ادب وفن

لمضايف والدواوين وذاكرة الادب الشعبي : ديوان الشيخ بدر الرميض... انموذجا / لفته عبد النبي الخزرجي

تمتد اهوار السهل الرسوبي عميقا في التاريخ..وهي تشكل حاضنة لحضارات تجذرت عميقا لتشكل تاريخا بقيت معالمه مغمورة في ثنايا التاريخ.. حتى جاءت التنقيبات لتكشف تلك الآفاق الحضارية التي ازدهرت في هذا المستنقع الرسوبي قبل اكثر من خمسين قرنا.
وقد استوطنت هذا السهل والمستنقع اقوام من اجناس مختلفة.. وديانات كثيرة.. ويقول الباحث « فاضل الغزي في كتابه سوق الشيوخ مجرى نهر وذاكرة مكان « ان الصابئة المندائيون اقدم من سكن الاهوار من بقايا العهد السومري الأول ، وظلت الاهوار وبالذات هور الحمار والى عهد قريب يسمى (هور الصابئة)1.
ولذلك فان الصابئة المندائيين من اقدم الاقوام التي سكنت الاهوار.. والديانة الصابئية تعتبر اقدم الديانات التي اتخذت من ألآهوار ومجاري الانهار مسرحا لنشاطها الديني. وهذا متأت من كون الديانة المندائية من الديانات السومرية والبابلية القديمة ، كما ان تلك الديانة كانت وما زالت تعتمد مسالك المياه و مجاري الانهار اعتمادا كليا وراسخا لانه جزء من عقيدة دينية متوارثة.
في مدينة الفهود.. التي تجاور حافات الاهوار.. وفي قرية صغيرة تختبئ في غابات النخيل والاشواك والمسالك الشائكة.. وتتكئ على حافات الاهوار الجنوبية.. في تلك الآجام كان بدر يدرج صبيا.. وقد شب وتعافى في تلك ألأهوار وبين القصب والبردي والادغال... وتعلم الفروسية والشجاعة والكرم في ظل عشيرته وابناء عمومته « البوصالح «.
وفي ظل السلطة العثمانية والاحتلال.. كان بدر من اشد المقاومين للاحتلال العثماني لارض العراق.. وبقيت صفحته في التاريخ ناصعة البياض..مليئة بالبطولة والشجاعة والرجولة والكلمة الصادقة.. وهكذا عاش مئة وخمسة وعشرين عاما حافلة بأحداث كبيرة ومجللة باكاليل الغار..ومزدانة بالعز والكرامة والفروسية.. معطرة بالجود والشعر والحكمة.. موشومة بأحاديث المضايف ومطارحات الشعراء واستقبال الوفود من مختلف الاجناس والاصناف والبيئات.. معززة بحسن الإستقبال والكرم والوجوه الباسمة...كان مضيف بدر الرميض واحة لراحة المسافرين ومحطة للعابرين ومطعما للوافدين وبيتا للمحتاجين ومأوى للمشردين والمطلوبين والمطاردين.
في هور الحمار.. وبين القصب والبردي والسبخات والمستنقعات... وفي المشاحيف والاهوار... كان بدر يتنقل ويحشد قومه.. ويرسل للانگليز.. رسائل مفادها ان العراق عصي على الاعداء مهما كان لونهم وجنسيتهم... ولذلك ، وعندما احرقوا خيامه ودمروا مزارعه.. وقتلوا ماشيته... ونهبوا ممتلكاته.. ارتجل هذه الاهزوجة:
هاي الدار داري ومنزل الخطار... وكل طالع شمس بيها نهبش اتغار
هل ترضى الرفاگه تنزل الكفار؟... «يزيود اطي الحد يو لاله؟»
ويعتبر الشيخ بدر الرميض من الرموز الكبيرة في موروثنا الشعبي والوطني... وقد كانت له بصمات واضحة في سجل ثورة العشرين ومقاومة المحتل ورفض العطايا والهبات التي قدمها البريطانيون للشيوخ الذين رحبوا بالاحتلال..كما انه رفض الاتراك العثمانيين ايضا.. فكان سجله ابيض ناصعا.. وهذا ما جعله في موقع متميز واثير وله تاريخ يشير الى انه قد اجترح التاريخ بإرادة لاتلين وهمة عالية وعزيمة عراقية اصيلة..
ولذلك وصفه احد الشعراء:
اخم بقطار عصرك منتباها... وچذب من غير شخصك منتباها
خصال الجود جدمت منتباها... اظن مثلك مـــــعن والحاتميه
ومن خلال مواقفه المشرفة وابتعاده عن المساومات مع المحتل.. فقد تعرض للتشريد والملاحقة.. وقد ارسل له ضابط في الجيش العثماني (عراقي الاصل) هذا البيت من الشعر.. وهو يوضح ان بدر كان صعب المراس قوي الشكيمة ثابت الجنان.. ولكن الضابط محمد ازلام كان مغرورا ويجهل الطبيعة التي فطر عليها الشيخ بدر الرميض.. ولذلك كانت رسالته الى بدر تهديدا ووعيدا:
مدهلي وارد اضربك بيس واكراك... واحرمك من لباس الزري واكراك
بعزم جيشي لوچـــر فوگ وكراك... واهلس ريــــش جــنحانك بديه
فما كان من الشيخ بدر الا ان يرد بكلمات واضحة وثقة عالية ورباطة جأش كبيرة وتحد صريح ودون خوف او وجل:
انه نكره ونكير ومنكر آني... وللديان معرض منكر آني
گبلك يا محمد من كراني... مرمر والمساحي انثنت بيه
ولانه في الكرم لا يبارى.. فقد حظي بإهتمام كبير من الشعراء في سوق الشيوخ ومناطق الناصرية الاخرى والعراق عموما وفي مناطق الخليج العربي.. فقد قال فيه الشعراء الكثير من الاهازيج والشعر والابوذية وغيرها. وهذا الشاعر يصف الجود الذي يمثله بدر.. وكيف ان القدور الكبيرة « الصفاري « قد تعبت وارهقتها عمليات الطبخ المتواصلة.. وصوت الهاون الذي يملأ الآفاق وهو يطلق الرنين العالي ليعلم العشيرة بحضور القهوة والخطار وخاصة في ساعات متأخرة من الليل.. وترافقه الهباشة « لتنظيف الشلب « وتهيئته للطبخ.. والنار التي تصاحبه وقد ارتفع سناها:
بحر يالمنك النهران يارن... صفاري من چثير الطبخ يارن
الك هاون بتالي الليل يارن... تدگ هبــــاشته وناره سريه
ولانه مشهور بالكرم وحسن الضيافة والاستقبال..و مضيفه عامر واسع يضرب به المثل وتتحدث عنه الركبان...فقد كان يدفع أبناءه لاستقبال الضيوف والترحيب بهم واكرامهم.. والاحسان اليهم:
حسن يبني تلگه الضيف حي بيه... وعسى زاد البخيل اسموم حي بيه
سعيد الحفظ ماله وراح حي بيه... بخيت الحفظ عرضه من الرديه
والكرم في لغة بدر ليس له حدود.. ولذلك نراه لا ينسى أن يتحدث شعرا عن الكرم ويعتبره شجاعة وجرأة وضوءاً في صواني الزاد المحملة بالرز واللحم..ولم يتردد ان يقدم لضيوفه اطيب واشهى وافضل ما تجود به يده رغم ضنك العيش وسنوات العوز والجوع:
ضوينه بسنة المهاجر سفرنه... لباب البحر گلطنه سفرنه
اذرة ودخن ما جرن سفرنه... سيل اضيوفنه بسنة الرديه
وفي نفس المعنى يتحدث بدر... رغم العسر في جوانب كثيرة من الحياة بشكل عام وخاصة ما يتعلق منها بالجوع وسنوات القحط والمحل التي مرت على العراق.. لكن مضيف بدر يظل مفتوحا يستقبل زواره.. وتتعالى نيرانه.. وترتفع اعمدة المضيف.. دليلا للقادمين والقاصدين والمحتاجين:
بنينه اشباب للخطـــار يومن... وما تدري بعشانه اتغار يومن
ترى الشده على الطيبين يومين... تگضي والـنذل مشتوم ابيه
ولانه من طينة عراقية صافية.. وله تاريخه الذي جعله ووضعه في منزلة خاصة ، وحيث ان الشيخ بدر.. كان يمثل الروح العراقية السمحة والمسالمة والشجاعة والكريمة.. فقد اجترح القيم الفاضلة والمحاسن من الصفات والخصال.. ونال بذلك مدح الشعراء وثناءهم ومازال الشعراء يتذكرون بدرا.. ولذلك قال الشاعرعگاب الجراح:
بدر ما ضمته الغيمة بدرصاح... غراب البين باكرها بدرصاح
من فرعت لو حاضر بدر صاح... صيحة وفوگهم گال الشفيه
ولانه باذخ الكرم ومضياف ويشعر بالسعادة عندما يرى ديوانه وهو مكتظ بالوفود من كل حدب وصوب.. وهو يهش ويبش والسرور يطغى على محياه.. وكلمات الترحاب والتهليل لا تفارق لسانه.. ولذلك فقد ذكره الباحثون في هذا المجال.. حيث يذكر الدكتور عبد الرزاق الفهد..(ان الشيخ بدر الرميض..شيخ البو صالح.. استقبل جموع المجاهدين عام 1915م المتوجهين الى الشعيبة/ البصرة.. لمقاومة البريطانيين وذبح لهم الابل والاغنام) واطعمهم جميعا..وهكذا فقد سمعه البعض وهو يردد:
الكرم مثل الشجاعة يريد يرعه... الكفر محمي الينزله بسيف يرعه
اليطب الكون رب العرش يرعه... اليضم راسه چسب كل الرديه
وله في الغزل... مطارحات ومساجلات.. ويستقبل في ديوانه شعراء الغزل ويستمع لهم ويسمعهم شعره:
هلاهل يا دمع عيني هلاهـــــل... على اللي داگ بالگصه هلاهل
تدگ عشماي من تسمع هلاهل... اطوبر والــــــــرعيع ايلوذ بيه
ويؤكد ذلك بشكل اقوى وابداع باذخ الروعة في الربط بين الحب والعزيمة.. بين الغزل والشجاعة.. بين الكرم والعشق..
عبد لأم گذلة الينگط وردها... عطاشه تفاگنه والدم وردها
بسيفي أنحر سريتهم وردها... اليوصل دارنه نوسده المنيه
والغزل في لغة بدر... له طقوس خاصة.. ولذلك نراه يردد:
اريد امشي واسويها سنينه... على اللي ضحك وآراني سنينه
ثلاثة واربعة وسبعة سنينة... درك ببـــــلوغ وانشبني المنيه
ولان بدر بهذه الصفات العراقية النابعة من بيئة موصوفة بالجود ومعروفة بالاصالة.. ومرافقة للكرم والحب والخير.. فقد كان في رأي الشعراء اصحاب الكلمة الصادقة والامينة.. يحمل من الخصال افضل ما تمتلكه النفس العراقية الكاملة في حب الناس والطيبة والعشرة الحسنة والقيم النبيلة ومكارم الصفات ومحاسن الكلم.. ولذلك.. قال فيه شاعر:
صگر وبمخلبه الــــعدوان فارس... واعرفك بالوغى جيدوم فارس
الف رحمة على ذاك العود فارس... لأن خــــــــلف زلم بيهم حميه
ورغم ان صفات الكرم متوفرة في الكثير من شيوخ القبائل العراقية.. لكنها عند بدر لها طعم خاص..حيث لم نقرأ او نسمع عن رجل امتاز بمثل ما حظي به الشيخ بدر الرميض.. والاسباب ليست خافية على احد..
1 - كان بدر كريما شجاعا حليما ذكيا.
2 - كان شاعرا ومهوالا لا يبارى وعاشقا رائعا.
3 - استطاع الافلات من السلطتين العثمانية والبريطانية وحافظ على كرامته وتاريخه المشرف ولم يلوث مسيرته الموشومة بحب الوطن والارض والكرامة والشرف.
ان هذا قد جعل الشيخ بدر الرميض.. في خانة خاصة تليق بالرجال ذوي التاريخ المشرف والشيوخ اصحاب الكلمة الصادقة والوقفات المشرفة.. ويعتبر من القلة النادرة التي ابت ان تمد يدها للإنگليز او لمن سبقهم من السلطات العثمانية.. فكان بمثابة الحجر الصلد الذي تحطمت على جلموده وتكسرت على صلابته كل المغريات التي يسيل لها لعاب الآخرين اصحاب الجاه والسلطة والمنافع الزائلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر: سوق الشيوخ: مجرى نهر وذاكرة مكان / فاضل الغزي.