت تعمل في مجال طب النسائية والتوليد. والروائية إنعام كجه جي صحافية مارست مهنتها لسنين طوال وما زالت، فما كان من قلمها وخيالها الاّ أن يتأثرا بواقع الصحافة والكتابة الصحافية من تحرير خبر أو كتابة تحقيق صحافي يستجوب أشخاصا ويبحث عن مستور مخفي.
وقد قسّمت الرواية إلى 40 فصلا، تبادلت فيها الراوية العليمة القص خارج حدود الوطن هجرةً والبقاء داخله معاناة ما بعدها معاناة. فقد راحت فصول الرواية جميعها تتناقل الماضي والحاضر للطبيبة وعائلتها من والديها وزوجها وبنتها وولدها وما له علاقة بعلاقاتهم الاجتماعية التي تفرضها ظروف الحياة التي تختلف من شخص لآخر. وهكذا تتاح الفرصة للكاتبة أن تستعرض زمنا يمتد على ما يقرب من 80 عاما هو عمر الشخصية الرئيسة الدكتورة وردية إسكندر في الرواية وعمر نشوء الدولة العراقية ذاتها. فكأن الوردية "الطبيبة" هي كناية عن وطن، فيصبح الحديث عن شتات وردية وعائلتها دلالة ومعادلا موضوعيا عن تشتت الوطن نفسه وانقسامه على بعضه. ولعمري فإن الأحداث السياسية المتسارعة على الأرض تظل سابقة على ما يكتبه الكتّاب والروائيون. فإذا كانت الشخصية الرئيسة في رواية "طشّاري" من الموصل الحدباء، فإن هذه المدينة غيرها اليوم، وقس على ذلك مما تتناوله الرواية من أحداث بغدادية أو ديوانية، "نسبة إلى مدينتي بغداد والديوانية".
ولعل ما يلفت الانتباه حقا هو أن الكاتبة وهي تقص للقارئ حكاية وردية مستخدمة ضمير الغائب في أكثر الفصول وعلى لسان راوٍ عليم، إنما تركز على حياة شخصيات الرواية في الداخل العراقي، رغم وجود هذه الشخصيات في الخارج هجرة ولجوءا بعد سقوط بغداد واحتلالها عام 2003. وهي بذلك لا تخرج إلى المرحلة الثانية من مهمات السرد العراقي بخصوصيته، وكنا نتوقع أن تتناول حياة الأجيال العراقية المهاجرة إلى دول العالم المختلفة. فقد فصلّت الرواية عن حياة وردية وعملها الطبي في مدينة جنوبية عراقية لها تقاليدها العشائرية التي تجعل لسيدة من المدينة مثل العلوية شذرة تأثيرها الذي لا ينازع فيه على مجريات الأمور من دون أن نغفل ما يعتمل في الواقع السياسي والاجتماعي لتلك المدينة التي لا تختلف جذريا عن مدن العراق الأخرى. فلم يعرف العراق الاّ تعايشا سلميا بين أفراد المجتمع وفسيفسائه المعروفة، التي كانت مضرب الأمثال في التعايش والتفاهم والمودة.
وهكذا راحت كجه جي تستعرض حياة وردية العراقية بتفصيل فيه من الدقة العلمية ما يعطي الانطباع بأنها قد بحثت في شؤون الطب والصحة عراقيا وعالميا. وهو الأمر الواضح بعد أن يستزيد قارئ الرواية سردا عن حياة هندة ابنة وردية وهي تكمل مسيرة دراساتها العليا في الطب بكندا، حيث نظامها ألامتحاني الخاص وطبيعة العمل الطبي الخاصة.
مقبرة إفتراضية للعراقيين
وكان لابد من ضربة صحافية في رواية كجه جي "طشّاري"، حيث يسعى إسكندر الابن الذي له خبرته في الكمبيوتر إلى تصميم مقبرة افتراضية على الشبكة العنكبوتية للأموات والأحياء العراقيين، حيث يخصّصها للحالات غير الاعتيادية، كناية عما تعرضت له الشخصية من معاناة وعذابات في الحياة حتى يضمن لها مكانا في مقبرته الافتراضية هذه. وفي الفصول الأخيرة من الرواية سعت الراوية لأن تضمّن كل ما قد يمر بخاطر الإنسان العراقي من شواهد وطنية، سواء كانت على الجانب الفني أم السياسي أم الاجتماعي العام العراقي كمعنى ودلالة على حنين الرواية للوطن الذي تطشرّ ناسه، رافعة بذلك من المستوى العاطفي في لغة السرد التي تميزت بسهولتها وعذوبتها وشفافيتها وقربها من لغة الصحافة، من دون إسهاب ممل أو أطناب غير مرغوب فيه أو لا طائل من ورائه.
ففي انزياحها اللغوي تذكر بلاد ألف ليلة وليلة بدلا مما هو معروف عن بغداد، المدينة التي نصفها بأرض ألف ليلة وليلة، ثم أنها تشير في ص ٢40 إلى الناشطين الإلكترونيين العراقيين المذهلين كما تصفهم وهم يتجولون افتراضيا في وطن تظهر صوره على شاشات الحاسوب لا غير. فتأتي النساء المحجبات والسافرات ولابسات العباءة، ويطلع على الشاشة المعمَّمون والرهبان والصوفيون وضاربو الدرباشة وباعة الشلغم والسميط وشربت الرمان والضباط المتقاعدون، حملة نياشين الحروب…. ولعل في تساؤل الرواية في سطرها الأخير: أمَا يشبعون من الدم؟ المغزى، حيث السعي لكي تجعل من قارئها باحثا معها عن جواب أضنى الحكماء والعقلاء.
إن رواية "طشّاري" بتعدد فضاءاتها وتبئير سردها حول شخصياتها المحددة والمأزومة بشكل أو بآخر، وبإشاراتها المتعددة إلى مدلولات شعبية اجتماعية محببة لا تغفلها عين القارئ الفاحصة، إنما تعتبر إضافة نوعية مهمة للسرد الروائي العراقي في سنوات ما بعد 2003 التي تتناول حقيقة التفتّت الاجتماعي الذي أصاب لحمة المجتمع العراقي من خلال هجرة إجبارية لخيرة أبناء وطن عانى ما عانى عبر حقب تاريخه السياسي المضطرب، من دون أن تتشعب فتضيف أبعادا أخرى لحكاياتها، بأن تذكر مثلا اغتيالات الأطباء في العراق وعمليات خطفهم التي جرت وسجلت ضد مجهول. ولا أنسى إشارة الرواية هنا في ص 249 إلى أنه "يولد العراقيون فرادى ويموتون جماعات". وعودة لغلاف الرواية فقد كان التصميم قائما على صورة لطبيبة جرّاحة لا علاقة لها بالصفة الطشّارية للرواية، سوى الإشارة على الغلاف الداخلي من أن الصورة هي من أرشيف المؤلفة الشخصي، وكأنها تريد أن تقول إنها ستسرد ذاتها في رواية حصلت على منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون، ونجحت في الوصول إلى القائمة الصغيرة الأخيرة لجائزة الرواية العربية أو البوكر لعام 2014. وعندي أن عتبة الرواية في عنوانها الدال عليها قد أعطتها صفة غامضة اضطرتها لتفصيل المعنى في متن السرد، رغم استخدامها لاسم مشتق من فعل له جذوره في اللغة العامية العراقية. ان المسؤولية التاريخية للأدباء والمثقفين العراقيين إنما تلقي على كاهلهم مهمة سبر أغوار واقع مريض لا يعبر عن حقيقة الوطن وصولا لرسم ملامح مستقبل أفضل ولو عن طريق الرواية التي تمزج واقعها بالخيال.