ادب وفن

التكمجي يصدر كتاباً لـ «فنان الشعب» / إبراهيم السواعير

أصدر الدكتور المهندس حمدي التكمجي الكتاب الرابع من سلسلة يؤرّخ فيها ويوثّق للشخصيات الفكرية والأدبية والسياسية العراقيّة، بعنوان:"يوسف العاني: فنان الشعب"، وهي سلسلة لاقت قبولاً من المثقفين الأردنيين والعراقيين والعرب؛ نظراً لأنّها تعتمد منهجيّةً موضوعيّةً وتضع القرّاء بأولئك الذين أعطوا وصاغوا أوجه الحياة في العراق في جوانب كثيرة، وعاشوا ظروفاً صعبة في سبيل الإخلاص للمنطلق الفكري وفلسفة الرؤية عملاً واستنارةً وطموحاً مبرراً بكشفهم وقراءاتهم التأملية العميقة، وإصرارهم على مشروعهم الطويل المليء بالشوك.
وكان الدكتور التكمجي الذي جايل كلّ هؤلاء وزاملهم وتعرّف إليهم، وهو مثقفٌ وله منطلقاته الفكرية الخاصة به، أرّخ لشخصياتٍ عراقية، في حقول متنوعة، في كتب وافية المحاور متسلسلة الطرح، هي: "عبد اللطيف الشوّاف: شخصيات نافذة"، و"الفنان محمود صبري: حياته، وفنه وفكره"، و"قتيبة الشيخ نوري: الطبيب والفنان المبدع"، وهي منجزاتٌ لم تكن استلالاً من مواقع إلكترونيّة أو أحاديث عجلى أو مواد مجمّعة؛ وإنما هي تخضع لقراءة وتمحيصٍ وفهم لمنطلق هذه الشخصيات ومشوارها الفكري؛ سواء أكان أصحابها أدباء أم فنانين أم حزبيين أم سياسيين، أم هم يجمعون بين كلّ هذه الميزات؛ فالعراق من البلدان التي تسري في دمائها الحزبية وربما تختمر طويلاً الفكرة السياسية قبل أن تكون مشروعاً يتنقّل هنا أو هناك بين أروقة المثقفين والنخب والمهمومين بمستقبلٍ حر.
الأردن؛ بوصفه الأقرب إلى العراق ومثقفيه وسياسييه ونخبه الفكرية وطموحات أبنائه لخير هذا البلد العريق، يشكّل مجالاً مهماً للحفاوة بكلّ المنجزات العراقيّة التي تقرأ ماضيه وحاضره ومستقبله على أكثر من صعيد.
يقول الدكتور التكمجي في تقديمه كتاب "يوسف العاني: فنان الشعب"؛ وهو يهديه إلى الجيل الحاضر:".. لقد عملتْ الأجيال الوطنية السابقة وكافحتْ وضحّتْ، وتخلّصت من الاستعمار الخارجي والطغيان الداخلي؛ فما عليكم إلا تكملة المسيرة من العمل الجادّ لإعمار العراق وتحقيق أعلى مستوىً من الديمقراطيّة والحريّة والعدالة والمساواة".
"أويلاخ"
يتحدث الدكتور التكمجي، في الكتاب الذي صممت غلافه وفصوله التشكيلية العراقيّة كفاح فاضل آل شبيب، عن مسرحيّة "أويلاخ" التي أهداها له العاني العام الماضي مخطوطةً يحقّ له طبعها ونشرها؛ إذ لم تُنشر سابقاً بالرغم من مرور 40 عاماً على اكتمال كتابتها، وإذ ينشر التكمجي هذه المسرحيّة الشعبية ذات العشرة فصول في مستهلّ الكتاب الواقع في ما يقارب الثلاثمئة وخمسين صفحة مع ملخّصٍ بالإنجليزية، فإنّه ينشرها بخطّ يد العاني الذي كتبها في بيروت عام 1965، وقال عنها إنّها تدور أحداثها، بكلّ لوحاتها، بعد الثامن من شباط عام 1963، وهو كلّ ما يربط بينها، شارحاً بخطّ يده أنّ كلّ لوحةٍ تُقدّم بإطارٍ أسود يحيط بها؛ دون ديكور..."المنافذ وبعض تحديدات ضرورية لمكان اللوحة هو كلّ ما يتمّ وضعه على المسرح إضافةً إلى الأدوات الأخرى ذات العلاقة.. إذ لا حاجة للتعقيد أو المبالغة؛ فكلّ ما تقدّم هذه المسرحية يخرج أحياناً عن حدود التصديق؛ بالرغم من صدقه وواقعيّته".
هذه المسرحيّة التي شرح العاني في منتصف ستينيات القرن الماضي أنّها ليست موجّهةً لشخصٍ واحدٍ أو مجموعة واحدة؛ وإنما هي "للشعب العراقي الباسل"،.. يودعها اليوم أرشيف صديقه الدكتور التكمجي في هذا الإهداء:".. للعزيز حمدي؛ بقايا أيام عشناها.. ظلّ يبحث عن سطورها التي قبعت عندي في السرّ والعلن حتى عثرتُ عليها فوجدته أحقّ من يحتفظ بها؛ فله حقّ النشر وإعلانها"، وسيجد القارئ هذه المسرحيّة ويقف على معنى اسمها في مستهلّ الكتاب بشخوصها ولوحاتها وشروحاتها، لنجد أنّ التوثيق للمبدعين يحتاج صبراً ومراساً وبحثاً عن المادة المدهشة أو الوثيقة الدالة التي تجعل من الكتاب غالياً بين يدي المتلقي؛ خصوصاً حينما يكون متخصصاً أو مهتماً بالموضوع قيد التوثيق.
يقول التكمجي إنّه قرأ المسرحية مراتٍ عديدة ووجد لدى أصدقائه اهتماماً ورغبةً بنشرها لأهميتها وأهميّة مؤلفها وما تعالجه من هموم، وهي الرغبة ذاتها لدى كثير من أصدقائه الذين رأوا أن يوسّع الدكتور التكمجي هذا المشروع في كتاب يضمّ بعض كتابات يوسف العاني وإنجازاته المهمّة، وبعض الكتابات المهمة التي كُتبت حوله وخاصةً تلك التي لم تُنشر سابقاً، ليطّلع الجيل الجديد على أمثلة حيّة في الفن والأدب والثقافة الوطنيّة الصادقة الأمينة والملتزمة.
مثقفون رواد
لكنّ التكمجي يجد أنّ الكتابة عن شخصٍ مثل يوسف العاني مسألةٌ سهلة من جهة وصعبة من جهةٍ أخرى؛ فهي سهلة لتوفّر مصادر كثيرة من مؤلفات وكتابات وإنجازات كتبها العاني أو كُتبت حوله عراقياً وعربياً وعلى المستوى العالمي؛ ولكنّها صعبة من جهة ثانية لتعذّر الإلمام بشكلٍ كامل بكلّ هذه الإنجازات وجمعها في كتابٍ واحد؛ فكان أن اختار الدكتور التكمجي ثلاثةً وثلاثين مقالةً من مقالات العاني وكتاباته الوافرة، وثماني وثلاثين مقالةً كُتبت حوله، مع إدراج كلّ إنجازاته من مؤلفات وكتابات وأعمال مسرحيّة أو سينمائيّة أو تلفزيونية، بالإضافة إلى إسهاماته في المؤتمرات العالميّة والجوائز التي حصل عليها، فهي جزءٌ من نتاج ضخم يوفّره التكمجي الذي تعرّف إلى العاني سنة 1952 في دار الفنان محمود صبري، وكان التكمجي سمع عن نشاطاته قبل هذا التاريخ، إذ كانت الدار ملتقىً مفتوحاً لعدد من المثقفين من أدباء وشعراء وفنانين وأطباء ومهندسين كبدر شاكر السيّاب وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري وصلاح خالص وذنون أيوب وعبدالملك نوري وفائق حسن وعيسى حنّا والدكتور قتيبة الشيخ نوري وإسماعيل الشيخلي والدكتور رافد صبحي أديب بابان والدكتورة سميرة بابان والدكتور فاروق برتو ومبجل بابان ورفعت الجادرجي والشهيد محمد صالح عبللي والشهيد عبدالجبار وهبي "أبو سعيد" والدكتور حافظ التكمجي، إضافةً إلى عشرات المثقفين ورواد الحركة الأدبيّة والشعريّة والفنيّة والسياسية. وفي هذا يقول الدكتور التكمجي إن جلسات هؤلاء لم تكن تخلو من أحاديث ومناقشات وأفكار وإنجازات جديدة تتسم بالواقعيّة وبالمضمون الوطني واليساري، فهي نشاطات، كما يقول التكمجي، وتجمعات كانت في بداية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، وتمثّل بداية النهضة الجديدة في العراق التي كان يوسف العاني أحد أعمدتها بنشاطاته وإنجازاته المسرحيّة الملتزمة.
يقول التكمجي أنّ العاني لعب عبر نشاطه المسرحيّ دوراً مهمّاً رياديّاً في توجيه النشاط المسرحي توجّهاً واقعيّاً شعبياً وطنياً وبمستوى فني رفيع يتسم بالإبداع، بعيداً عن التهريج والتقليد المجرّد البعيد عن المضامين الإنسانيّة الموجّهة. كما أنّ الثقافة المسرحيّة الكبيرة التي تمتّع بها أهّلته لأن يشارك ويمتزج مع النشاطات المسرحية العربية والعالمية، خلال زياراته المتعددة لكلٍّ من موسكو وبراغ وهنغاريا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا ولبنان والأردن، ونشاطاته ولقاءاته مع كبار المسرحيين.
يرى التكمجي أنّ ما قدّمه العاني من نشاطات مسرحيّة في معظم هذه البلدان لم تجعله فناناً مسرحيّاً عراقيّاً مبدعاً حَسْب، بل فناناً مسرحياً عربياً وعالمياً.
وفي جانب توثيقه للعاني وغيره من أعلام الثقافة والفكر والأدب في العراق يطرح التكمجي مسألةً مهمّةً وهي أنّ التوثيق يحتاج مزاملةً حقيقية وقراءة موضوعيّة، مورداً أسئلةً طرحها عليه أصدقاؤه والقراء من مثل: لماذا تكتب عن عبداللطيف الشوّاف ولم تكتب عن كامل الجادرجي؟!، أو لماذا كتبت عن محمود صبري ولم تكتب عن جواد سليم؟!.. أو لماذا كتبت عن يوسف العاني ولم تكتب عن حقي الشبلي وغيرهم ممن كانوا أسبق في الشهرة والريادة؟! ويجيب التكمجي أنّه زامل هؤلاء الذين كتب عنهم أكثر من ستين سنةً وتربطه بهم زمالة وعشرة عمر، وهو يعرف نمط حياتهم ونشاطاتهم وإنتاجاتهم الإيجابيّة وهي كثيرة، وبعض سلبياتهم الطارئة وما أقلّها، فكتب عنهم بروح أمينة وشعور بالصداقة والأخوّة والتقدير العالي، ليس كأصدقاء فقط وإنما كمبدعين ورياديين ووطنيين، كأمثلة يتعظ بها الجيل الحاضر، وفي هذا الشأن يتمنى التكمجي أن يتولى من هو أعلم منه وأقدر، في جيله، جيل الخمسينات الريادي، الكتابة عن هذه الشخصيات الريادية المهمّة التي كرّست حياتها وناضلت وضحّت بالغالي والرخيص من أجل حريّة الشعب العراقي وتقدّمه التي أثمرت بسقوط الاستبداد والبدء بحياة جديدة كما نادى بها الرواد، بالرغم من كلّ المشاكل والصعوبات التي تحتاج إلى المزيد من النشاطات الثقافيّة والوطنية لكي تزول.
مشوار طويل
يمهّد التكمجي بالتعريف بيوسف العاني الذي ألّف 44 مسرحيّة، وأصدر 28 كتاباً حول المسرح والشخصيات العراقيّة في مختلف مجالات الحياة الأدبيّة والفنيّة والوطنيّة، ومثّل في 58 مسرحيّة، وكتب وأسهم في 12 فيلماً سينمائيّاً، وكتب ومثّل وشارك في عشرات التمثيليات التلفزيونيّة، وحاز 22 جائزة عراقيّة وعربيّة و8 شهادات تقديرية، وشارك ولعب دوراً مهمّاً في 64 مؤتمراً ومهرجاناً عراقيّاً وعربيّاً وعالميّاً، وكتب عشرات المقالات في الصحف والمجلات، وظهر في عشرات المقابلات التلفزيونيّة، وأسهم في مختلف النشاطات الوطنيّة مما تسبب في فصله من وظيفته- إذ كان مديراً عاماً لمصلحة السينما والمسرح- ومنعه من مزاولة نشاطاته، وتوقيفه في العهد الملكي وسجنه وتعذيبه في عام 1963 في العهد البعثي، مما زاده همةً ونشاطاً وإخلاصاً؛ حتى وهو اليوم على أعتاب التسعين.
يرى التكمجي أنّ مثل هذه الإنجازات الرائعة من النادر أن ينجزها شخصٌ واحد إلا إذا كان فناناً كبيراً مبدعاً ومثقفاً ثقافةً عالية، ووطنيّاً مخلصاً كرّس حياته خلال مسرحياته وكتاباته ونشاطاته للتعبير عن واقع الشعب العراقي وهمومه ومشاكله بصدقٍ وأمانةٍ فنيّة عالية؛ وهو ما يذكره العاني دائماً من أنّه بدأ بالناس البسطاء معبّراً عن حياتهم وطريقة عيشهم وآلامهم من خلال مسرحياته الشعبيّة.
يذكر التكمجي أنّ العاني بدأ مسرحيات الفصل الواحد القصيرة بمسرحيّة "القمرجيّة" سنة 1944، ومن ثمّ مسرحيّة "الحشّاشة" عام 1948، و"طبيب يداوي الناس" و"في مكتب محامي" و"محامي نايلون" عام 1948، و"المعذّبون في البيت" و"خبر خاطر قيس" سنة 1950. كما ألّف العاني المسرحيات الطويلة:"رأس الشليلة" عام 1950، و"مجنون يتحدى القدر" عام 1949 وهي مونودراما، وتُعتبر أوّل مونودراما تقدّم على المسرح في المسرح العربي، ومسرحيّة "تؤمر بيك" سنة 1952، ومسرحيّة "موخوش عيشة" سنة 1953، و"فلوس الدواء" عام 1955، و"أكبادنا" سنة 1955، و"ستّة دراهم" عام 1955، ومسرحيّة "آني أمّك يا شاكر" سنة 1957، والكثير من هذه الأعمال.
اشتغالات إنسانية
يورد التكمجي آراءً قيلت في العاني من خلال مسرحياته؛ إذ يقول الدكتور صلاح خالص سنة 1954 بشأن مسرحيّة "راس الشليلة" إنّ يوسف العاني مسرحيٌّ فنان طالما استقبل الجمهور العراقيّ مسرحياته التي قدّمها بمنتهى الإعجاب والسرور، وهو لا يلجأ لإثارة إعجاب الجمهور وبعث البهجة فيه إلى هذا الأسلوب الأخير الذي تحدثنا عنه فقط، وإنما يتغلغل في الحياة العراقيّة وينتزع منها صوراً رائعةً قويّةً، مظهراً تناقضاتها الغريبة بشكلٍ قوي يثير الضحك والاستنكار في آنٍ واحد، وهكذا يعطي يوسف العاني مثلاً ساطعاً على قول "غوغول" في أنّ التمثيل الهزلي عرضٌ لحالة وحكمٌ عليها.
يقول التكمجي: أنّ مسرحيات العاني لم تكن كلّها مضحكة وذات تعابير رمزيّة دقيقة مختارة ومؤثرة، لإبعادها عن سلطة المراقبة والمنع- كما حدث لعدد من مسرحياته- فقد كان معظم مسرحياته يتسم بالجديّة والتعبيرات الواقعيّة العميقة الأثر. ويذكر التكمجي أنّ الشهيد عبدالجبار وهبي "أبو سعيد" كتب حول مسرحية العاني "أهلاً بالحياة" عام 1955 ما يلي:"وكلمتي للحياة... أنني بكيت مرتين وأنا أشاهد المسرحيّة..مرّةً في ذروة المأساة، حين تبكي فوزيّة وهي تعلن لأبيها قبولها بالزواج من عطا إنقاذاً لأخيها من السجن، ومرّةً أخرى حين اجتمعت العائلة الظافرة الهنيئة وأرسلت من أحاديثها السعيدة كلمةً صادقةً "أهلاً بالحياة"، وفي المرتين بكيتُ من حب الشعب حين يكاد ييأس في ذروة المأساة، ومن حب الحياة أن تنتصر ويظلّ انتصارها ثمناً للدم السابق..والدم اللاحق".
وعن مسرحيّة "آني أمّك يا شاكر" التي ألّفها العاني قبل ثورة 14 تموز 1958 وتمّ تمثيلها بعد ذلك، يرى التكمجي أنّها صرخة كبيرة لأمٍّ قُتل ولدها في العهد الملكي، وكان بكاء النساء وصراخ الحاضرين خلال العرض وبعده يمثلان تفاعل وتمازج روح المؤلّف والممثل بشكلٍ إيجابي وحيوي رائع، فلم تكن الأمّ في المسرحيّة أمّاً لشاكر فقط، بل كانت أمّاً للعراقيين المظلومين، ولذلك كان البكاء والصراخ يتعاليان أثناء العرض.
ويرى التكجمي أنّ صرخةً أخرى كانت للعاني في مسرحيّته "أويلاخ"، التي لم تنشر أو تمثّل ووردت في هذا الكتاب، لتكون صرخةً حقيقيّةً ضد عهدٍ اتسم بالبربريّة والوحشيّة، لظلمه وتعسّفه ودكتاتوريّته المقيتة منذ 1963 حتى ألفين وثلاثة، وفي ذلك يؤكّد التكمجي أنّها فترة قُتل فيها الملايين بحروب داخليّة وخارجيّة وهُجّر فيها الملايين من خيرة أبناء الشعب العراقي وتأخرت الصناعة والزراعة والإعمار والثقافة عشرات السنين إلى الوراء بالشكل الذي لا يزال الشعب العراقيّ يعاني منه ويحتاج عشراتٍ من السنوات للتعافي منه. كما يرى التكمجي أنّ هذه الفترة بالذات كُتب حولها الكثير من الكتب، ولكن أن يتمّ تمثيلها بشكلها الواقعيّ، في تصوير الاعتداء على النساء والأطفال والشيوخ بضربهم وتعذيبهم والاعتداء على كراماتهم وسلب ممتلكاتهم وحبس مئات الألوف من خيرة الشعراء والأدباء والمهندسين والأطباء والسياسيين الوطنيين وقادة الجيش،.. فإنّ في هذا التمثيل درساً عظيماً.
يذكر التكمجي أنّ فيلم "سعيد أفندي" الذي كتب العاني له السناريو والحوار ومثّل الدور الرئيسيّ فيه مع الممثلة المبدعة زينب سنة 1957 وأخرجه كامران حسني، هو باكورة العمل السينمائيّ المبدع الجادّ في فكرته وتمثيله وإخراجه، بل لقد أعطى مثلاً رائعاً في إمكانيّة تطوير العمل السينمائيّ في العراق لمستوىً فنيٍّ رفيع؛ فهو نقلة نوعيّة كبيرة في مسيرة العمل السينمائيّ العراقيّ ونال أعلى التقديرات العراقيّة والعربيّة والعالميّة.
يورد التكمجي حديثاً للعاني عن مسرحيّة "النخلة والجيران" عام 1969 وفيه رأى أنّها من المسرحيّات الخالدة لفرقة المسرح الفني الحديث، وهي المسرحيّة التي شارك العاني وأعضاء الفرقة في أدائها، وهو الرأي الذي يراه الفنان فاضل خليل في أنّ المسرحيّة وفرقة "المسرح الفني الحديث" كانت فعلاً باكورة أعمالها الكبيرة في المسرح، وزادت من وضع فرقة المسرح الفني الحديث في المقدّمة وعلى رأس رمح الحركة المسرحيّة العراقيّة باتجاه العالميّة.
يرى التكمجي أنّ العاني انتقل بجدارة من أسلوبه المحليّ الواقعيّ إلى المسرح الملحميّ العالميّ في مسرحيّة "المفتاح" و"الخرابة"؛ إذ يذكّرنا بالماضي وتناقضاته وسلبياته لكي يتم تجاوزها، مثلما كانت مسرحيّة "الخرابة" مسرحيّةً سياسيّةً واقعيّةً تهدف إلى فضح الأساليب الاستعماريّة البغيضة.
ويرى أنّ مسرحيّتي العاني: "الشريعة" و"الخان" كانتا مسرحيّتين شعبيّتين عن عمال وصناعيين وناسٍ بسطاء شقّوا طريقهم في الحياة بصعوبةٍ ونبل، وقد كانتا تنالان إعجاب المشاهدين، فتزداد معنويات العاني لمزيدٍ مما يعبّر عن واقعٍ يمرّ بظروف معقّدة تحتاج إلى توضيحٍ وتوجيه.
ينقل التكمجي عن الأديب العراقي ياسين نصير قوله:"إذا كان يوسف العاني في بداياته وحتى منتصف الخمسينات يقف مع الجماهير ليستمع ويرى ما يحدث، فإنّه بعد ذلك واقفٌ أمامها ليقول لها شيئاً عما تفعله في حياتها، وهنا أصبحت كتابة التاريخ الاجتماعي العام للناس تتلوّن بتلوّن الأسلوب الفنيّ للمعالجة".
طاقات وطنية
يخلص التكمجي إلى أنّ الطاقات الوطنيّة والإنسانيّة الهائلة التي يتمتع بها يوسف العاني لم تقتصر على كتاباته المسرحيّة تأليفاً وما كتبه عن المسرح العراقيّ والعربيّ والعالميّ نقداً أو توثيقاً وتحليلاً، بل شملت كتاباته المباشرة أكثر من مئة شخصيّة عراقيّة في القرن العشرين وعشرات الشخصيّات الأخرى التي أشار إليها بشكلٍ غير مباشر، وهذه الكتابات تعبّر عن تاريخ شعبٍ واعٍ مناضلٍ من أجل الحريّة والعدالة والمساواة والتقدّم، فهي أمثلة رائعة للأجيال الحاضرة والمقبلة.
كتابات العاني، بحسب التكمجي، لم تشمل فقط شاعر العرب الكبير الجواهري والعالم العراقي عبدالجبار عبدالله والفنانين الكبار: جواد سليم ومحمود صبري ورائد الفكر الديمقراطي كامل الجادرجي وغيرهم من روّاد الأدب والفن والسياسة الوطنيّة، بل شملت أيضاً البسطاء من مثل: دعبول البلام "كما جاء في مسرحية الشريعة" وعلوان أبو القلاي "كما جاء في مسرحيّة ست دراهم" والخادم "كما جاء في مسرحيّة "تؤمر بيك" وغيرها؛ فهي تعبيرٌ عن كلّ مكونات الشعب العراقيّ النبيل خلال حياته وتأريخه.
يذكر التكمجي ما قاله عبدالرحمن منيف حول كتاب يوسف العاني "شخصيات وذكريات" من أنّ المستقبل لا يمكن إدراكه، وتالياً الوصول إليه، كما لا يكون قويّاً وثابتاً دون ذاكرة تأريخيّة وركائز وعلامات تحدد النسب والعلاقات وتسير إلى الاتجاهات أيضاً، وهذا ما يعطي بعض الكتابات-كتابات العاني- حتى لوكانت هوامش، لها دلالتها إن لم نقل أهميّتها.
يختم التكمجي بأنّ من يقرأ ما كتبه يوسف العاني عن الذين سبقوه في العمل المسرحي والذين تعاونوا معه والشخصيات الكثيرة الأخرى من الشعراء والأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين الوطنيين، وحتى الكتابة عن "البلام" و"الجمال" و"الحارس" و"الجايجي" و"الخادم"، وما عبّر عنه بكلّ صدقٍ وإحساس.. يشعرنا بأنّ العراق بخير وسوف يبقى بخيرٍ بروّاده وطليعته وشعبه الأبيّ الكريم. وفي فصول الكتاب الستّة أورد التكمجي كتابات متنوعة ليوسف العاني وذكرياته ورؤيته في المسرح وأعلامه وفي الأدب والموسيقى والفنون، كما أورد رسائل العاني إليه وإلى المثقفين والنقاد وأعلام المسرح والسينما والتلفزيون العرب في المهرجانات واللقاءات، إضافة إلى جوائزه ومؤلفاته وكتابات عنه وتفصيلٍ في منجزاته وصوره في مشواره الطويل، وفصلٍ باللغة الإنجليزية يعرّف بشخصية الكتاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة "الرأي" الأردنية
26/ 1/ 2015