ادب وفن

الحسين وسبايكر.. مدن للدم / احمد كامل مثنى *

تنتج الجمالية فكرا مفاهيميا يفضح أقنعة الصورة الفنية السطحية المباشرة ليخرج بالثمين المعنوي الدلالي وهذا ما دأب عليه "جفات" طوال عروضه السابقة من فضح تلك الصور ما عدا هذا العرض الذي حاول فيه الوصول قدر الإمكان للمشاهد التربوي لذلك لم تكن هناك ثمة قطيعة مع المتلقي الذي بدوره كان يحمل مدلولات وأفكاراً تلاقت وتلاحمت وتأصرت مع أفكار النص "مدن العالم" والذي ارتأى المؤلفان ان يبدأ بسؤال فلسفي وجودي يحمل بين طياته يأساً وضياعاً وصدمة وتساؤلات عدة كثيرة "أنا لمن.. وضد من" موجها سؤاله الى حتمية لازمتنا دهورا هي: "موتى في نعش كبير يدعى الوطن".
استطاع النص رغم عنوانه الواضح الفاضح للعبة النص وخفاياه والذي بدوره منح المتلقي أو أعطاه إشارة لما سيحدث من دم وقتل ان يستوعب الحدث ويمليه ويعطيه بعداً جمالياً وفنياً بلغة رشيقة وعبارات شعرية اليمة "عطشى يا أرضي عطشى... منذ قتل الحسين وأنت تشربين، أشربي... أشربي.. دماء.. ودماء.. ودماء".
لقد استدعى النص الماضي بصورة الإمام الحسين فتحول الزمن الماضي بأحداثه جميعا وأشكاله الزمنية من ذكريات ماض سجلها التاريخ الى شخصية حاضرة الآن.. ما سبب استدعاء ذلك الماضي عملية إحالة متصورة بين التاريخ المسمى "بالحسين" وهو تاريخ قد مضى والحاضر المسمى "مجزرة سبايكر" وهذا ما منحه قوة وتشبثا أكثر ليقدم لنا ثمة مرتبطة بثورة الإمام الحسين من ظلم وظليمة وغدر وخيانة وكذلك كون الشهداء في قاعة سبايكر على أيدي أناس هم امتداد للفكر الأموي لقد وافق الكاتبان "هشام جفات" و"نعيم خلف" بجعل نص "مدن الدم" يحاكي مجزرة سبايكر بتفاصيلها الدموية ونقل لنا ما حدث بطريقة " Flashback" "الاستذكار" لأحد الناجين لهذه المجزرة وهذا يحسب لهما ليجعل المتلقي يتفاعل ويتواصل مع الحدث الذي استوعبه الأسلوب وبساطة اللغة.
وكانت الموسيقى مشبعة بمزاج الدم والنكوص والثورة مما دفعت المتلقي ان يشعر بدواخله بمزيد من الالم والضعف أحيانا والهزيمة والمواجهة أحيانا أخرى لذلك لعبت الموسيقى دورا مهما وبارزا في الصراع الدرامي وأضفت جوا خاصاً ومتنوعاً وحسب الفعل الدرامي رغم بعدها أحياناً في بعض المشاهد عن الحدث لكن كان لها حضور مميز على أيدي العازفين الرائعين احمد لفتة ومنذر سامي اللذين مزجا "العود والجلو" بصورة مكملة الواحد للآخر وبإمكانيات تكنيكية عالية ويحسب لهما ان الموسيقى كانت مباشرة لذلك كان تفاعلهما الحسي متواصلاً مع المشهد.
أما سينوغرافيا العرض فقد لعبت دورا بجعل خشبة المسرح رغم عدم مواءمتها للعرض تملك بعداً وعمقاً لعين المشاهد، وأضاف اللون الأسود المتمازج مع الأحمر والأبيض وصور الشهداء المنتشرة على جدران المسرح وفي الصالة جوا وكأنما المتلقي داخل حفل تأبيني يعزي فيه نفسه والشهداء كذلك استطاعت الإضاءة رغم محدودية المكان أن تعطينا صورا رائعة بالتمازج بين الأحمر والأزرق عمق المشهد وأتم البعد الجمالي لهما.
وللأداء التمثيلي دور كبير لكشف أقنعة الصورة الفنية السطحية المباشرة وإظهار الدلالات المعنوية حيث لعب الممثل "صلاح حسن" دورا ليوصل لنا فكرة ما حدث في سبايكر بإحساسه العالي وبعاطفته الجياشة وصوته الجهوري ولغته العربية الرصينة ومخارج حروفه الصحيحة رغم أنه في بداية العرض خانه الإيقاع لكنه سرعان ما تدارك نفسه وامسك بإيقاع العمل. أما الأدوار التكميلية استطاعت "أسماء صباح" أن تعطي للعرض دفقاً كبيرا خاصة في المشهد الأخير عندما كانت ترتل بصوت حزين كلمات "دللول يا الولد يا ابني". أما "احمد كامل" أحد الجنود الضحايا في سبايكر دخل في ذروة العمل في عملية الذبح وقد كان موفقاً لحد ما في أظهار صورة البريء المتفاجئ من غدر الأصدقاء.
لقد سلك المخرج "جفات" طريق المدرسة التعبيرية "البدء من النتيجة ومن ثم أظهار الأسباب للوصول إلى هذه النتيجة"، أي البدء من القمة للوصول إلى النهاية، أما جغرافية المكان فقد كان موفقا في استغلال الخشبة والقاعة والتي استغل مقدمتها ما منح المتلقي إحساساً بأنه جزء من المكان خاصة في مشهد سحب الممثل "الجندي" من بين الجمهور وقد استعان "جفات" بالواقعية في مشهد ذبح الجندي وبه كان قاسيا لعين المشاهد باستخدامه السكين والدم وهذا ما يحتاجه العراقي الآن ليعرف حقد وطغيان وقسوة عدوه.
أدوات العرض وهي لوازم إعدادها "جفات" المرايا.. الماء.. والقماش. كانت تعتمل دلاليا داخل العرض استطاع بالمرايا ان يمنحنا عدة تأويلات مرة صديق.. مرة عدو.. وأخرى ساتر. أما الماء في الدلو فكان يملك عدة دلالات منها غسل الذنوب لغسل الدماء لإشباع الأرض العطشى بالدماء وتأتي أيضا بدلالة النهر الذي ألقى فيه شهداء سبايكر.
لا يكفي أن نقول إن مسرحية "مدن الدم" أعطت مساحة واسعة للعين كي تلتقط الجمال وتتحسسه أكثر.
شكرا لكل من منحنا فرصة لنعطي للثقافة.. للجمال .. للوعي.. مكانا بيننا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مخرج مسرحي