ادب وفن

كريم القزويني الشاعر الذي لم تلتهمه مدن الغربة والمنافي / سفاح عبدالكريم

هو كالطائر البري أجنحته مرفرفة.. حقائبه مليئة بالذكريات تستقبله المدن الحمراء، يستيقظ بعد صحوته متلمساً الزمن والمكان الذي أعطى مخيلته فيضاً من الشجن والحس الجنوبي وهو متخم بحب مدينته العمارة ونغمة اهلها وطيبتهم وهمة مبدعيها ورغبته تتأرجح بين التواجد والحضور والسفر حتى بات لا يفارقهما "الغربة والاهل".
مستذكراً ومذعناً لقول الشاعر "كم منزل في الارض يألفه الفتى.. وحنينه ابداً لاول منزل". يستمد عافيته من النبع الاول "سر التكوين".. وكأنك تراه مثل ما شاهدته اولاً.. محتفضاً ببياض وجهه وتجاعيده، يفصح محبته وحنينه. البيئة التي لم يفارق تفاصيلها ومناخاتها وتراثها الكبير مستنشقاً عبق الهور واطلالة المشاحيف المتوازية أو المنتشية بعافية البردي والقصب ودهلته المتغنية بعذوبتها مستبشراً بثقافة ناسها وهو ابن مدينة العمارة، التي انجبت الاصلاء والضالعين في مجال الثقافة والفن والسياسة وهو من مواليد 1939 وما زال صبياً تحر?ه احلام الطفولة وطقوسها.
غادر وطنه مجبراً كغيره من المبدعين في بداية التسعينيات حصراً صوب المنافي كغيره من المحاصرين والمنتمين سياسياً وهو يساري الهوى. صدح صوته وحضوره في مهرجانات الشعر الشعبي التي تقام في سنوات التألق حصراً. حيث شارك في اغلبيتها. عاصر جيلاً مهماً من شعراء تلك الحقبة، اولاً في مدينته ومنهم الشاعر عبدالسادة العلي، صبيح القصاب، عبدالكريم القصاب، خنجر الشامي، جبار عبدالله الجويبراوي، عبدالحسين مجيد السمار، ريسان الخزعلي، كاظم غيلان، كاظم لاله، غالب الزبيدي محتفياً بنتاجاتهم.. متبصراً فيها جيداً، كتب اشعاره بلغة حدي?ة واسلوب قد ينتمي الى الحداثة والتطلع منطلقاً من اشعار الرواد المبدعين وفي مقدمتهم شاعرنا الكبير الرائد مظفر عبدالمجيد النواب صاحب المدرسة الحديثة ومعاصراً ومتأثراً بالشاعر شاكر السماوي وابو سرحان وعريان السيد خلف وناظم السماوي وزهير الدجيلي وكاظم اسماعيل الگاطع وغيرهم من المبدعين الذائع صيتهم محاولاً اللحاق بهم متأثراً او شاعراً يتلمس الخطى التي يمكن ان تحسب له معتمداً على الكثير من المقومات التي أهلته (الفكرية- الثقافية- الاجتماعية) ليكن بيناً صادحاً بصوته وباطلالاته هنا وهناك الواعدة. قرأته وزاملته منذ سبعينيات القرن الماضي وهو جاهداً في صحوة زهوره مقروءاً في صحفنا المحلية (الراصد- المجتمع- صوت الفلاح- الوركاء) وغيرها واليوم أجده حاضراً في توجهات اخرى بقصائد متفاوتة في صحفنا الصادرة ومجلاتنا اياً من هذه (الشرارة- طريق الشعب- الدستور- ملحق الديرة) يأخذ مكانه هن? وهناك وقد لفت نظري مجدداً لاكتب عنه ليجد نفسه بيننا حاضراً كقصائده حيث توجسته في قصيدة (جيفارا ورسالتان الى محمود درويش وقصيدة اخرى أهداها الى شهيد الثقافة والانسانية كامل شياع) وغيرهما.. حيث اعطتني هذه الترنيمات التعاطي معه بقدر من الاشادة والاهتمام التي توقظ ذاكرته المتوقدة ليوعز الينا بتواصل ابداعه ومهمته ونضاله الابيض وهو يلوح لأولئك المبدعين والمتلقين بايحاء الشعر ويعاصر مجدداً (عن قرب وعن بعد) زميله الشاعر عبدالسادة العلي ويعتمد الخصوصيات والعموميات في ترانيم شعره الموسوم رغم غربته التي نحسها اولاً:
" الغربه تنشد يا غريب..
والجواب ايعارچ ابروحي الجواب.
صوره رسموني ابشوارعهم صليب..
واكتب اسمي على كل لوح باب...
عذاب.. عذاب.."
والشاعر كريم القزويني ولفتة المعافية تجسد عذاباته ومحبته التي لا تنتهي. ان غربة جسده لا غربة روحه المتأصلة فينا مع احتفاظه بلهفة محبته الاولى التي كتبها بالمعنى صوراً ليكمل مشواره الفني الحضوري رغم تخوفه من غربته التي لا تنتهي بقي مكابراً مع نفسه اولاً، مرضياً ضميره الذي لم ينزلق ابداً حيث يقول:
"أمشي خطوه.. الخوف يصرخ والجدم شاور جدم،
هِمّ .. هِمّ .. هِمّ ..
والضمير اعتلگ شمعه إيصيح للعنده إسم،
فهو المعتق في درب مسيرة النضال الهادئة- حيث ينهض بهمته المضاءة كعادته التي يشحذ همم الانسانية والعطف صائحاً بغربته "اللائية" وبطريقته المتمردة المحببة لنفسه وغيره متطلعاً لانشودة الشاعر الفلسطيني الثائر.. الهادئ "يما مويل الهوى يما موليه.. ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيه".. هذه القصيدة شكلت له حضوراً متميزاً بين أقرانه ومحطة اخرى في قصائده التي يرغب كتابتها حسب ثقته بها. وكذلك في قصيدة "راجعين" المنشورة في صحيفة طريق الشعب- ثقافة شعبية الذي يعتز بمضمونها كونه راجعاً الى مملكته الاولى التي ابتدأ التجربة فيها ?عتزاً بوطنه الذي اعتاد بلهجته وتوجهه اليه حاضراً بصيحات اخرى ربما تلائم وجهه الحضاري الآخر بعد محنته:
" تفرج يا وطن باچر.. بعد باچر..
تبحر كل سفنه والشعب ملاح..
تفرج يا وطن عندك زلم طيبين..
هيبه اتحطك إعله الراس..
نارك يا وطن مثل الثلج والياس..
واترابك الحرّي إو موش مثل الطين.."
رغم ما كانت هذه القصيدة حضورية الا انها لا تخلو من الصيحات الصادقة ومليئة بالاحساس والشعور الوطني الخالص- وانا على ثقة ان قصائده التي لم تصلنا عامرة بغنيتها وتلاحق السرب الذي غرد معه لتمنحه اطلالة اخرى حين ظهورها وهي تسمو حسب معرفتي بها بألق فني تضاف الى تجربة الشاعر كريم القزويني.