ادب وفن

بين الرواية والمدينة / ياسين النصير

ما تزال كلمة فرجينيا وولف عن الرواية مفيدة إلى أبعد الحدود من "أن الرواية بحث"، وأن الشخصيات فيها مباضع حفر.
ويضيف لوكاتش أن الرواية "ملحمة المدينة"، ويعني ذلك أن الرواية اليوم ومستقبلا هي فن تناقض التشكيلات المدينية، عبر الشخصيات والرؤية المنهجية، هذه التناقضات التي تؤسس أصواتاً متعددة ولهجات مختلفة، ورؤى تاريخية يمكنها أن تستوعب جدلية الأزمنة المتعاقبة، وبالتالي تؤسس خطاباً سيكون بمقدوره تقديم صورة ما عن العلاقة بين فن الرواية والحداثة. هذا الخطاب الجديد للرواية لا يأتي من رغبات شخصية ولا نتيجة مواقف مرَّ الروائي بها، إنما تتم تشكلاته من الوعي بأهمية أن يكون للرواية خطابها الاجتماعي وبأدوات من بنية المدينة نفسها، مهما كانت درجة تطور المدينة، وبطريقة لا تحسم موقفا أيديولوجياً، بقدر ما تقدم رؤية متناقضة وجدلية منفتحة على التأويل. فأي صوت اجتماعي لن يجد جذره الفني إلا بعد أن يمر في تناقضات اجتماعية المدينة، ولذلك سعى جمال ناجي منذ مخلفات الزوابع الأخيرة عام 1988 لأن يأتي بشخصياته وأحداثه من تشكيلات البنية الريفية والقروية، ومن لغاتها الأحادية الصوت، ليدخلها في معملية المؤسسة المدينية، لتصبح تلك الأصوات متشبعة برؤية أكثر جدلية بالتاريخ اليومي وبتاريخها الشخصي وبتاريخ العلاقات، وأنها مهيأة لأن يكون صوتها اجتماعياً. لأنها تدخل في لهجتها وفكرها ودورها اليومي اللهجة المدينية الاجتماعية المختلطة الأصوات، اللهجة العديمة الوضوح والمقتصدة العبارة، المدينة بنية اقتصادية اديولوجية متغيرة وغيرثابتة، ولمن يستزيد من أهمية تحولاتها على لغة وتركيب الشخصية سيجد حقلاً غائرا في الحياة اليومية. إن من يقرأ بإمعان طروحات باختين في الخطاب الروائي، يجد أن جمال ناجي، ومن دون ان يدعي ذلك، أحد الروائيين العرب الذين لم يخرجوا بعيدا عن الدور الذي تقوم به تشكيلات الحياة المدينية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية في بلورة شخصية روائية غنية بمحليتها، قادرة على أن تقدم صورة كونية عن تحولات المدينة وفي الوقت نفسه تذوب وتتحلل في العلاقات المدينية كما لو كانت عملة يجري تنميتها اقتصادياً فشخصيات جمال مواد كيماوية أتى بها لصياغة معادلة اجتماعية تذوّب الأفكار في سياقات المدينة. ومن يقرأ مخلفات الزوابع الأخيرة والكيفية التي تشكلت بها المدينة "العمانية" من شتات التجمعات القروية والمدنية والغجرية يجد أنها شخصيات ثانوية فقيرة يقدمها كما لو كانت آتية من أعماق الظلال لتدخل تدريجيا إلى زقاق شعبي فيه إنارة مختلفة الإضاءة، ثم تندمج في أتون العلاقات لتذوب أخيرا في التكوينات السطحية والعميقة ليظهر بعدها جيل من الشخصيات لا أسماء لها، ولا أفعال، غير أن تكون أرقاما في مؤسسة العمل المديني كما في روايته الرابعة "ليلة الريش".
إن طموحات الشخصيات التي جاءت وهي تجهل كيفية التحدث بتركز عن وجودها نجدها بعد فصول متصاعدة صانعة للمدينة الجديدة وتشكيلاتها الاجتماعية المتوافقة والمتناقضة مع طموح شخصيات تغلغلت في بنية السرد وغيرت ولونت وعمقت وجهات نظرها وأفرزت أصواتاً اجتماعية لم تكن يوما مختلفة كما هي في حياتها المدينية. والمدينة وحدها الأرضية الخصبة التي تمنحنا زوايا مختلفة لرؤيا العالم؛ كما يؤكد اوسبنسكي وتقدم منظورا متشعب الرؤية ومتعدد الأصوات لما يحدث، على نسق باختين. ومن هنا لم أجد أية رواية لدى جمال ناجي دون أن تنطلق من تأسيسات المدينة ومؤسساتها الأولية، كما ان هدفها ليس تقديم شخصيات تؤلف حالة عاطفية أو مأساوية لرؤية مضببة وغير مقنعة للعالم مهما كان العالم صغيرا وفي منطقة لا تعرف وجهة نظرها- إنما تشكل العلاقة بين الشخصيات بحثا في تأسيس المشروع الحداثي، شخصيات تكون بحثاً في المكان، وتقدم رؤيا للعالم منطلقة من التشكيلات الأولية التي يكتشفها في متناقضات المكان المديني.
إن ما يميز تجربة جمال ناجي الروائية أنها تؤسس لمشروع ثقافي/ فكري قائم على تناقضات المدينة، ويعني ذلك أن الرواية ليست نزعات شخصية، ولا هي مواقف أو أفكار لم تشترك فيها تشكيلات اجتماعية حتى ولو كانت ممثلة بشخصية بؤرية واحدة، فالرواية لدى جمال تمثيل لعوالم فئة اجتماعية متنفذة حتى لو كانت هامشية، شأنها شأن أي مشروع اقتصادي لابد من أن يؤدي دورا حتى لو لم يكمله، فهي كأي مشروع يتطلب تأسيسات أرضية قبل أن يباشر في عملية البناء الفني، وهذا يعني أن جمال ناجي يمتلك خبرة عملية للكيفية التي يؤسس بها عمله، فهو لا يبدأ العمل دون أن تكون هناك رؤية فلسفية واجتماعية وعملية اجرائية للتأسيس، ولي مع هذا المنحى في شغله الروائي وقفة ربما لم تنجز بعد لسبب البعد والتنقل وقلة الحوار.
عالم جمال ناجي الروائي لا يمكن اختزاله بهذه الكلمات الاحتفائية التي نقدمها على الهواء النقدي مباشرة، فهو صاحب مشروع روائي واسع متعدد الأبعاد، وربما تكمن جدية مشروعه في أن الرواية لديه - إضافة إلى أنها بحث، وأنها وليدة العلاقات المدينية، وأن شخصياتها تعكس التمثلات والتحولات الاجتماعية - مشروع يتركز على عدد غير محدود من الأسئلة الضاربة في عمق الحياة والوجود ، وهي أسئلة تشغله كما تشغل الروائيين العرب. وقد رأيت أن أتوقف عند بعض مفاصلها من دون تفصيل:
1- إن روايات جمال ناجي لا تُقيّم لمجرد أنها ممتعة وبأسلوبية مرنة ولغة مدينة متحولة، إنما هي بحث فلسفي في أسئلة الخطاب الروائي نفسه. بحث يعيد تشكيل المثيولوجيا بطريقة فنية، ويبحث عن الشخصيات الهامشية ليضعها في مقدمة المشهد الاجتماعي. وعلينا الاّ نستكثر على روائيينا العرب القضايا الفلسفية، فهي موجودة في أية تساولات يومية لحياة المدينة وفي أية تناقضات نمر بها أو نتوقف عندها .
2- وعلى العكس من الروائيين العرب لا يلجأ ناجي إلى الشخصيات النمطية أو المختبرة مسبقاً ، إنما يقدم شخصيات بكراً تنمو بتناقضاتها وطموحاتها وإحباطاتها، فالبنية الاجتماعية لا تقوم على مؤسسات بقدر ما تقوم على أهواء ونزعات وقدرات ذاتية للشخصيات، وهي بنية متدرجة جدلية تواكب سياقاتها التكوينية على اختلاف مراحلها، وفي "ليلة الريش" على سبيل المثال الكثير من الشخصيات التي ظهرت ثم اختفت كما لو كانت عملات نقدية جرى استيعابها في غمار الحاجات اليومية فأهملت.
3- لا يقدم ناجي شخصية دون أن تكون حاملة لجرثومة تدميرها الذاتية، فهي آتية للرواية بكرا، هذا صحيح ولكنها ليست خالية من التفكير المتشكك، فكل شخصياته مفرطة بوجودها، وذات قدرة على تشكيل معرفة ما، ومنتقاة بعين الخبير الذي يجد فيها إجابات عن أسئلة تتصل بالوجود ذاته. لكنها في أثناء انشغالها بورشة الحياة داخل العمل لا تجد نفسها قادرة على تحقيق ما تصبو إليه أحيانا، فتلجأ إلى طرق أخرى لم تكن أساسية في بنيتها الاجتماعية بما يعكس تلوينات متعددة لها، وللحدث الواحد، وللمكان الواحد حتى لو كان ثانويا.
4- تشكل قضية تكرار الشخصيات المختلفة الأسماء والمواقع، وهي طريقة فنية مهمة للتماسك الفني كما تقول شلوميت ريمون كنعان، أساسا في بنية أعماله "إن المبادئ الأساسية للتماسك هي التكرار، التشابه، التضاد، والتضمين، تكرار السلوك نفسه "يفضي" إلى عنونته كسمة للشخصية". وهذه الشعيرة الفكرية موجودة في التشكيلات المكانية للمدينة العربية، فالشخصيات في مدننا متشابهة لأنها آتية من خلفية قروية متشابها، وتحتاج زمنا كي تغير لغتها وطريقة عيشها وجمالية تناولها وهي في طريقها إلى التحول، لا يأتي جمال ناجي بأية شخصية إلا ويجد لها تمثلات في شخصيات أخرى تعيش واقعا آخر في مكان ما أو زمان ما ، ومعروف أن عالم المدينة يتشكل من التناقضات اليومية، ومن المتعذر الكشف عن العمق الاقتصادي والاجتماعي لها من دون تكرار وجود الشخصيات المتدرجة الوعي.
5- المفارقة إنني لم أقرأ عملا لجمال ناجي دون أن أضع في حسابي الشخصي أنه سيثير إشكالية ما، وما دامت المدينة العربية في طور التأسيس الحديث بالرغم من أنها تمتلك قرونا من فضاء التشكيلات المنظمة، إلا أنها لم تستفد من تراكم التخلف الذي بمقدوره كما يقول مارشال بيرمان "أن تصنع من رماده جذوة". هذه المدينة كلما زاد الحفر في بنيتها، تزايد التخصص في البنية الاجتماعية والاقتصادية المتطورة لها، وتزايد معها عدد الفوارق الهامة في الشخصيات والمواقف والخبرة. إن الحياة المعاصرة لا تستبعد هوى ورغبات الجمهور كما يقول ايان واط، فالرواية التي تبني بيتها في المدينة تلبي حاجات القراء، وجمال ناجي يهتم بقارئة من حيث تقديمه حالة قابلة للمشاركة في الصياغة خصوصا في زمن الما بعد.
6- لا أعتقد أن اهتمام ناجي يقتصر على تقديم رواية كي تقرأً فقط، بالمعنى الجدلي للقراءة حتى لو بيعت بالآلاف، إنه يقدم الرواية للكشف عن تناقضات المدينة، ولذلك يمكن عدّها مختبراً يستفيد منه الباحث الاجتماعي، فأية حياة تتشكل هي بالضرورة تخلق تساؤلات، ومدينتنا العربية لم تستوعب بعد التحولات التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية ولا التحولات الكونية والعولمية ولا التجديدات الأسلوبية والنقدية في القرن العشرين، وهذا لا يعني أن ثمة حال واحدة يمكن دراستها روائياً، فثمة تشكيلات غائرة في اليومية تشكل أبعادا لأسلوبية فكرية جديدة. إن الروائيين هم من يعوّل عليهم أكثر من السياسيين في تلمس الطريق إلى الحداثة، هذه المسؤولية الاجتماعية والإيديولوجية تجعل الروائي يميل إلى الفئات الشعبية التي بمقدورها أن تدخل ميادين العمل وهي غير مكتملة البناء، ما يعني انها شخصيات مخبرية، وليس جمال ناجي وحده من يتعامل مع مثل هذه الشخصيات، إنما روائيون كثر وشعراء ونقاد. المشكل في هذا السعي أننا نرى التحول الذي يتم عبر الشخصية، ونتناسى دور العناصر التكوينة الأخرى كالمكان والزمان والفضاء الروائي. ويشخص محمد برادة هذه الحال: أن الرواية العربية بدأت منذ الستينيات كما لو كانت ورشة عمل للتجريب.
7- بالرغم من أننا نتحدث عن العلاقة بين الرواية والمدينة، فإن في روايات ناجي شخصيات متعددة الأبعاد ، خصوصا في "ليلة الريش" فشخصية "الحاج خليل" وحدها مجموعة من الشخصيات، فهي ليست شخصية خلقت من تراب المدينة وتناقضاتها فقط، إنما لها تأسيس فكري ومادي ووجودي يحيلها إلى ممثل لفئة اجتماعية جعلت من المال والمضاربات الاقتصادية طريقة لبناء نفسها، مثل هذه النماذج تقترب من الخلق المكتمل ولا نجد لها مدى في نسيج المدينة إلا عبر نقائضها، وبذلك يميل ناجي إلى تركيب اجتماعي مألوف لكنه غائر في البنية، وهو أن اية شخصية ليست وحدها من تتكلم بل ثمة ظلال متنوعة تتحرك معها وتتناوب الأدوار فيها.
8- سعيت في هذه المقاربة السريعة إلى تقديم تصور أولي لتجربة جمال ناجي الذي اعتقد انه أحد أهم الروائيين العرب الذين ستشكل رواياتهم أسئلة القضايا الفكرية والاجتماعية.
إننا دائما - كما تشير أعمال ناجي الروائية - ميالون إلى أن نكون جزءا من شخصيات الرواية ، وأن نشارك في أحداثها.
9- بقي أن أشير بشيء من الاستغراب، إلى أن ناجي - فيما يبدو - لا يبذل جهدا يذكر في ترويج نفسه ورواياته مثلما يفعل الكثيرون من الكتاب العرب، إنما هو عاكف على مشروعه الروائي الذي يجب توسيع مساحات نشره وتوزيعه خارج العالم العربي نظرا لتميزه وفرادته.