ادب وفن

آهات فرح دوسكي في «أحاول دحرجة الأيام» / محمد جودة العميدي

عن المركز الثقافي للطباعة والنشر في بابل وبأشراف الشاعر ولاء الصواف، أصدرت الشاعرة المبدعة فرح دوسكي ديوانها الثاني «أحاول دحرجة الأيام» لتضيف للمشهد الشعري قصائد جميلة في لغة جزلة صافية تعي فيها ما تريد البوح به.
عن المركز الثقافي للطباعة والنشر في بابل وبأشراف الشاعر ولاء الصواف، أصدرت الشاعرة المبدعة فرح دوسكي ديوانها الثاني "أحاول دحرجة الأيام" لتضيف للمشهد الشعري قصائد جميلة في لغة جزلة صافية تعي فيها ما تريد البوح به.
استوقفني العنوان لأن الزمن فيه - الأيام - يبدو ثقيلا للجميع بثقل ما تشهده بلادنا من ابتلاءات من شرور وقتل وسلب وتهجير قسري.
ترسم لنا الشاعرة فرح دوسكي صورة تأكيد للذات العراقية المتأرجحة بين الصبر والانتظار:
دربك موحش يا بغداد
أرحل في الفراغ وبوصلتي تؤنس صبري
أن ستمطر الشمس يوما
أشرعة الخلاص بأسمال بالية
على بقايا ديناصورات
بهدوء، تمضي..
في ديوانها "أحاول دحرجة الأيام" تشتغل الشاعرة فرح دوسكي بنمطين شعريين: نمط قصيدة النثرfree verse ونمط القصيدة الومضة.
يضم الديوان بين دفتيه ست عشرة قصيدة: من بينها "تراتيل أنثى" و"شذرات للوطن" اللتان تضمان ثماني وسبعين قصيدة ومضة أو ما تسمى بالدفقة الشعورية، أو قصيدة الكتلة mass poem أو النص المختزل short hand text مكتنزة بتكثيف دلالي عال بمفردات قليلة جميلة تطرب لسماعها الأذن يشعر بها ذوو الذائقة اللغوية.
يبدو لي أن الشاعرة فرح دوسكي كانت ترنو إلى إبداع نصوص خارجة عن المألوف، فكانت تتفادى المفردات الشائعة منقبة عن ما تكتنزه العربية من مفردات خلابة، ورغم صعوبة العربية لها، كانت كلمات قصائدها قد تنصلت عن وظيفتها في نقل الأفكار إلى مفجرة للأحاسيس.
وقصائد الومضة epigrams عند فرح دوسكي كما عند غيرها تعتمد التكثيف و والإيجاز والإيحاء مما يجعلها نابضة بانفعالات النص الشعري، وقصائد الديوان جميعا ترجمة حية لمعاناة ذاتية وروح مزقتها الآلام والآهات بسبب صدق وعفوية الانتماء لوطن جريح.
قصائد الديوان كلها ذات مسحة تراجيدية راجعة إلى مشاعر حزينة كامنة محملة بالهم الإنساني في بلادنا، وحال الشاعرة وهي تئن وتتأوه جاعلة من ذاتها "الأنا" مركزا للقصائد:
آه ، آه ، آه
ما أوجع الحب ، وثيابنا حداد
امرأة يعلكها الانتظار
مر من جانبها وما وقف
أرجأ اللقاء ثم سار..
وهذا ما يشير إلى مسايرة الشاعرة للحداثة الشعرية:"أنا أتصبب خوفا من عرق"، "أنا أملك مجذافا من ورق"، "إني ارتجف بنشوة تنز الارتطام"، "أنا لم افعل شيئا، سوى إني"، "أنا اعتدت الحروب"، " أنا راحلة.. اسرجت خيلي".
تبدو الشاعرة فرح دوسكي في قصائدها متعبة ومتوترة وقلقة، ففي قصائدها عناوين تدل على ما نقول ففي "تراتيل أنثى" يجد القارئ مفردات مثيرة للحيرة:"شظايا، ألم، أسئلة، عطش، ارتطام، هبوط، زنزانة، اشتباك، ظمأ، هشيم، نحيب"، وفي قصيدة "باب": "تقدمي بغداد.. أمش مع الناس إلى البيوت"، فيها من الحنين الى الزمن الجميل الذي يفوح ودا و مودة بين الناس.
في قصيدة "لن آتيك ثانية" تبدو الشاعرة فرح دوسكي عنيدة من خلال استعمالها المتكرر لحرف النصب "لن"، وفي قصيدة "لمن أتعطر؟" ثمة تساؤلات ذاتية بحوار فردي " monologue " وبمفردات موسيقية ولغة حلم ترتكز على الصورة والإحساس واللون والعطر كامنة بمشاعر حزينة:
لمن أتعطر وفي القلب ألف سكين وخنجر
لمن
فما زال الغيظ فيضا، و ما زال الدم أحمر
لمن؟
والعالم ما زال أخطر؟
وفي قصيدة "إياب" التي تبدو لي - كقارئ - إنها قصيدة ومضة رمزية فيها من الرمز ما يدل على إن الشاعرة غير متفائلة في تجاوز ما يواجه بلادنا وما يعانيه شعبنا. وفي القصيدة تقنية "المفارقة" التي أجادت الشاعرة في استخدامها إذ إن القارئ سيقف عندما يقرأ:
سأرسم منفى
ليتبعني وطن
يجمعني يوم الغياب إيابا..
ما أستطيع قوله - كقارئ- إن الشاعرة فرح دوسكي قد نجحت في تحقيق عنصرين هامين، أولهما أنها أجادت في التقاط الومضة لكتابة قصائدها وبمستوى عال، وثانيهما أنها أجادت بعرض النصوص بكثافة لغوية عالية من خلال شحن المفردات بأكثر ما يمكن من الدلالات. وبهذا فأن الشاعرة تجود بفرصة للقارئ لتترك له حرية التأويل.
تمتلك الشاعرة فرح دوسكي ضرورات الوعي في كتابة قصائدها معتمدة أساسا على الحدث المركز وهو "قضية وطن". وبهذا الوعي تؤكد فرح دوسكي أنها قارئة متيقظة - أثارتنا - و نحن نسمع قراءتها لبعض النصوص مؤكدة بذلك قول باشلار:"يجب أن يكون الأديب قارئا متيقظا إلى أقصى الحدود".
وبعد فأن قصائد الديوان ذات بناء شعري متين وذات الشاعرة حاضرة في أغلب قصائدها والمشهد الشعري الذي تعرضه الشاعرة فرح دوسكي متميز يجعلنا مطمئنين لمستقبل قصيدة النثر وقصيدة الومضة. تشكل قصائد الديوان جميعا ترنيمات لحب الوطن ودعوة للتشبث بالحياة. يشكل الهم الوطني الثيمة الرئيسية في قصائد الديوان، قصائد قوية الوقع، لا تعرف السكون، ولهذا فأن الشاعرة تكثر من الجمل الفعلية الضاجة بالحركة.. وللشاعرة فرح دوسكي أدواتها الكتابية وقصائدها تتدفق با لمشاعرالوطنية الصادقة بمفردات جميلة وواضحة مما يفتح الباب أمام المتلقي لاستيعاب رسالة الشاعرة و ما تدعو إليه.
وأخيرا فأن قصائد الديوان رسائل مشفرة وإدانة لمجتمعنا الذي يعج بالتناقضات الطائفية وظواهر القتل والسلب والاختطاف والتهجير القسري وإدانة لكل من يتلذذ بآلام الآخرين.