ادب وفن

سيميائية العرض الصوري.. «هامش» أنموذجاً / ناجح المعموري

لعبت العنونة دوراً مركزياً في جذب التلقي والتأثير عليه ووضعه في جوهر المعروض المتنوع والمتضاد بوضوح تام. والدلالة التي تشير إليها العنونة معروفة، لكنها غير محددة، فالهامش متحرك وغير محكوم بالثبات، حتى المراكز لديها هوامشها. بمعنى الرؤية جعلت من الهامش مفهوماً متسعاً، وبالإمكان وجوده، أو اقتراحه. لكن العرض الصوري/ الفلمي أضفى على الهامش حضوراً متمتعاً بهيمنة صادمة.
ولم تكتف الرؤية الإخراجية بمفردة الهامش، بل تم تفكيك المفردة "هـ . ا . م . ش" وللتفكيك دور مهم في هذا العرض ـ كما قلت ـ والعودة للحروف المكونة لمفردة "هامش" سنجدها صادقة جداً وكأنها تعلن اتهاماً ضد الجماعات، وحتى حشد المتلقين. وعودة لقراءة الحروف المفككة كمقترح "ها. مش" فإنها تنطوي على خطاب تهديدي للمشاهد أو المتلقي، أو الحاضر كطرف متعايش مع تنوعات الوحدات المشكلة لجهاز الخطاب غير البريء. وصياغة لغة تفضي لمفهوم محدد، يضع أمامنا تصورات جلية عن وجود مراقبة دقيقة وتفصيلية، تأمر بالحركة وتجاوز الموجود. وربما مفردة الحركة أكثر قبولاً بما تنطوي عليه من هدوء وحضور مقبول من مفردة "مش" وهي مفردة ناقصة كما هو معروف لكنها تعني أمراً بعدم التوقف والقبول بالأمر.
برزت ثلاثة مربعات على الشاشة/ الستارة قبل العرض وللمربع دلالات سيميائية عديدة، لن أذهب باتجاه التوسع الباحث عن الدلالة، لكني سأكتفي بقول عن العلاقة بين الدائرة - الكاشف عنها اختفاء المربعات ـ والمربع، وتنطوي هذه العلاقة على رمزيات معروفة عرفتها الميثولوجيات الشرقية وعلاقة الدائرة والمربع بالمقدس أمر معروف، لكني أعتقد بأن د. زينة الشبيبي أرادت بحضور الشكلين الهندسيين وتغيير التراتبية المعروفة عنهما، والإشارة لقسوة ما هو حاصل باستمرار حيث التحقق المستمر للانحرافات حتى في زمنية الأشكال الهندسية كنوع من حرية التخيل لدى د. زينة، التي لم تفكك الزمان عبر موجوداته وتقديم كل موجود من خلال الوجوه المعبرة عنه، والمعروفة لدى الجماعات وقريبة منها واليها.
ينطوي التفكيك في هذا العرض على ايجابية واضحة وملحوظة، ووظفت د. زينة السيمياء للإشارة على تلك الإيجابية، وأعني صورة شروق الشمس ذات الفيض الدلالي. والشروق لم يكن معنياً بما يعنيه، بل الكشف عن موجودات ذات ثقل في المعنى، والتراكم الزماني الذي صاغ حضورها ومثولها وأعني بها ـ العالم كله ـ عبر ما يومئ إليه وهي الكرة الأرضية، التي خضعت لنوع داخلي من التفكيك الذي لاحق طوبوغرافيا الأرض المكونة من الوادي الرامز لكل الوديان في جغرافيا العالم والجبل بذات المعنى، وهذا لم يظل ثابتاً، بل ستذهب د. زينة أبعد نحو فضاء مكمل لطوبوغرافية الأرض، حيث البحار، البراري، الأجواء والتي تم التعبير عنها بالبحر والبر والجو. كما لابد من إشارة سريعة وهي جوهرية ولها علاقة بسيمياء التقسيم ولماذا تكريس التثليث كمبدأ ثقافي وديني عرفته حضارات الشرق وابتداء بسومر.
هذه العلامات المنتجة مباشرة والأكثر بآلية غير مباشرة هي التي منحتنا فرصة لاقتراح قراءة ليست خارجية، وإنما استكشافية وأعتقد بأن التفكيك آلية ثقافية ساعدت على استحداث سيمياءات كثيرة متمتعة بدلالات متضادة بعضها مع البعض، وأحياناً تبدو متشاكسة مع بعضها. ولابد من ضرورات أخرى لضبط القراءة والانتباه للتباين والتضاد السيميائي، حيث تبرز التضادات الثقافية بجلاء وهذا ما سنتوصل إليه أثناء القراءة الخاصة بالعرض الصوري المثير، الذي ابتدأ بطقوس دينية مقموعة في زمن ما ومنحت فضاء واسعاً للمزاولة، فتبدّت وكأنها حشود هائلة م?ابة بما يمكن أن اقترحه بجنون للحضور. إنه طقس "المشاية" وجموع الزوار المهددة بالموت الجمعي في كل لحظة، لكن ارتباط الطقس بالروحي/ والمعتقدي جعل منه ثباتاً لا يجوز تناقصه، بل رفده باستمرار. واللون الأسود المقترن بالحشود، هو علاقة سيميائية معبرة عن عمق الفجيعة والإحساس بالتراجيديا الحسينية وحتى لا يكون اللون الأسود ثابت المعنى "زاع" أحد الكهوف سرباً من النمل الأسود، ترميزاً لأبشع ما عرفته البشرية من جموع متوحشة بملابس سوداء ونلاحظ انحراف ازدواجية اللون الأسود وتباين دلالته لكننا لا نستطيع تجاهل المشترك الثقافي الداخلي.
"2"
نحن نعرف بأن الكهف رمز رحمي وفضاء لنشوء وتكوّن حياة، وتشكل ما نشير إليها في الفضاء الخارجي، مثلما هو مكان الاستبصار والنبوءة وله ارتباطات عديدة مع المقدس ولحظته الأولى وتتشكل أهمية الكهف من كونه المضاد للمرتفع/ الجبل المقترن مع تبدّيات للمقدس في ديانات شرقية معروفة. وهذه الثنائية في تباين العلامة/ الرمز ترشح عن تحول في المعنى وهو الذي أراد الدنو منه د. زينة في عرضها.
تغير الكهف بوظيفته وحاز صفة ظلامية "زاعت" نوعاً من النمل المثير والغريب بحركته السريعة غير المألوفة، إنه علامة معبرة عن ثقافة الكهف الغازية وتمظهرت بحركة مفاصلها وكأنها مصنّعة. وتمظهرت عن هجوم سريع وبعد تقدمها حازت وجوهاً آدمية، لتتفجر العلامة صريحة برؤية الفنانة، وما أرادت قوله، إن الداخل المخفي/ السري، قادر على مهاجمة الخارج. مثلما يمتلك اللحظة التي يريد ليعلن حربه المفتوحة والمحمية من قوة غير مرئية، ومزاحمة لحركة الأرجل المتقدمة نحو لا شيء.
تغيرت وظيفة الكهف الأول كموطن للإنسان الأول وما زالت محتفية بمتروكات الجماعات التي عاشت فيها كما في كهوف تاميرا. والملفت للانتباه أن الجماعات الآدمية غائبة، مكتفية بحركة أقدامها الدالة على العسكراتية والقسوة، لكنها تغافلت عنها تماماً ولذا تميّز ـ النمل الخرافي ـ بتعدد المعنى وظل منفتحاً على المجاز والرمز، لكنه قريب من المتلقي ومحفز له للمراجعة والتأمل. اختزل مشهد النمل الصوري كثيراً من غزوات الدمار وعدم الاكتفاء بالذي حصل، بل استمر متقدماً.
دلالة الحذاء/ الأحذية في العرض الصوري متنوعة وكاشفة عن اختلاف في التكونات الشخصية للفرد، بمعنى هي عامل ثقافي لإيضاح هوية/ هويات. منها ما هو حاضر/ موجود، ومنها ما خضع للتفكيك والإخضاع. وعلامة مثل "البسطال/ المسجد" صارت معادلاً موضوعياً للنمل الزاحف، وتبدّت الكنيسة مطرودة من الفضاء مع حضورها المكين، أنها رمز ديني مقدس مراقب وملاحق في جغرافية لعبت المسيحية دوراً باهراً فيها وكانت علامة على الرقي والحضارة مثلما هي أعمق تاريخيا من الديانات الأخرى في العراق، لكنها ذات آلية مدمرة واعتبرها نيتشه "الجوزة الفارغة".
"3"
تحكمت الصورة بالعرض وصارت لغته الصامتة مع الرقص. وكان تغيب الكلام في العرض قصدياً وتعبيراً عن نوع خطير من الاخصاء والاقصاء والطرد. واعتقد بان سيادة الصمت/ غياب للصوت هو قطيعة كلية مع الفضاء/ والجغرافيات وكأنه علامة على إحباط شامل، تمظهر بكثير من المعروضات الصورية.
سيادة الخرس تمثيل للإخضاع والإزاحة المعروف عبر تاريخ طويل ومازال ممتداً ومتمركزاً بحضوره، من هنا جاءت الالتفاتة له من قبل الفنانة د. زينة الشبيبي. اللغة وسيلة الكائن للتفكير والتعبير وهي بيت وجوده كما قال هايدجر، لكن التوقف عن تداولها انتقاص من كينونة الوجود، وإعلان عن عبودية من نوع أخر.
طفحت علامة الحذاء بشبكة دلالية وتبدّت لي بعمقها التعبيري، عن المغلق، بل المفتوح عن فضاءات واسعة، أنها اختزلت الطرف الظلامي في الحياة/ والعالم. لكنني سأشير بتركيز لما هو أعمق وهو أن الحذاء كاشف عن اختلاف في مكونات الكائن، ويبدو لي بان الفرد يكتفي به ـ الحذاء ـ ليعبر عن كليته الإنسانية كما تبدّى في تركيز العرض الصوري وفي الدليل أيضا. لقد اختزل الحذاء فضاءات ثقافية واسعة جداً، وصار بديلاً لها، وتلك الفضاءات هي المرتبطة بالسلطة بكل أنواعها، القوة/ أرادة القوة النيتشية/ الطرد/ وقد لعبت هذه العلامة ـ الحذاء ـ في?مجال دلالي حر/ مفتوح وساعدت على تبئير علاماتي، غادر العرض، حيث ارتفعت ثلاثة بساطيل عسكرية لتواجه حشد المشاهدين، ولم تكتف القوة/ الهمجية/ المتغطرسة بالذي زاولته.
بل ذهب بعيداً، ليستهدف الحضور في القاعة، وكأن الإخراج ابتكرها وظيفة مرآتيه ووجه لغته صادمة للمتلقي ، المكتفي بالصمت أمام كثير من الأهوال والدمارات المتسارعة، لا بل والمفاجئة بحدوثها.
تمركز العرض في صور متحركة ليقدم لنا الاندثار والتلاشي وسيادة العمل والمتروك، فلاشيء يستحق المشاهدة إلا النفايات وتدويرها، العالم يعيد أنتاج متروكات الجماعات ولا يحترم الكائن الذي توزع في فضاءات عديدة مخذولاً، مجنوناً، منتهكاً، ومطروداً لم يستوعبه المكان اللائق به، فوجد بديلاً له وهو هامش الأمكنة، الأرصفة التي تحولت الى بيت ومأوى، جعلته معروضاً لنوع من الفرجة.
دخلت التقنية لتقدم لنا أحدى وظائفها في السوق مع رأسماله الواقف وراء كل الذي حدث في العرض. وأكثر ما آثار الدهشة والاستغراب، هو سيادة الصمت ـ كما قلنا ـ الذي تستطع الموسيقى التصويرية الحلول بديلاً تعويضياً له، بل كانت محفزة لإثارة الأسئلة المتتالية، وهذا أهم أبلاغ تآزر مع الابلاغات الكثيرة التي نجحت كثيراً بتحقيق أحلام الرؤية الإخراجية لـ د. زينة الشبيبي.
الشتات والتنافر في العزل كذلك الشطب والتعطيل، كلها زاخرة بانشغلاتها المنتجة المنتجة لتنوع دلالي أنتجته شبكة العلامات في العرض. حيث تبدّت مزدحمة، وعلى الرغم من أن الوحدات المروية كانت محكومة بنواظم ثقافية، صاغها المجال الداخلي للعرض أي أنتاج غير مباشر، بل هو يمثل المعنى الذي فاضت به كل هوامش العرض، المعلن والمخفي. هذا الثقافي غير المباشر، صاغ نوعاً من التوتر والانجذاب وتمكن من صعق المتلقي ليتحول مواجهاً لما شاهد، ولكل ما لم يظهره العرض، بل يستوعبه ثقافياً. وبهذا ابتعد العرض عن تقليد التطهر وتفريغ شحنات التوتر، وتصعيد الصراع وفتح سرديات الجماعة لما هو أقوى من الوسائل للدخول بالصراع، حتى ينقذ الجماعات اللائذة بمروياتها كي تتخلص من خضوعها، وليس أكثر تعبيراً عنه غير الصمت ويكفينا غياب اللغة التي هي بيت الكينونة للتدليل على الرضوخ والقبول بكل ما يمارس ضده تمهيداً لتحويله الى ضحية أو قربان.
"4"
انفتح العرض الصوري على تنوعات كشف عنها الدليل المسرحي البسيط/ العميق الذي ابتدأ الدليل بآدمي منحن مثل عتّال يؤدي وظيفة الخنوع المقترن به. حمل شيئاً ثقيلاً وهو شخص أخر اكبر حجماً من الأول حذاء الرجل الثاني ينام على ظهر الأول الزاحف رافعاً رأسه بوضوح تام. كذلك هي رأس الثاني حيث تكبر صورة الرجل الثالث ضاغطاً بيمناه بقوة على ظهر الآدمي الثاني، لتأتي قدم بحذائها الكبير ومن النوع الحديث ويدوس عليه.هذه الأشكال الثلاثة ليست عسكراتية، بل هي مدينية، وهذا ما أفضت إليه الأزياء ونوع الأحذية.
استبدلت الرؤية الإخراجية لـ د. زينة الشبيبي القوة العسكرية الى ما هو مدني، ويعني هذا نوعاً من التحالف بين العسكرة والمدينية. مع تماثل بالألوان المتسيدة. باستثناء السواد لون الأرض المماثل للون النمل.