ادب وفن

المحطــــات / جاسم عاصي

لا أدري لِـمَ راودتني تلك الفكرة وسيطرت عليّ في كل وقت؛ من أنني أ حاول ومنذ أمد بعيد الوصول إلى المحطات المرتقبة. وما ينتظرني محض محطات متوالية. لذا فعليّ أن أصل إلى كل منها وبأي شكل كان لكي أستقر على رصيف محطتي المرتقبة.
فقد حزمت أمري كي أدرك القطار قبل وصوله المحطة التي بجانب المدينة، غير أني أعود خائبا ً في كل مرة، كما لو أني عائد من جري سريع، أو سباق لخيول بمسافات طويلة الأمد. أجر جسدي الواهن ورأسي المشحون بالطنين والهواجس. أعود تصحبني هتافات تصدر من أفواه لأناس تتراص صفوفهم على شكل رواق طويل، محفوف بالألوان والتشابكات. ألوان متنافرة تبدو فاقعة. رمادية وداكنة، مقرف بعضها. بينما لا يتردد في رأسي بعد ذلك سوى حفيف أوراق الأشجار، أو صرير ضلفات الأسيجة الخشبية والأبواب وهي تتزاحم بأنينها من خلال الفواصل المتآكلة الصدئة. أو عبر التشققات التي أحدثتها الرطوبة وتساقط الأمطار، حيث أدت إلى انحسار قطع الخشب وتباعدها عن بعضها، وتركت فجوات كالشروخ العميقة تئن بصفير موحش كلما هبت الرياح. يزداد أنينها المفجع في الليالي المظلمة. أنين وصياح كالعواء. إذ ما فتىء يؤرقني وأنا عائد إلى مستقري بعد ضياع فرصة إدراك القطار الذي يقلني إلى المحطة التالية. أعود خائباً جريحاً، أشعر بالوحشة. لكني أُبطىء السير، كأن قوة ما تعطل حركتي. إذ تربط ساقيّ مع بعض، وتقرب المسافة بينهما، بحيث تكون خطواتي محدودة، مما يربكني ويؤدي بي إلى التعثر، ويعطل من سيري السريع أو الاعتيادي، فأبدو مثل حصان يضلع ، يسير ألهوينا، ململما ً جسده وبقايا خطواته نحو حظيرته.
هذه الصورة تتجدد، لكني أرسم في خارطة رأسي صوراً وتخطيطاً للمحطات التي سأدركها وأستقر على أرصفتها ، وصوراً للمدن التي سأدخلها. ولا يسعني الوقت، أنا المؤرق دائما ً أن أحاول انتشال لحظات هادئة في التخطيط وتصور ما أنا أحلم به .. مدناً فارهة ذات قباب وأسيجة وأروقة، زوايا وممرات، محفوفة بألوان منسجمة متشحة بهالة من التناغم والألفة. ألفة كل الأشياء وقدرتها على المضي بكثافة ورشاقة داخل النفس، بحيث لا تترك سوى الجمال والطمأنينة في هذا الغور العميق الذي يداخل الإنسان الذي هو كالبئر المليء بالأسرار. لا أن تكون تلك التقاطعات وتلك الحركات المتشابهة والمتنافرة والتي هي ليست إلا اختراقات لخطوط عابثة، مداخلات لرؤوسها الحادة التي توخز الأجساد الباحثة عن ملاذها. حيث تخترقها إلى مديات بعيدة، مخلفة أوجاعاً وانعطافات سليمة لرؤوس تلك المستقيمات. وإن حاولت الانحناء أو الدوران، فهي إنما تحاول شد الجسد والالتواء حوله كالشجر المتسلق. تضغط وتوخز خاصرتي. إنها تقاطعات شديدة الحركة، لكنها باردة كالجليد. مسطحة ناعمة تلمع وجوهها كأنما طليت بدهان صقيل يغري للمغامرة ولو قليلاً، وبريبة. لكنها اندفاعات مغرية، حيث يجد المرء أن قدميه قد انزلقتا على سطحها المنزلق والمشع، فيزداد بريق العينين، وتنكشف غشاوتهما وتتخطف الألوان كما لو المرء ينظر من خلال موشور ضوئي. وفجأة يجد أن الألوان قد أحيلت إلى بريق شمسي حاد فيغمض عينيه. إذ تنزلق القدمان رويداً.. رويداً، تنزلقان وتأسرهما حالة الانقياد العشوائي. رامية الجسد عبر هذا التسطح الذي يتحول إلى ركام من اللهاث المر، والجري السريع. الجري نحو المحطات التي لا تدُرك. محطات هادئة بعيدة داخل رأس مليء بالأحلام، تحمل أسرارها ونكهتها. وهي ربما تؤدي أيضاً إلى مدن واسعة ومحطات أخرى. لكن البريق في كل مرة يضيّع المحطة التي ما أن أدركها، حتى أدرك مبلغ لهاثي، فأحس أن البريق قد أنطفأ، وأن سرعة ساقيّ قد ثقـُلت، وأن ترابا ً ناعما ً علق بهما، وأن المحطة موجودة فعلاً وإلاّ ما حلمت بها، لذا فأني قد أدركها بعد فوات الأوان، وفي وقت يكون القطار قد غادر نحو المحطة الأخرى..!
ما الذي دهاني؟، حتى تكون مصادفتي مع أنين التشققات والأبواب السائبة للريح..! فلا يداخلني سوى صريرها الموجع، أو وحشة خواء الصحراء وصفرتها، أنا الذي لا يلح علي ّ غير حلم المحطات والقطارات الخاطفة. أي المحطات كانت، فأنا متأكد أن تلك القطارات ربما تكون محملة بالعجائب والألوان وتشابك الأشياء فيها، ثم الذكريات الدفينة، الأحزان والأفراح. وربما التقاطعات أيضا ًبين رؤوس الخطوط، لكنها على أية حال مجتمعة على بعضها، مشكلة صورة جديدة، أستطيع من خلالها أن أُصمم أشيائي، وأرتب ما تلف من طموحات، كي ا ُعيد تنظيم انكساراتي. وربما تكون المحطة التي تليها أقل وحشة، لأنها تابعة لمدينة هي أفضل ما حفلت بها أحلامي. أو فيها جزء مما أنا أعيش على وهمه.
هذه الفكرة سريعة التأكيد عليّ ، بحيث أخذت من وقتي الكثير. وهي تتكرر في اختيار المحطة والإسراع إلى إدراك القطار المراد. وحين أ ُدورها في رأسي يكون "عدنان" هذا الصديق الوحيد الذي عرفت معه سر كون الزمن هو اللون الذي نـُحب، وأن اختياره محض صدفة، ودخوله نوع من المغامرة، إذا فقد أشتد إصرارنا على الدخول إلى الزمن، دخولا ً هادئاً دون إحداث فوضى الأشياء من حولنا، لذا فنحن نبدو في المساءات مثل ساقيتين صغيرتين تجريان بشكل متواز إلى أن يدركا تشعباتهما فيقتربان. لحظتها يبقى ذلك البريق العذب بينهما، هذا الصديق يبدو لي مثل هواء منعش، أو شبيه بجنينة وارفة. لا لكونه يروق لي فقط، وإنما لأنه يحمل أشياءه ويبصر هذه التقاطعات بعينيه ورأسه، ويدركني قائلا:
ــ لا أعتقد أنها من السهولة بحيث تـُدرك مباشرة.
ــ هذا صحيح.
أ ُجيبه، بعد أن أفهم ما يعنيه، أردف:
ــ ولكن ألا تعتقد أنه حق طبيعي أن ندرك الأشياء..؟
ــ إدراكها شيء نسبي.
ــ ومن الممكن إدراك النسبي على أنه النقطة المضيئة، أليس كذلك..؟
ــ هــــــــذا ما تتصوره فقط. الإدراك نسبي، غير أن التوغل فيه يتسع كالفجوة. فهي فجوة مضيئة على ما أعتقد.
ــ مضيئة بالنسبة لك وربما لي، لكن هذا أيضا ً خاضع للنسبي من الأشياء والرؤى المختلفة.
ــ إنها لا تبدو لي معقدة، فالذي نريده شيء من خلق التوازن، أن نعثر على خط ولو يبعد قليلا ً من نقطته، غير أننا من الممكن إدراكه.
ــ النقطة التي ندرك من خلالها الأشياء ليست صعبة، غير أن التشابك هو الصعب، واجتيازه الأصعب.
ــ أعتقد أن اجتيازه أفضل من الخضوع لأسره.
ــ ربما.
ــ إنه صعب كما يبدو بالاقتران. أن تحدد افتراقك عن تلك الخطوط الموهومة.
ــ ربما يكون صحيحا ً، لكنه أمر صعب.
ويولي كل منا وجهه إلى جرف آخر، نحو النخيل المتراصّ: إنما القطيعة ابتدأت، حيث أدركنا التشعبات للجداول الصغيرة ومن الممكن تبديد مياهها والعبث فيها. غير أني كنت أ ُحاول التشبث بالحذر. فبعد أن ألقيت نظرة ساهمة إلى النهر قلت:
ــ ألا تلاحظ أنه نهر آخذ بالتعفن كالجثة النافقة ..!
ــ النهر هذا..؟
ــ نعم .. ألا تلاحظ أنه يبدو على هذه الصورة...؟
ــ ألاحظه، لكنه ليس بديلا ً لكل الأنهار.
ــ هذا صحيح، إنه يدفعني لاستعادة صورة أقرانه، تلك الأنهار التي شقت مجاريها باندفاع قوي.
ــ إنها تشق طريقها كما ذكرت وتصل إلى آماد بعيدة.
ــ وإلى ماذا تفعل..؟ إنها كالإنسان يندفع نحو مراميه.
ويحدق بي، وأنا أتيه في رقعة وجهه وتناثر الشعر على جانبي رأسه، فتصورت نفسي أدخل نهراً غنياً ازدانت ضفتاه الغرينيتان. تصدر مياهه حفيفاً شديداً. يدرك الأغوار البعيدة. وكنت أقترب من ضفافه وأغمس يدي في مياه جرفه ثم قدميّ وساقيّ، وأقف في قاعه القريب، مقاوماً التيار، فأبدو مستسلماً كما كنت في الطفولة حيث تستقبلني الأنهار. هكذا أبدو بين يدي النهر هذا، شارداً بكل مكنونات صدري في مجراه الواسع المندفع. مذوباً كل ما عندي في عذوبته وعنف تياره ورقة قلبه، مشيحاً بوجهي عن النهر النافق هذا، منشّداً لعظمة الأنهار الكبيرة، مدركاً حقيقة أن المحطات ربما هي التي تقودني إلى الأنهار عبر قطارات تـُسرع أو تبطئ ، تطول مسافاتها أو تقصر، تقطع الصحارى أو الوديان. لكنها ستصل في النهاية إلى المشارف. وأنا امرؤ لا يريد إلاّ إدراك القطار في وقت محدد، وبالمحطة الأولى التي انتظرت فيها طويلاً، وسحرتني المحطات الأخرى التي تفضي إلى المدن القريبة والبعيدة، عبر خيالات متشعبة في قطارات خيالية. حيث تتسع الصحراء والمراعي وتكاثف الغابات إذ تشتد قوتها واندفاعاتها، فما تركت فينا سوى الارتجاجات المتتالية التي تأخذ بالجسد. تهزه وترجه كما لو أننا في جردل واسع، يهتز ويختط. ولا نجد في النهاية إلاّ أن أقداماً تجرنا ببطء. وككل مرة نصغي للصرير الموجع الصادر من بين ضلفات الأبواب وتشققات قطع الخشب التي أدت الرطوبة ومياه الأمطار إلى انحسارها، فباعدت بينها، إذ أزداد صفير الريح وعواؤها كلحن أزلي، يكثر رنينه وإيقاعه في كل وقت. وأنا أنظر إلى كل التقاطعات والخطوط المتقاربة مع بعضها، فيما أرى نهراً نافقا وصديقاً يحدّق في وجهي، يعتصره الألم ومارّة كثيرين، وصفارات تضج ومساقط للضوء غير منتظمة، وعواء السيارات، وهي تخترق الممر الذي يشكل مدخلاً للمدينة التي تركت نهرها يتعفن هكذا، وأنا أنظر إليه بتأس ، مدركاً أن ألأنهار صعب الوصول إليها، وأن المحطات ما أن أصلها حتى أدرك وحشتها ووحدتها، ولا قطار هناك..!
يحدق بي وأُحدق فيه، هذا الوجه الذي يشبه مجرى النهر في ذاكرتي، إذ تستقيم قاماتنا، نسير بخطين متوازيين، مثل ساقيتين صغيرتين. ندرك التقاطعات ونتوغل في داخلها ونخترقها غير عابئين بضجيجها وصريرها، وغير مكترثين لضوضائها ورنين أفئدتها واندلاق أحشائها. في ما نجد أن النيونات بدت تبرق في المساء، والمصابيح الملونة تزداد لمعاناً بينما حركتنا نحن الاثنين متناغمة في سيرنا على نفس الإيقاع غير الممل يومياً. ساقيتان بل نهران صغيران يجريان، يدرك كل واحد مصبه، بعد أن نفترق في نقطة محددة لنا، يمد كل منا كفه لمجرى الآخر، يأخذ حفنة ماء رائق وباهر، يدفعه من بين أصابعه كنثيث المطر نحو وجه وجسد صاحبه، كما لو أنه رذاذ ينبجس من فوهة مرش عطر يوزع أريجه ونكهته، كي يتطهر الجسدان، حاملين العبق إلى المدارك المنتظرة، فيتحول كل ما حولنا إلى حديقة مليئة بالأزهار.