ادب وفن

رواية «نيران».. قوة الشر لا تمنع موته / صباح سالم

رواية نيران للأستاذ الدكتور سعد قاسم الأسدي، صدرت بداية سنة 2014 وهي رواية أكاديمية تعنى بجوانب حياتية مختلفة: إجتماعية، وسياسية، وأخلاقية. تدور أحداثها خلال سنتي 2008 و2009 غير أنها تسترجع الكثير من الأحداث التي حصلت في العراق خلال السنوات التي تلت عام 2003 وما قبلها. أحداث الرواية تحصل داخل الحرم الجامعي، في حرم كلية اللغات بالذات وأبطالها أساتذة قسم اللغة الإنكليزية في الكلية.
في جانبها الأكاديمي والاجتماعي، تصور الرواية الحياة العلمية في القسم بكل فعالياتها من محاضرات وسمنارات ومناقشات علمية جادة على الرغم من صعوبات الحياة اليومية في زمن كانت فيه البلاد على شفا حرب أهلية طاحنة خلال تلك السنوات العجاف. حين كان الطلبة لا يجرؤون على القدوم إلى كلياتهم خوفا من القتل أو الخطف. فكان الأساتذة يضطرون إلى تجميع الطلبة الحاضرين الذين لا يزيد عددهم على بضعة أفراد في قاعة واحدة لكي يتمكنوا من إلقاء محاضراتهم. وتصور الرواية الحياة الجامعية بوصفها مجتمعا متجانسا هادئا لا وجود فيه للضغائن والأحقاد الطائفية والشخصية بل يعمل الجميع فيه بتفان من أجل العلم وخدمة البلد من خلال تعليم الطلبة وتطويرهم، غير أن المشاكل لا يمكن أن تظل بعيدة، خصوصا وأن العالم الخارجي يمتلئ بالكراهية والحقد فتتسلل هذه المشاكل الى الكلية فتسود المعاناة.
البعد السياسي في الرواية يتخذ أشكالا متعددة يمكن تلخيصها بأربع نقاط رئيسة. الأولى هي إدانة الممارسات الدكتاتورية والاستبدادية التي كان يعاني منها العراقيون لعقود طويلة من الزمن قبل التغيير في عام 2003. فمن خلال تقنية الاسترجاع أو ما يعرف بالفلاش باك "تكنيك في السرد الروائي" يتم استرجاع الكثير من الأحداث من ماضي الشخصيات الرئيسة تكشف عن سياسة التخويف والاضطهاد التي كانت تمارس مع المواطنين، وأساتذة الجامعة من ضمنهم، لإخضاعهم وترويضهم بما يجعلهم يذعنون للسياسات الغاشمة، وهي السياسات التي قادت البلد إلى حروب عبثية فاشلة مع الجيران ومع المجتمع الدولي مما قاد إلى الاحتلال الأمريكي البغيض للعراق.
ثانيا، يظهر البعد السياسي للرواية بإدانة الممارسات التعسفية لقوات الاحتلال الأمريكي سواء باقتحام البيوت عنوة لتفتيشها بحثا عن أسلحة أو مطلوبين دون مراعاة لحرمة البيوت وقدسيتها أو بإطلاق النار عشوائيا على المواطنين دون التأكد من هوياتهم قبل أن تطلق النار عليهم، مما يكشف عن نظرتهم إلى العراقيين جمعيا كأعداء يجب اتخاذ كل الاحتياطات الواجبة في التعامل معهم. وكأن شعارهم في التعامل مع العراقيين هو "إقتل قبل أن تقتل." ثالثا يتجلى البعد السياسي في الرواية كذلك بإدانة الإرهاب والإرهابيين وقتلهم للشعب العراقي بشكل ينم عن سادية وبربرية قل نظيرها في الزمن الحاضر لا لشيء سوى لأسباب طائفية مقيتة ولإثارة الفوضى في البلاد. أما الشكل الرابع الذي يتخذه البعد السياسي في الرواية فهو الدور السيئ الذي مارسه بعض السياسيين بعد التغيير لإثارة الفتنة الطائفية وتمزيق البلد وشعبه إلى طوائف وقوميات متناحرة من أجل مصالحهم الشخصية لا غير.
ان الثيمة الرئيسة في الرواية بشكلها العام هي الصراع بين الخير والشر وحتمية انتصار الخير في النهاية مهما بدا الشرير قويا في البداية. وهذا الصراع يمثل معركة أخلاق في النهاية. فالذي يسير بطريق الشر عليه أولا أن يتخلى عن جميع القيم الأخلاقية التي يتمتع بها الأفراد الأسوياء كالصدق والأمانة والنزاهة والشعور بالامتنان عند تقديم أحدهم يد المساعدة له وغيرها من الفضائل.
أبطال الرواية الرئيسيون أربعة: أستاذ أمجد، وهو رئيس قسم اللغة الإنكليزية في كلية اللغات، وأستاذ أكرم والست نيران والست سهى، وهم جميعا تدريسيون في القسم المذكور. الشخصية المحورية المحركة للأحداث هي الست نيران التي تحمل الرواية إسمها، وهي إمرأة في الثلاثينيات من عمرها تعاني من بعض العقد النفسية الدفينة التي تكشف عنها الرواية بشكل تدريجي.
نتعرف أولا على ثنائية الرغبة-الكراهية التي تحكم علاقتها بالرجال. ويعتقد في البداية أن السبب ناجم عن خيانة أحد الشباب لها في فترة شبابها المبكر حين أوقعها في حبائله ثم هجرها. مما شكل صدمة نفسية جعلها تتخوف من الرجال عموما وغدرهم. إذ أخذت ترى حبيبها الغادر في كل رجل جديد تتعرف عليه. ويتحول ذلك الشاب الى وحش مخيف في داخلها يتحدث إليها، يأمرها، ويحثها على مواجهة الآخرين بل وحتى قتلهم. كان يعوي على الدوام ولا تعرف كيف تهرب منه. ومع تصاعد أحداث الرواية تكشف الأحداث أن خيانة ذلك الرجل لم تكن العامل الوحيد في سلوكها المرضي بل ثمة أحداث دفينة أكثر إيلاما وأكثر بشاعة هي من تعذبها وتتحكم بمشاعرها وسلوكياتها مع الآخرين مما حول حياتها اللاحقة إلى جحيم تصطلي فيه بنيران لا تهدأ ولا تنطفئ. وعلى وجه العموم، فان شخصية نيران شخصية مركبة لها وجهان. الوجه الهادئ الصامت الذي يثير الشفقة والتعاطف، وهو الجانب السطحي من شخصيتها، أما الجانب العميق المخفي فهو الجانب المقاتل، الشرس، المتشبث بما يعتقده حقا له، الذي لا يرضى بغير الفوز بديلا. وبذلك تصبح الرواية دراسة في الشيزوفرينيا، مرض الفصام.
وإذا كانت نيران مصدر المتاعب والمشاكل نتيجة لعقدها النفسية، فإن الشخصيات الثلاث الرئيسة الأخرى في الرواية هي ضحية هذه المشاكل والمكائد. وهي تبدو لا طاقة لها في مواجهة نيران وتنتهي نهايات أليمة. فسهى تقتل برصاصة من أحد المجرمين بتحريض من نيران، وأكرم يهجر البلد مضطرا بسبب محاصرة نيران له، والأستاذ أمجد يبقى يعاني منتظرا إنتهاء التحقيقات بشأن إتهامات خطيرة توجهها نيران إليه. إلّا إن الرواية تنتهي بلمسة تفاؤل حين تموت نيران ويلقى القبض على قتلة الست سهى. وبذلك فإن الشر الذي بدا قويا لا يقهر في بداية الرواية وفي معظم فصولها يندحر في النهاية، في أكثر فصول الرواية إثارة للترقب. فيتحقق نوع من العدالة الشعرية التي تحفل بها كتب الأدب عادة والتي تقول أن الشر لابد أن يندحر في النهاية مهما تجبر. وثمة فصل كامل مستقل يبحث في جذور الشر وأسبابه وتجلياته حيث يناقش بطلا الرواية الأستاذ أمجد والسيد أكرم هذه الجذور بالإشارة الى الكثير من الأعمال الأدبية والنفسية التي تحاول تسليط الضوء على فكرة الشر مقابل الخير.
سرد أحداث الرواية يجري بشكل رئيس عن طريق ضمير الغائب، وهو راو ٍ عليم يعرف الشخصيات ومشاعرهم وأفكارهم كما يعرف بدقة ماضيهم وما حصل فيه. غير أن هذا الراوي غالبا ما يغوص في أعماق الشخصيات فينقل لنا أفكارهم ومشاعرهم بشكل مباشر دون تدخل منه، كما يترك الشخصيات في مواقف كثيرة لتروي ما حصل لها أو للآخرين مباشرة، لذلك تنتقل وجهة النظر من شخصية الى أخرى ومن فصل إلى آخر. كما لعبت الحوارات بين الشخصيات دورا مهما في الكشف عن معدنهم الحقيقي دون تعليق من الراوي الذي يتحول عندها إلى مسجل للأحداث لا غير. إضافة لذلك أستخدم الروائي أسلوب المناجاة الداخلية أو الدرامية لاسيما في الكشف عن معاناة نيران، وأسلوب تيار الوعي الشائع في كتابة الرواية الحديثة حين تتحول عقول الشخصيات إلى مسرح تجري فيه الأحداث مما يتيح التنقل بين الأحداث التي تحصل في أزمنة مختلفة والربط بينها بشكل سلس وسهل.
إجمالا، يمكن القول ان رواية نيران تنتمي الى رواية ما بعد الحداثة، فهي مزيج من التاريخ والخيال، تجمع الرواية وأدب المفكرة والقصيدة. كما تتداخل الأجناس، بعضهما مع بعض. فقصيدة عوليس للشاعر الانكليزي الفكتوري لورد الفريد تنسون التي تقدم في بداية الرواية ضمن محاضرة أكاديمية تصبح الموتيف الرئيس الذي تسير على إيقاعه أحداث الرواية وتجد صداها حتى نهاية تلك الأحداث. وبذلك تصبح رواية "نيران" رواية بحث عن عالم أجدد، سفر دائم تبحث الشخصيات فيه عن وطن أكثر أمنا، علّها تجد المحبة والأمان بعيدا عن العنف والدمار والشر. وتبدو الشخصيات مصممة وأحيانا متأكدة أنها ستجد ذلك العالم الآمن الذي تسعى اليه مهما طال الزمن وصعبت الرحلة. فهذا هو قانون الحياة ومنطق التاريخ. فالخير هو الذي يسود في النهاية ويتبخر الشر ويتلاشى مثل زبد البحر.