ادب وفن

لماذا "الارتكابات"؟* / ابراهيم الحريري

كيف بدأ الأمر؟

بدأ الأمر كما يبدأ مع كل من يعتقد في نفسه القدرة على الكتابة. وبالنظر لما يحتله الشعر في ثقافتنا وفي موروثنا، كان الجميع يبدأ في محاولة كتابة الشعر. بدأ، إذن، في سنوات التفتح، ولأقل التفجر، على كل صعيد، بين عامي 1948- 1949، بإزجاء كلمات موزونة، او هكذا بدا لي، في مناسبات عائلية؛ زواج، ولادة. ولقد كان لابنة الجيران، وكان اسمها ليلى، بعض من هذه النفثات، التي كانت تتعدى النظرات الملتهبة، إلى الكلمات الملتهبة.
ثم جاءت السياسة، بل ذهبتُ إلى السياسة، مبكراً، مسرعاً. أواخر عام 1951، فكتبت إلى جانب المحاولات الشعرية، في القصة القصيرة، والعمود الساخر..
وعندما استضافني سعيداً، السجن أوائل عام 1954، حاولت في إحدى المناسبات السجنية، قصيدة وطنية تبدأ، كما أتذكر:
خبزاً لا رصاص
يهتفون
والموت للمستعمرين
لا للشباب الحاقدين
على الخؤون
ويرددون
لسنا عبيد
بل إننا الشعب يريد
دم الشهيد
دم الشباب الشهداء
والنساء
والشيخ والطفل الوليد
إلى آخر هذا "الخريط" كما أسميته مؤخراً، وذهبت بهذه المحاولة إلى عدنان عبد القادر، وفؤاد علاء الدين، شاعري "التنظيم" الرسميين، فنصحاني (كلاهما)، بأن أطوي هذه المحاولة، وأودعها " ارشيفي"! إلا أن أبياتاً، تجاوزاً، منها علقت في أرشيف الذاكرة، لسوء حظي وحظكم!
ثورة 14 تموز، فجرت، فيما فجرت، الهوس الشعري لدي، فنشرت محاولة أو اثنتين، في صحيفة طارئة هي "الفتى العربي"، أصدرها عسكري متقاعد، كان على صلة بمسؤولي الحزبي، أبو سحر السامرائي "نسيت اسمه الأول"، ولما غابت "الفتى العربي" بعد إصدارين أو ثلاثة انتقل الفتى "أنا" إلى محاولة النشر في صحيفة "البلاد" فنشرت لي "البلاد" ربما رأفةً بي وتطييباً لخاطري، وربما بتوسط الشاعر الراحل رشدي العامل محاولة أو محاولتين بتوقيع " إبراهيم كمبار"! ما زال الفتى يتذكر بعض أبياتها "تجاوزاً":
من قبل ألف عام
وكادحو بلادي يحلمون
بصاحب الزمان
وسيفه الكبير
وكيف انه سيمحق الشرور
ويحمل السلام للأنام
الخ..

لماذا إبراهيم كمبار؟

أما لماذا، إبراهيم كمبار فلأنني كنت اخجل من لقبي، الحريري " باعتباره" يشي، بشكل أو بآخر بانحداري الناعم البورجوازي أو البورجوازي الصغير. كانت كلمة البورجوازي الصغير، لفرط ما استخدمت للتشكيك بل للتحقير في الأدب الحزبي، الشيوعي، آنذاك تورقني الشعور بالذنب، والمهانة، فحاولت بكل السبل التخلص من هذا "الذنبْ" الصغير.
تركت مقاعد الدراسة، وانضممت الى صف الشغيلة؛ فراشاً، كاتباً في معمل للعصائر "قاد في الأسبوع الأول من تعيينه اضراباً فاشلاً"، عامل سبيرتو دملوك، عامل نسيج يدوي، الى غير ذلك من المهن "البروليتارية"! في محاولة للتطهير، بل أن الأمر ذهب بي إلى حَدّ شراء بسطال هندي انتعلته كشاهد بمسامير ضخمة مُوَقّعَةْ تصم الإذن، على بروليتاريتي! وكان لا بد ان يكون لجارة اخرى، مكان في المشهد الشعري، فكتبت مقطعاً او مقطعين:
لأني مثل كل الناس
إنسان
له قلب وعينان
فقد أحببت
***
لان "الله" في القرآن قد أوصى
أحبوا الجار
فقد أحببت جارتنا
ثم هرب مني جِنّي الشعر مهرولاً، ولم أدركه او يدركني حتى عام 1967، حين اكملت هذه المحاولة "يجدها القارئ بين هذه الصفحات".
***

طين بـ "جمان"! يا للإنسان

عام 1967 كما كتبت إلى المعلم أدور الخراط ، في حوار بيني وبينه حول "الاغتيال" وكان شارك في تقديمها في اتيليه القاهرة عام 1987، "الحوار منشور كملحق في الطبعة الثانية للاغتيال" عام 1967 كنت في الكويت فجرّت الهزيمة اقصد هزيمتي الشخصية وكارثة مشروعي السياسي عام 1963، وسنوات المنفى والحرمان على كل صعيد، والحياة القلقة المضطربة، وواقع المطاردة الدائمة، وهزيمة 1967، فجرّ كل ذلك كل تناقضات شخصيتي - وما أكثرها - .
* كنت على شفا تدمير الذات، تلبثت عند البحر في ليلة شتوية عاصفة مطيرة ساعات، محاولاً التوحد به.."، "يجد القارئ صدى لهذه الليلة في الفصل الأخير من "الاغتيال": انحدرت مع العتمة إلى الجرف الصخري الخ..".
وفي ترنيمة شوق للبحر " على صفحات هذا الكتاب " أواصل نقلا عن الحوار مع ادوار الخراط، عندما عدت الى البيت "لست ادري كيف ومتى" تدفقت كتابة، شعراً، مسرحاً شعرياً، وقصة قصيرة، ومقالة، بعد صمت وأمحال دام سنوات: عذاب وموت، صلب وبعث بالكلمة! كانت غريزة البقاء تتوسل بآخر سلاح لديها، أقواهُ وافعله فيّ لحضي على التشبث بالحياة.. كانت بداية لحظة ممتدة للتصالح مع الذات، بالحب، بالمسيح! بالإنسان! مسيح هذا العصر ومسيح كل عصر!".
أتاحت لي هذه اللحظة تأمل تجربتي وأنا هنا اقتبس من "الاغتيال" مرة أخرى: " الطموح العاجز الى بطولة مستحيلة، أن تكون انساناً من طينة خاصة، من جبلة على حدة، إلاهاً متوحداً عصياً على الرغبة والرهبة والضعف الإنساني.. التوق إلى البطولة والخوف من البطولة.. التمزق الداخلي بين اشتراطات الالوهة واشتراطات الإنسان يفضي إلى جلد الذات ومقاربة الموت..".
تعكس الكتابات او المحاولات المنشورة هنا، بهذا الشكل او ذاك، هذا الصراع الذي كاد يستنفذني حتى حضر المسيح ابن الإنسان وكنت احاول النهوض فلا استطيع، ليصرخ بي "قم! اني اعمدك، انساناً وابن إنسان، بالحب ستولد ثانية، وسيكون لك بنون وبنات من صلبك، سترث ويرثون الارض، سترث الارض، قم!
وهكذا ظهرت هذه المحاولات التي بين يدي القارئ على صفحات مجلة الطليعة الكويتية على شكل " ترانيم " أما لماذا " ترانيم " فلعلي كنت متأثراً بديوان " ترانيم الرعاة " لـ جواد صالح طعمة أو صالح جواد طعمة، لا أتذكر، "علمت فيما بعد انه اصبح بروفيسوراً للأدب في واحدة من جامعات أمريكا"، كنت التقطته من إحدى بسطات شارع المتنبي أوائل الخمسينات.
وضعت هذه المحاولات بعد نشرها في " الطليعة " بين يديّ خليل ابو شقرا المحرر الأدبي لصحيفة النهار الذي حار في تصنيفها! ثم بين يديّ ادونيس الذي نصحني بكتابة القصة القصيرة. والمفارقة ان اول محاولة ناضجة، مكتملة لي لكتابة القصة القصيرة ظهرت بعنوان " الولادة " في مجلة " مواقف " لـ ادونيس، وكنت أودعتها لدى الصديق الشاعر الراحل بلند الحيدري واطلع عليها ادونيس، وألحّ عليّ بنشرها لديه.

بين الإيقاع والبحور

لعله من حسن حظي أني لم اطلع على بحور الشعر، وان كنت اعرف أسماء بعضها ومن بينها بحر الرمل والمتدارك الخ.. والا لكانت بحور الشعر أغرقتني كما علقت في مداخلتي في ملتقى الخميس الإبداعي "الخميس 29/ 1/ 2015". كنت أكثر انشداداً، قل هوساً بإيقاع الموسيقى وإيقاع الحياة، ويتجلى ذلك في بعض المحاولات: الانتقال من المونو تون "الصوت المنفرد" إلى البوليفوني "تعدد الأصوات"، بل أن الأمر بلغ بي حَدّ اجتراء التوزيع الاوركسترالي! اذا جاز لي القول، كما في النص التجريبي " القيامة " الذي حار أكثر من قرأه في تجنيسه والى الكونشيرتو أي الحوار بين الجوقة "الاوركسترا" وبين الصوت المنفرد "السولو" كما في " ان توجد أو أن لا توجد".
هل كنت أتعمد أو افتعل ذلك؟ بالقطع لا! إنما كان يأتي مرسلاً على هواه فيحيرني ويحير غيري..

توافق بيني وبين ناجي العلي

يجد القارئ تخطيطات للكاريكاريست المبدع، الراحل ناجي العلي تزين بعض المحاولات. كان ناجي يعمل آنذاك مصمماً وخطاطاً لمجلة الطليعة، كان الى جانب محمد نصر سكرتير تحرير المجلة، من اشد العاملين في " الطليعة " حماسة وحفاوة بـ "الترانيم " ولعل العلي اكتشف فيها ما يوحدنا معاً، أعني روح المشاكسة، والعناد الطفولي حد النزق، على حد التعبير الموفق للصديق غانم حمدون، في انتقاده لبعض مواقفي، وربما كان مصيباً..

لماذا " الارتكابات " الآن؟

أجل لماذا "الارتكابات"؟ يتساءل البعض، لماذا لا تتحدث عن " نضالاتك " كما تساءل الشاعر الصديق ألفريد سمعان الذي حضر ندوة " "الخميس الابداعي"، أجل! لماذا، مرة أخرى، " الارتكابات " وفي هذا الوقت بالذات؟
لم يكن هاجسي فقط، ان أضع بين يديّ القارىء تجربة جمالية، إذا جاز لي القول، أنا غير معروف بها، اعني محاولة الشعر، بل، بالأساس، أن أضع بين يديّ القارئ والشبيبة الشيوعية على الأخص، تجربة روحية ووجدانية عميقة، بل أزمة عاصفة كادت تودي بي، أردت أن أقول: إن الإنسان ليس موقفاً واحداً، بل جملة من المواقف الممتدة، تجمع بين الضعف والبطولة، بين السقوط والنهوض، وان أعظم ما في الإنسان هو مواجهة ذاته، أو كما نُقِلَ عن محمد النبي قوله: " أعظم الجهاد جهاد النفس "، ان يتغلب على ضعفه، ان ينهض بعد كبوته، أو كما هتفت في إحدى المحاولات وأنا ألخص تجربتي: يا للإنسان! طين بـ "جمان؟"

اجل يا للإنسان! يا للإنسان!

لقد قضيت أكثر عمري في حوار- هل اقول صراعاً؟ - متصلاً مع الموت/ الله، مع الحزب كمفهوم وبعض المواقف ومع نفسي، وما ازال... " والضيف؟ "الموت" موجود وغير موجود تظلان تصطرعان، تغالبه ويغالبك حتى تتحدا في النهاية وتتلاشيا معاً". من حوار مع المسيح في القسم الاخير من "الاغتيال".

كلمة أخيرة

هل أنا شاعر؟ طرح علي هذا السؤال الراحل بلند الحيدري في لقاء أجراه معي، وكان اطلع على بعض تجاربي الشعرية "تجاوزاً!"، ولفته من بينها، بشكل خاص، "ان توجد أو أن لا توجد " وقد ورد فيها اسمه، واذيع هذا اللقاء من الإذاعة اللبنانية عام 1968، ضمن برنامج أدبي كان يقدمه الراحل.
تساءل بلند: هل أنت شاعر، هل ستواصل هذا النمط من الكتابة؟

أجبت: لا!

لكن ذلك لم يمنعني من مغافلة شيطان أو إله الشعر، لا فرق، بين الآن والآن، ومعاودة الكتابة، زجلاً لبنانياً، ومربعاً عراقياً، ناقداً، ساخراً، نشر بعضه في الصحافة اللبنانية، "الهدف" و " النداء" بتوقيع " محسوبكم زكور شوفيرعَ الخط " او " هزليات ساخرة من بعض المواقف والأشخاص " يحظر نشرها، وجرى تداولها بين عدد محدود من الأصدقاء. بل أن الأمر بلغ بي حد الاجتراء على محاولة كتابة الشعر بالانكليزية، بعنوان: "غريب على الجليد" أعارض فيها بكائية السياب " غريب على الخليج " وهي لا تقل "بكائية" عنها وكما ترون فانه لا تعوزني، بتعبير مهذب "الجرأة"! سماها بعض من اطلع عليها "Lyric" أي قصائد غنائية نشرت مقاطع من إحدى المحاولات في صحيفة " تورنتو ستار " أوسع الصحف الكندية انتشاراً، وأذيعت من الـ C.B.C، الإذاعة الكندية شبه الرسمية.
مرة أخرى: هل اسمي هذه المحاولات شعراً، هل سأواصله؟ كيف يمكن تصنيفه؟
لا ادري، ولا يهمني ان أدري، فليحر غيري في ذلك، أما أنا فأكتب، أتوقف أحياناً، ثم أواصل الكتابة..
وهذا، بالنسبة لي, هو المهم..
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* توطئة لمجموعة شعرية للكاتب بعنوان "ارتكابات تحت الطلب".