ادب وفن

مقامات بصرية .. محمد سعيد الصكار .. شاعر القصبة / د.عباس الجميلي

على كلماتكم تتكور الأبعادُ
يزهو التمر في البصرة
تهلُّ شواطئ العشّار أشرعة وألوانا
وتمسح عن محاجرها النساء مرارة الحسرة
ويُعشب قلب أمي من جديد
مثلما كانا. أيها الحضور الكريم سيداتي وسادتي مساء الخير مرحبا بكم جميعا .. بدأت كلمتي هذه من قصيدة للصكار الكبير تحمل عنوانا مهما هو (شعراء الأرض المحتلة)، ومع هذه الكلمات الجميلة لمفكرنا السعيد محمد سعيد. أود أن أعرب لكم عن فرحتي الغامرة إذ أقف في هذا المكان الجميل، في بغدادنا الحبيبة وفي مناسبة هي الأجمل، وأنه لشرف ما بعده شرف، أن أتحدث معكم عن شخصية عرفناها سوية، فكرا ورسما وعملا سياسيا فاعلا تتوج بالإبداع الدائم والتألق المستمر ..
في اسم محمد سعيد الصكار تكمنُ قصتنا؛ فهذا المحمود سيرة والسعيد نتاجا (صكارا) بمعنى الكلمة له صبر الصكار وطاقة تحمله وتأمله الدائم وتطلعه المستمر ويقظته وفطنته الثاقبة ولمفكرنا ومناضلنا الكبير هذه الصفات والخلال.
حدائق....
هذه الكلمات
خبزٌ هذه المهجُ;
يقين في كهوف الشك ينبلجُ
يدٌ
صبحٌ
بليل الوحشة الخرساء ينسرجُ
هنا قلبي
لكم,
لحروفكم مرفأ
مرة أخرى أعود إلى ذات القصيدة نفسها لأقف مع الصكار هذا الإنسان الكبير الذي عاش محنة شعبه وحملها بين جوانحه كطائر بري مهاجر تتقاذفه المنافي وتحمله هموم العراق على قاربها من يم إلى يم .. كان يردد العراق والعراق حاضر في كل شيء في كلماته في خطوطه ونقوشه الجميلة في رسومه التي صورت محنة الوطن وتداعيات التاريخ وهو يُرسم بلون اليسار احمر ليضع في الصورة شهيدا وشهيداً وشاهدا وشواهد فكأن الصكار هو العراق بكل حجمه وكأن العراق هو الصكار مختزلا في هذا الكائن البشري الذي كان مدى واسعا وافقا تطلعنا إليه سوية .. يحملن? الصكار ونحمله وكأننا في موعد واحد في سني النضال او صفحات المنافي او عند محطات العودة المرهقة وتحديات واقع عسير المخاض.
أهم ما لمسته في الصكار إنسانا ومفكرا وأنا اعرفه منذ عقود من الزمن ان هذا الكبير كان مغرما بحب الناس يعشق تفاصيلهم كان أبا ندور حوله يغمرنا بحنانه وعطفه وننشد إلى جلسات انسه وهو يمسح على رؤوسنا مسحة محب لطالما وجدناه ملاذا نلوذ به:
"لوذ الحمائم بين الماء والطين"
بعد هذه المقدمة التي أثارت بي عبرة الذكرى، بودي أن أقف عند محطات مهمة مع الصكار الكبير.
أولى هذه المحطات هي البصرة، التي أطلق عليها الصكار مدينة الأوائل، وأجدني قادراً على القول بأن الصكار قد وجد نفسه في البصرة وهو محاسب في احد معامل الطحين فيها. ارتبط بالناس وازداد علقة بها وهو يجالسهم جلساتهم البصرية المعروفة بطقوسها السامرية المتهادية على أنغام شط العرب، ونواح (اليامال) مع ضربات الدفوف والطيران والصرناي وطالب غالي وعوده وعادات أهل هذه المدينة الطيبين، في البصرة يلقي الصكار هموم نفسه يضعها مع الجزر، فترحل بعيدا عنه، كان يستنشق الحياة ويعود مولودا جديدا على هذه الأرض الرخوة، لذا فللصكار?ألف حكاية وحكاية ولكل حكاية ألف ليلة وليلة، للصكار مع البصرة موقف وموقف، ومن ما أتذكره له هو المعرض الباريسي الذي أقامه مدة خمسة أيام واستمر خمسة أشهر حتى أعياه الوقوف ونقل إلى المستشفى المعرض كان مخصصا للبصرة ومن أهم لوحاته تلك اللوحة الكبيرة التي وضع فيها أسماء كل أصدقائه ومعارفه من أهل المدينة كان اسم توفيق البصري وشقيقيه قصي وجاسم وطالب غالي وزوجته سلمى إبراهيم وأشقائه الخمسة وحميد البصري وشوقية ويوسف راضي ومحمد رضا سهيل وعباس الجميلي ورؤية غالي وجبار العطية وجاسم حمزة واللوحة تمتد وتمتد بلا نهاية لأن? عرف البصرة كل البصرة.
المحطة الثانية هي منفاي الأول (الكويت)، في هذا المنفى أجدبت نفوسنا وأصبحت صحراء قاحلة لأنها خارج العراق وبعيدة عن الأهل والرفاق فكان الصكار عندما يجيء من منفاه الباريسي يطل علينا وابلا أو غيثا من السماء يروي ظمأ النفوس بحلاوة حديثه وجمال المواضيع التي يتناولها ورغبته بأن تعقد الجلسات البصرية من جديد لكي تبقى البصرة ويبقى العراق في وجداننا أينما ذهبنا او دفعت بنا المنافي، في الكويت كنا هكذا نرى الصكار وكان الكويتيون يحتفون به كشخصية كبيرة يوقرونها ويحترمونها احتراما شديدا وكانت معارضه مقصدا لكل الكويتي?ن وسرعان ما تنفذ لمحبة الكويتيين للصكار وفن الصكار ونتاجه الطري، كان الصكار في الكويت محط أنظار الجميع ومورد إعجابهم الكبير وكانوا يدورون من حوله بمحبة لم تقتصر على الرجال وحدهم بل النساء أيضا،
يا سالم المروق خذني في السفينة
في السفينة
خذ مقلتي ثمنا سأعمل ما تشاء
إلا من حكايات النساء
كان لي في الكويت بيت كبير عامر يؤمه كل العراقيين، وكان مكان تجمعهم عندما يأتي الصكار للكويت؛ يكون هذا البيت من الأماكن المهمة التي يأتي لها الصكار. نقيم له الأمسيات المناسبة بحضور واسع من العراقيين والكويتيين، وكان الحضور مشدودا له وهو سعيد جدا بهذا الحضور، اقترح احد المستثمرين على الصكار معملا لربطات العنق، مخطوطا عليها من قبل الصكار، وفعلا تم العمل بالمشروع، لكنه توقف مع مجنزرات احتلال صدام لدولة الكويت.
المحطة الثالثة في باريس، زرت الصكار في باريس عام 1982، استقبلنا الصكار بحفاوة عالية، وكان لقاء مؤثرا إذ بكينا في مطار باريس، وأطبق علينا الصمت برهة من الزمن، أعاد لنا نشوة الفرح التي امتزجت مرة أخرى برقصاتنا في بيته الذي كان صالونا واسعا وجميلا يجمع فيه الشعراء والأدباء والمفكرين والساسة على اختلاف قومياتهم وأيدلوجياتهم وألسنتهم، كان هذا البيت أو الصالون فسيفساء عراقية جميلة تعكس مرة أخرى قدرة العراقيين على التعايش مع الآخر بسلام ومحبة، كان هذا البيت ميناء محبة وكأنه البصرة في هذا الجزء من أوربا، زرنا?مرسمه الثاني واطلعنا على نتاجاته الغزيرة واهداني ألبوما اعتز به إلى الآن، كانت فرنسا لا تمنح اللاجئ سوى سنة واحدة إلا مع الصكار ولإنسانيته العالية وفنه الراقي، فقد مُنح خمس سنوات، إلا انه مع ذلك رفض الجواز الفرنسي وبقي مصرا على جوازه العراقي إلى يومنا هذا، هكذا أصر الصكار على العراق وكأنه حينما يترك الجواز العراقي، سوف ينسلخ من هذه البلد الجميلة، وفرنسا منحته على كل حرف يخطه مبلغا من المال يوازي الفنان الفرنسي، بقي هذا الطائر البري عراقيا في كل شيء حتى في زاد منافيه.
المحطة الرابعة لندن، كان للصكار اكثر من زيارة وزيارة إلى هذه العاصمة الغاصة بالجميع من مختلف القوميات وبمختلف المستويات كان في كل مرة يزور لندن، يأتي جديدا بنتاج جديد يختلف عن الآخر، وهذا من أسرار الصكار العظام إذ تمكن الصكار من التجدد الدائم وبقدرة عالية جدا. وهذا ما أود الإشارة إليه في هذه المحطة، كنا نرى الجديد في كل معرض جديد في ما ينتجه وطريقة عرضه فكان يسحر الناس حتى تأثر به كبار رجال المال والأثرياء وتمنوا مصاحبته والجلوس معه في حلقاته الخاصة إلا أن الصكار كان مصرا على المكوث مع العراقيين البسط?ء والتجول بين افيائهم في (كوين زوي) و (مار بلاج) و (اوكسفورد ستريت) وهي تجمعات العراقيين لا يغادرها أبدا يجد نفسه في بساطة الناس وحياتهم الطبيعية كان يمقت التكلف ولا يفعله ويبتعد عن أهله مع هذه القدرة على التجدد كان ترابيا يطوف في كلري الكوفة والمنتدى العراقي وبيت حسين التكمجي العتيد الذي لا يُمل، لأنه من هذه الأجواء فقط لا تبهره الزخارف البرجوازية. كان كادحا في فكره وتوجهه وحبه ومعاشرته غير برجوازي، لم يخالط هذه الطبقة من الناس أبدا، في لندن كنا نختلي سوية و يسألني بصورة مستمرة عن العراق، على الرغم من متا?عاته الحثيثة، وكان يستمع لما ارويه له من أخبار وتحليلي لهذه الأخبار وقراءاتي لمستقبل العراق.
ثم بعد ذلك استمع لحديثه وتحليله واعقد مقارنة بين الاثنين لكي أقيم مستوى قراءتي كان ذلك في السياسة والشعر والأدب والمسرح في كل شيء، كنت مع الصكار في متابعة ومقارنة ومقاربة.
المحطة الخامسة في هولندا، إذ احتفت به إحدى عشرة منظمة عراقية ودولية وذلك لبلوغه السبعين من العمر وهناك اجتمع كل العراقيين مبتهجين بالصكار ولمدة ثلاثة أيام توج هذا الاحتفاء بحفل كبير غنيت فيه ثلاث أغاني من التراث وغنى طالب غالي وحميد البصري وعدد آخر من فناني العراق ابتهاجا بالصكار الذي حوله هذا الاحتفال وأفراحه إلى شاب في العشرين من عمره يرقص ويغني وكأن مشوار العمر في أوله، تأملت الصكار وأنا عائد إلى لندن في القطار تأملته وهو منتشيا تنز من أعماقه رغبة الحياة الجامحة لم تثنه عقود العمر السبعة عن مواصلة ?لمشوار كان واثقا مطمئناً مزهوا بهذا العمر انه عمر الكادحين الحقيقيين وكأن كل الكدح نشوة وكأن كل الكدح مر على غفلة من هذه السنوات العجاف، فتكسرت عند إرادة صُلبة لا تهتز أبدا، فقد كان الصكار مرة أخرى طائرا بريا يصفق بجناحيه للحياة، لقد وجدته يزيح العمر بكل ثقة لا ترعبه السنين الطوال، وهي مثقلة بهموم وعي تقدمي جامح، كان الأمل مرسوما على شفتيه واهزوجات يديه ملوحة برقصة الخريف، خريف الجسد، إلا ان الروح ربيعية واثقة وواثق الخطوة يمشي ملكا ..
الصكار شمعة لن تنطفي لأنه عمرا ممتدا بيننا وإن غيبنا خريف السنين، سيبقى الصكار وسنبقى معه لأن لنا روحا ربيعية لن يسقط الموت أوراقها هكذا علمنا الكدح الأزلي ...
يا حزبي يا ماي النبع يا بو كلب اخضر
يا فرحة بعيون الشعب طول العمر تكبر
بعد العنوان
كنت مع الصكار، وما زال الصكار معي لوحت بفرشاة لآرسم الصكار من جديد، وكان يحمل اللون لي اخي وصديقي الإعلامي الذي اعتز به كثيرا
إياد الا ماره .