ادب وفن

تحديات النقد: نجيب محفوظ والقراءة الجديدة / زهور كرام*

توجد أمام النقد الأدبي تحديات كثيرة، تحدد وضعيته، وترصد أفقه، وتكشف مظاهر قوته أو ضعفه. لا يتعلق الأمر، فقط، بمدى قدرة النقد على مواجهة الكتابات الجديدة بأسئلة مختلفة ومناهج جديدة، وإلى أي حد يمتلك النقد الجرأة الفكرية والفلسفية والمنهجية على تطويع نظرياته، وتطوير آلياته ومفاهيمه وتصوراته، من أجل حوار تفاعلي مع مستجدات الأدب، حتى لا يكون علة أمام تطور الأدب، أو عائقا أمام تحرر الكتابة من الأشكال المألوفة، وإنما تواجه النقد تحديات من نوع آخر، يتعلق الأمر بتجديد القراءة، إما لأعمال إبداعية عرفت تراكما كبيرا من المقاربات والدراسات، وجرأة النقد في إبداع أسئلة جديدة حول الأعمال نفسها، مما يضمن لتلك الأعمال حياة جديدة في التفكير والقراءة، أو الاقتراب من مبدع حوَلته تصورات ثقافية واجتماعية وإبداعية إلى سلطة رمزية، أخرجته من السؤال وأدخلته منطقة الحصانة "الخالدة"، من خلال اقتراح أسئلة مختلفة، تُعيد المبدع إلى واجهة التفكير، من أجل إعادة إحيائه بالسؤال والفكر والقراءة، وتجديد التأمل في رؤيته الأدبية. إن الرهان على هذه التحديات، ومواجهتها منهجيا ومعرفيا، يجعل من النقد مؤسسة فكرية تنويرية، لكونها ترقى بالسؤال ضد الثبات والركود.
يعد المبدع العربي الكبير "نجيب محفوظ" من الأسماء التي شكلت حضورا متميزا في المشهد العربي، بفعل نوعية الإبداعية التي أسسها، والتي أنتجت أشكالا من الكتابة، رافقت تحولات المجتمع، ولذلك، أبدع في التشخيص السردي للمجتمع والواقع والعلاقات الإنسانية والشخصية المصرية - العربية والتاريخ القديم. وهذا ما جعل أعماله الروائية والقصصية من أكثر الإبداعات العربية التي حظيت باهتمام كبير ومتابعة مستمرة ودراسات نقدية أنتجت تراكما مهما في المشهد العربي. ويعود الأمر إلى موقع نجيب محفوظ في التصور الثقافي العربي، باعتباره من أهم المبدعين العرب الذين أخلصوا للتعبير السردي وحوَلوه إلى رؤية فنية، أنتجت وعيا بالواقع العربي.
كيف يمكن إذن، للنقد العربي أن يكون في مستوى المشروع الروائي لنجيب محفوظ؟ وكيف يضمن النقد استمرار هذا المشروع لدى الأجيال الجديدة؟، وإلى أي حد يمتلك النقد العربي جرأة تجديد قراءة نجيب محفوظ بعد رحيله؟، وكيف يمكن أن يتجاوز النقد الصورة النمطية التي كرستها بعض الدراسات حول نجيب محفوظ، من أجل حياة متجددة لكتاباته مع القرن الواحد والعشرين؟ وما هي الأسئلة الجديدة التي يقترحها النقد على أعمال نجيب محفوظ الروائية والقصصية؟ كيف يمكن استثمار تميز كتابة محفوظ في الكتابة السردية العربية؟
تلك عيَنة من الأسئلة التي نفتح بها نقاشا مسؤولا حول علاقة النقد العربي الآن بإبداعات نجيب محفوظ بعد رحيله.
إن استمرار مبدع بعد رحيله، في تفكير الأجيال الجديدة، وفي التأثير في شكل الكتابة، يتم بإحيائه قراءة، وتجديد التواصل معه، وليس بتحنيط إبداعيته ضمن قراءات، تستهلك التصور السائد نفسه. من أجل الاقتراب من دخول النقد الأدبي تحدي إعادة تجديد قراءة أعمال نجيب محفوظ ، نستأنس ببعض الأسئلة المُغايرة التي اقترحها/ يقترحها النقد المغربي حول نجيب محفوظ وأعماله السردية، التي وردت في الكتاب الجماعي "نجيب محفوظ والنقد المغربي"، الذي كان عبارة عن أعمال اللقاء الثقافي، الذي نظمه مختبر اللغة والإبداع والوسائط الجديدة، في جامعة ابن طفيل في المغرب، سنة 2011، بمناسبة الذكرى المئوية للروائي الكبير نجيب محفوظ. لقد خرجت جل دراسات الكتاب عن خطاب الثناء والتمجيد والاحتفاء، واقترحت مقاربات مختلفة، من شأنها أن تُعزَز حضور محفوظ في القرن الواحد والعشرين. هكذا، يختار الناقد سعيد يقطين سؤال "في الذكرى المئوية لنجيب محفوظ هل من نجيب عربي في القرن الواحد والعشرين"، إيمانا منه، بأن كلمات التقريظ والثناء التي يستحقها، نجيب محفوظ في هذه المناسبة، هي على أهميتها، لا تعد "سوى تأبين جديد وتكفين مجدد، لا يساعد على التفكير ولا على التحفيز للارتقاء بتجربته لتكون مثالا لغيره من المبدعين"، ولذلك، عوض المدح والثناء، اختار الناقد يقطين تفكيك طبيعة المشروع الإبداعي لدى نجيب محفوظ، لإضاءة عناصر القوة التي جعلته يحظى بإجماع حول تميَز إبداعه، من أجل استثمارها، وتحويلها إلى إمكانات ممكنة للحديث عن "نجيب" القرن الواحد والعشرين. وقد أرجع سعيد يقطين قوة المشروع المحفوظي إلى ثلاثة عناصر مترابطة في ما بينها، ويصعب وجود أحدها دون الآخر، تتمثل في: الإنصات لنبض الواقع المُتحول، من خلال استقاء محفوظ لمادته الإبداعية من الواقع في تحولاته ومنعطفاته الخطيرة، والاستغلال المنظم للوقت، ثم مبدأ الاستمرارية في الكتابة والنشر. وهذا ما جعل نجيب محفوظ يُؤصَل للكتابة الروائية في التربة العربية، من خلال مشروع روائي تميز بالأصالة، والتنوع والتكيف مع التحولات السياسية والاجتماعية والتاريخية التي عرفتها القاهرة/ مصر، باعتماد خلفية فلسفية وإعلامية. إنها الإمكانيات التي يمكن استثمارها بالنسبة لنجيب القرن الواحد والعشرين، مع اعتماد عناصر التحول التاريخي - الحضاري مثل، الوسيط التكنولوجي الذي أصبح عنصرا بنائيا للنص الأدبي، واللغات الأجنبية. بهذا الأفق، يظل نجيب محفوظ مستمرا ليس باعتباره كفاءة إبداعية متميزة، وإنما لكون عناصر قوة مشروعه، يمكن أن تشكل استمرارا لدى الكاتب العربي في القرن الواحد والعشرين.
أما الناقد رشيد بنحدو فإنه اختار سؤالا مختلفا، لإعادة قراءة نجيب محفوظ، ولعل عنوان دراسته "كيف قرأت نجيب محفوظ من غير أن أقرأه"؟، يثير الدهشة، ويُحفز على التفكير في شكل القراءة التي يقترحها الناقد بنحدو. ويقصد رشيد بنحدو بتعبيره المثير للدهشة، عجزه عن التمرس الجمالي بروايات محفوظ، في ظل سياق قسري، كيَفته جملة من التلقيات التي جعلت نجيب محفوظ وأعماله، تشوش على التلقي المنتج. ومن بين هذه التلقيات، يأتي الخطاب النقدي الذي ينتظر صدور كتابات محفوظ، ليُجرب عليها الترسانة المنهجية، ويستهلك التصورات السائدة نفسها حول روايات محفوظ، إلى جانب تلقيات أخرى تدعم الاهتمام نفسه بالصور المألوفة نفسها، مثلما يحدث مع السينما والإعلام، والكتاب المدرسي، وهي أشكال تُعطل متعة الدهشة لإبداعات محفوظ، وتُشوَش على نقاء التلقي. إذ، تتحول هذه التلقيات التي تعتمد خطاب التمجيد، إلى عنصر خلل أمام التفاعل الوظيفي لإبداعات نجيب محفوظ. يطرح الناقد رشيد بنحدو سؤالا مهما حول شكل تلقي نصوص محفوظ، الذي يُكرس القراءة نفسها، ويُقيَد انفتاحها على الإمكانيات الجمالية لكتابته.
يصبح المشكل إذن، في أشكال التلقي التي تُحنَط إبداع محفوظ ضمن تصورات جاهزة، وتُربك سيرورة التمرس الجمالي بنصوصه. ويشرح رشيد بنحدو التمرس الجمالي بانتقال القارئ من كونه ذاتاً سلبية، تمارس قراءة صامتة للنص، إلى كونه ذاتاً فاعلة، تنتج قراءة كاتبة له. نخلص من هذا الشكل من التفكير في نجيب محفوظ وأعماله السردية، بعد رحيله، من خلال إعادة القراءة، والاكتشاف، والبحث عن التمرس الجمالي لنصوصه، إلى ضرورة الحذر من نوع التلقي الذي فيما هو يقترب من كتابات محفوظ بالتمجيد والثناء، ومن خلال لغة الاحتفاء، فإنه يُدمر إمكانية استمرار هذه الكتابات بالقوة والأهمية نفسهما. بهذا الشكل، يتحول النقد الذي يعتمد عنصر الانبهار بشخصية نجيب محفوظ، والإعجاب بكتاباته، باعتماد مضمونها، من دون تحليل شكلها، إلى مجرد قراءة صامتة.
ــــــــــــــــــــــ
كاتبة وأكاديمية مغربية