ادب وفن

تفاصيل في المشهد الشعري.. قصائد لسوزان عليوان / كمال القاضي

لأول وهلة يتصور القارئ وهو يطالع قصائد سوزان عليوان في ديوانها "لنتخيل المشهد" أن الوعاء الشعري لديها أضيق بكثير من الصور والدلالات فهي تعتمد على الجملة القصيرة تماشيا مع فكرتها في اصطياد اللحظات الخاطفة التي لا يتصور غير الشعراء أنها تصلح لتكوين جملة مفيدة أو أن تكون تجسيدا أو مرادفا لحالة إنسانية مشبعة بالإحساس والصدق، فالشاعرة تضمن المواقف العابرة والحركات والسكنات صورا ومعاني تنبض بالحياة وتنطق بلسان العشاق والمرهفين، فكل شيء في قصائدها خاضع للموهبة ويمكن تطويعه حتى الجماد بإمكانها استنطاقه وإحالته إلى جزء من قصيدة أو حوار بداخلها.
لا تعترف سوزان بصمت الجماد فطالما هو يشغل حيزا واسعا بيننا فهو شريك في حياتنا، وعلينا أن نعامله ككائن حي لديه القدرة على التعبير وكسر حاجز الخرس الذي نراه عليه هكذا ترى العلاقة بين الجماد وكل ما يحيط به، غير أنها لا تقف عند هذا الحد ولكنها تحرك قرون استعارها الشعري في اتجاهات هلامية محاولة إيجاد لغة مشتركة بينها وبين الأشياء غير المرئية أو تلك الدقيقة للغاية إلى حد التلاشي، إنها ترفض فكرة التلاشي أصلا، إذ أن الوجود كله وجود ولا أصل للعدم فيه فكل ما هو موجود بالقوة موجود بالفعل وهو اتساق مع النظرية التي تثبت ذلك.
وعلى الرغم من إيمانها بوجود الأشياء والأشكال والروائح والماهيات تتواصل بإحساسها مع صورها الشعرية، من دون نازع مادي فلا تنسى أنها شاعرة وأن تأييدها للفكرة المادية وسيلة فقط للتفتيش في الطبيعة عن جانبها الرومانسي، ولو كان ذلك في أصل المادة الكونية أي أن المراد والهدف هو إثبات أن الحياة تدب في كل شيء في الأرض والسماء والبحار والشمس والقمر والنجوم والأجرام حتى في العوالم الميتافيزيقية.
في قصيدة "عاشق ومعشوق" تقول في سطر شعري واحد هو القصيدة كلها "تماما كما في المشربيات تمنح الضوء أشكاله" إنه المضي على ذات المنهج إثبات السببية بين الجماد وهو المشربيات والضوء كناتج كوني وطبيعي للشمس ولا نجدها تزيد على ذلك التسفير، حتى لا تفسد القصيدة بمعاني تحليلية وتفضل أن تترك للقارئ متعة التخيل.
في قصيدة أخرى بعنوان "قوس قزح" تعود فترسم صورها في لوحات مرئية فتكتب "كلما ابتسم الهلال في ظل نجمتين عادت السماء وجها.. وكلما اختلسا تحت المطر قبلة استعاد الحب كما لو بمعجزة ألوانه السبعة".
ونرى في قصيدة "بلد الدموع" تنويعا مختلفا فهي تكتب عن شيء ما لا تذكره، إذ تقول في تورية متناهية وفي سطر واحد أيضا "ذلك الذي لا نستدل على مكانه إلا من خرائط الأطفال" فربما تقصد نهر الدموع الذي يشكل خرائط على خدود الأطفال أو أنها البراءة تتحدث عنها من دون تفصيل وتستشعرها فيما يمثله البكاء الذي هو وسيلة الطفل الوحيدة لتلبية رغباته، كل الاحتمالات واردة في الصورة الشعرية الخاطفة ولحظة الانفعال عند الأطفال وللبلياتشو كذلك نصيب من موهبة سوزان عليوان، فهو كونه مقرونا بالطفل في نشاطه البهلواني والحركي فهي تورده في قصيدة وتصف دموعه بالملونة تماشيا مع مظهره المبهرج فتعبر عنه هكذا: مكوما مهملا مثل خرقة قديمة على مصطبة ملطخة بدموعه الزرقاء الحمراء الخضراء المنهمرة وتشير إلى مأساته فتستمر في وصفه قائلة بمساحيقه الرخيصة على الخشب المتهرئ وجوخ قبعته الداكنة المضاءة فجأة بقمر فضي من جبينه وزهرة من شعرها بيضاء.
تكوين شعري تتداخل فيه الصور والإيحاءات النفسية والإنسانية للإبلاغ عن الحالة بما يليق بطبيعتها ويتوافق مع مزاج القارئ الذي يقف على أعتاب الشعر ولا يدخله، فهي تراعي شروط التعامل مع المتذوق وتتخير من القاموس اللغة المناسبة للتعبير عن التفاصيل مهما كانت دقتها لذا تميز إنتاجها من القصائد بذلك الوميض الخاطف كضوء يبرق في العيون فيحدث الدهشة ويظل تأثيره باقيا إلى ما بعد الصدمة.