ادب وفن

أشكالية المنهج في قراءة الفن العراقي القديم */ فاضل ثامر

تمثل قراءة تمثلات الفنون القديمة بشكل عام والفن العراقي بشكل اخص واحدة من الاشكاليات الابستمولوجية والمنهجية المعقدة. فقد كانت الفنون القديمة التي تحتفظ لنفسها باسم الكلاسيكية وربما ما قبل الكلاسيكية تحظى دائما بالتبجيل والاحترام حتى أصبحت مرجعا جماليا وقيمياً للفنون في العصور اللاحقة وهو ما وجدنا له مثيلا في مكانة القديم في الذائقة النقدية العربية في تذوق الشعر.
ولقد أشار مؤرخ الفن المعروف آرنولد هاوز في كتابه "الفن والمجتمع عبر التاريخ" إلى هذه الحقيقة بقوله: " ان الشعور بان ما هو قديم ينبغي ان يكون هو الأفضل، ما زال من القوة ما يجعل مؤرخي الفن وعلماء الآثار لا يحجمون حتى عن تزييف التاريخ عندما يحاولون إثبات أن أقرب الأساليب الفنية إلى قلوبهم هو في الوقت ذاته أقدمها عهداً"..
كما نتذكر مقولة كارل ماركس التي حاول أن يفسر فيها عبقرية الفنون القديمة بكونها تمثل طفولة البشرية. وهكذا فمؤرخ الفن يجد صعوبة في التعامل مع هذا التنوع المذهل للأشكال والأساليب والبنى الفنية التي تكشف عنها الفنون القديمة ومنها البدائية والرسم على الكهوف فضلا عن المنحوتات والأشكال الزخرفية والأدوات الاستعمالية التي تحمل مرموزات غنية ترتبط بالتاريخ الاجتماعي للإنسان وتمثل بصورة أو بأخرى تجليات روحية ومعرفية عن مستوى الوعي الإنساني والنزوع الجمالي/ الاستطيقي في مختلف العصور.
وتجربة الباحث والناقد الأستاذ الدكتور زهير صاحب هي من التجارب البحثية والنقدية والمعرفية القليلة التي تنشغل بهذه الاشكاليات التي تثيرها عملية دراسة وفحص وتقويم الفنون العراقية القديمة. والباحث لا ينطلق في شروعه البحثي من موقف المؤرخ او رجل الآثار، بل هو اقرب الى موقف مؤرخ الفن وتحديا ذلك المؤرخ الذي تؤرقه قضية التاريخ الاجتماعي والابستمولوجي للفنون القديمة، وأحياناً ينتقل الى ضفة النقد التشكيلي والفني، وبشكل خاص في حرصه على تقديم قراءات نصية تأويلية للآثار الفنية ينطلق فيها من الأثر الفني بوصفه نصاً، حيث يحاول دراسة التاريخ بدلالة الفن، لكنه لا يقطع الصلة بالمنحى السياقي والتاريخي بشكل كلي، حيث يحتكم الى الفن بدلالة التاريخ. ولا شك اننا ندرك صعوبة ان يبلور الباحث منهجاً كليا وشاملا لدراسة الفنون دون ان يتجنب بعض المنزلقات الخطيرة ومنها المبالغة في تأويل دلالة بعض المنتجات الاستعمالية كالصحون والأواني الفخارية مثلا، وتحميلها ترميزات روحية وميتافيزيقية عميقة.
لكني لاحظت أن الباحث قد شرع بجدية ووعي مسألة بلورة منهج شخصي في دراسة الفن العراقي القديم في مؤلفاته، ومنها " الفنون المسرحية" الصادر عام 2005 و"الفنون التشكيلية العراقية- عصر ما قبل الكتابة" الصادر عام 2007.
ويمكن أن نكتشف أن هذا المنهج يميل الى التكاملية كما اعترف هو شخصيا بذلك، وبعد ان وجد نفسه في تقاطع طرق اربعة متباعدة في مناهج دراسة الفن القديم. فهناك المنحى الاول الذي يعنى بالبحث عن "المرجع". " في دراسة التمثال، ومعظم الدراسات الأثرية والتاريخية الفنية والسوسيولوجية تقع في دائرة هذه الرؤية".
اما المنحى الثاني فهو الذي يحتفل بالنص التشكيلي من خلال بنية العلاقة بين الفنان المبدع والنص، وأغلب الدراسات النفسية في الفن، التي تركز على المصدر والنشأة، تصب في هذا المجال".
اما المنحى الثالث فيرى ان النص التشكيلي السومري بوصفه بنية ونتاجاً ابداعياً. وهذه الرؤية مهتمة بالحفر في منطقة النص من الداخل".
اما المنحى الرابع والأخير فهو الذي يحتفي بإبراز العلاقة بين المتلقي وبين النصوص السومرية ومعظم الأفكار التي تنطلق من اشكالات التقبل والاستقبال والتلقي والاستجابة الجمالية تدور في هذا الميدان ".
ويعلن الباحث عن عزمه على تحقيق لون من " التضايف" بين هذه الاتجاهات النقدية لبناء منهجه التكاملي: " وهو منهج تكاملي يستعير من التاريخية بنفس الفاعلية التي يفعّل بها النص في فحص الابعاد السيكولوجية، ويستند الى الدراسات البنيوية والسيميائية بذات القصد في تحري التحليل وإعادة التركيب والفهم والتأويل".
وهكذا ينجح الباحث في اجتراح هذا المنهج التكاملي الشمال الذي يظل عرضة للتناقضات والصراعات والميول الداخلية، الطاردة والجاذبة معاً، فرحنا نجد أحياناً احتكاماً الى التاريخ والسياق والبيئة انطلاقاً من قاعدة " الحكم على الفن بدلالة التاريخ" وأحياناً نجد اسرافاً في المنحى النصي الداخلي الذي يتنكر للمرجعيات والسياقات التاريخية والاجتماعية، لكن الباحث يحاول ان يمسك العصا من الوسط لمقاومة قوى الجذب والطرد في حركة هذه الاتجاهات الاربعة المتعارضة.
ويرى الباحث ان البيئة عنصر حاسم في تشكيل المبدعات السومرية: " فالوسيط الحضاري كامن في نسيجها كما هو قائم خارجها وان الاحتفاء بهذه المبدعات يتفعل ببنية العلاقة بين البيئة الاطار الخارجي والنصوصي التشكيلي. وهو يذهب الى ان الفن ليس الا أسلوب حياة، وأسلوب حياة الانسان عبارة عن عمليتي انعكاس وخلق لا يتفهمان بعضهما البعض".
ويحاول الباحث ان يؤكد من جهة أخرى ان الاعمال الفنية السومرية تضمر قيما روحية وميتافيزيقية، وليست مجرد نتاجات بصرية حسية عابرة.
"ذلك ان المنحوتات والرسوم والفخاريات السومرية وغيرها لم تكن وسائل ابلاغ موضوعية فحسب، بل انها تشكلات تمثل هذه المضامين، انها أنظمة أشكال حية ذات قيم بنائية وجمالية".
وهي أيضا وبالقدر نفسه تتكون من دوال شكلية وأيضا من مغزى للأفكار وبخطاب التشكيل المعلن، انها قوى مثقلة بمضامين فكرية كانت تؤدي فعلها الميثولوجي كرؤى روحية ورموز اجتماعية. ويلح الباحث على اهمية العنصر البيئي في الفن السومري واهميته الدلالية، إذ يرى ان الفكر السومري كان يستلم خطاب البيئة المعلن بفعل المحسوسات ويؤولها الى منظومة دلالية في بنيته، وهي بمثابة تقابلات صورية مكثفة بأشكال رمزية او دوال علامية.
ويؤكد ان الروائع السومرية قادرة على ان تعلن عن هويتها " لأنها تحمل هيمنة أنظمة وسيطها البيئي بكل وضوح، ذلك ان ميكانيزم الفكر السومري، كان يستلم خطابات الوسيط الطبيعي، بفعل المحسوسات، وهي بمثابة ضغوط وحوافز ومنبهات، ويؤولها إلى منظومة دلالية في بنيته".
ـــــــــــــــــــــــ
* ورقة قدمها الكاتب في الاحتفال الذي اقيم الاربعاء الماضي في كلية الفنون الجميلة ببغداد احتفاءً بالاستاذ الدكتور د. زهير صاحب