ادب وفن

العائد إلى عكا / شاكر فريد حسن

تصادف، هذه الأيام، ذكرى استشهاد أبو فايز غسان كنفاني، الإنسان الفلسطيني والسياسي الثوري والروائي الفذ والكاتب المقاتل الملتزم، مرهف الحس وعميق الشعور.
وغسان كنفاني هو قطب من أقطاب الأدب الفلسطيني المقاوم الملتزم بالقضايا الوطنية والجماهيرية والإنسانية والهموم الفلسطينية. ولد لأسرة فقيرة كادحة في عكا، مدينة الجزار وعروس البحر، الذي لا تخاف هديره، في التاسع من نيسان عام 1936 مع بداية الثورة العربية الفلسطينية ضد قوى الصهيونية والاستعمار البريطاني ، وتعلم في كلية الفرير بيافا ، وفي عام 1948 نزح الى لبنان ثم التحق بأفراد أسرته في دمشق وهناك عاش حياة صعبة وقاسية، ولكن رغم ذلك اقبل على الدراسة ليلاً. وبعد نيله الشهادة الثانوية سافر إلى الكويت سنة 1955 وعمل في التدريس، وواظب أثناء ذلك على الدراسة الجامعية حيث انتسب الى كلية الآداب بجامعة دمشق وأعد دراسة لنيل الشهادة الأكاديمية بعنوان « العرق والدين في الأدب الصهيوني» ثم عاد إلى بيروت وعمل في صحيفة «الحرية» الأسبوعية.
بعد ذلك أوكلت إليه مهمة رئاسة تحرير صحيفة «المحرر « اليومية، التي كانت تعكس وجهة نظر الناصرية والقوى الوطنية التقدمية والثورية في العالم العربي . وفي خريف العام 1967 انتقل للعمل في صحيفة «الأنوار» الأسبوعية، وفي الوقت نفسه بدأ يلعب دوراً قيادياً في النشاط الإعلامي الفلسطيني. وفي العام 1969 ترك غسان العمل في «الأنوار» وانتقل للعمل في مجلة «الهدف» الأسبوعية السياسية. وفي الثامن من تموز عام 1972 تم اغتياله بوضع خمسة كيلو غرامات من المواد المتفجرة في سيارته فأودت بحياته مع ابنة أخته لميس. وقد أثار استشهاده سخط واستنكار وحزن مختلف الأوساط الفلسطينية، وأبنّه العديد من الكتاب والشعراء والصحفيين الفلسطينيين والعرب، حيث أشادوا جميعهم بمآثره على الصعيدين الجماهيري الكفاحي والأدبي الفني.
يقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش :» جميل أنت في الموت يا غسان، بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر، لقد انتحر الموت فيك.. انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة. اكتمل الآن بك واكتملت به ونحن حملناكم أنت والبطن والموت.. حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. أيها الفلسطينيون.. احذروا الموت الطبيعي .. هذه هي اللغة الوحيدة التي تمرنا عليها بين أشلاء غسان كنفاني، ويا أيها الكتّاب.. ارفعوا أقلامكم عن دمه المتعدد. هذه هي الصيحة الوحيدة التي يقولها صمته الفاصل بين وداع المنفى ولقاء الوطن، ولا يكون الفلسطيني فلسطينياً إلا في حضرة الموت. قولوا للرجال المقيمين في الشمس أن يرحلوا ويعودوا من رحلتهم لان غسان كنفاني يبعثر أشلاءه ويتكامل. لقد حقق التطابق النهائي بينه وبين الوطن».
وغسان كنفاني روائي مفكر، يوصلنا للأفكار والأسئلة من خلال رحلتنا مع أعماله الإبداعية، ومتعة القارئ هي الاقتناع بهذه الأسئلة وجديتها. وهو كاتب ثوري وسياسي مسلح بالفكر العلمي الاشتراكي، وما يميز كتاباته الانحياز التام إلى جانب الفقراء والكادحين المسحوقين من أبناء المخيمات والأرياف الفلسطينية، والالتحام العضوي بالقضية التي عاشها حتى الشهادة، وإبداعاته كانت وستظل من أجل الحق والعدل والحرية. وعن ذلك قال غسان عن نفسه :» في البداية كنت اكتب عن فلسطين كقضية قائمة بحد ذاتها، عن الأطفال الفلسطينيين، عن الإنسان الفلسطيني، عن آمال الفلسطينيين بحد ذاتها، كأشياء منفصلة عن عالمنا هذا، مستقلة وقائمة بذاتها كوقائع فلسطينية محضة، ثم تبين لي أني أصبحت أرى في فلسطين رمزاً إنسانيا متكاملاً. فأنا عندما أكتب عن عائلة فلسطينية، فإنما أكتب في الواقع عن تجربة إنسانية ولا توجد حادثة في العالم غير متمثلة في المأساة الفلسطينية، وعندما أصور بؤس الفلسطينيين فأنا في الحقيقة استعرض الفلسطيني كرمز لبؤس العالم أجمع».
أغنى غسان كنفاني المكتبة الفلسطينية بالعديد من القصص والروايات والدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية، وهي:» في الأدب الصهيوني، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال، أدب المقاومة في فلسطين المحتلة ، أرض البرتقال الحزين، أم سعد ، الباب، رجال في الشمس، سقوط الجليل، عائد الى حيفا، عالم ليس لنا، عن الرجال والبنادق، ما تبقى لكم، موت سرسر رقم 12، الأعمى والأطرش، أطفال غسان كنفاني ، العاشق، القبعة والنبي، جسر الى الأبد، المدفع، ثورة 1936 ـ 1939 في فلسطين».
إن روايات وقصص غسان كنفاني بمجملها تؤرخ القضية الفلسطينية بكل أبعادها السياسية والاجتماعية ، وتصور الأوضاع المأساوية التي عاشها الإنسان الفلسطيني في الشتات والمنافي القسرية، وحالة التمرد على الصمت والركود التي تلف القضية، والثورة على الأوضاع التي أوصلت الشعب الفلسطيني إلى هذا الدرك وقطع الصلة بالماضي المر والتطلع إلى المستقبل الجميل، الذي يستعيد فيه الإنسان الفلسطيني إنسانيته وكرامته وهويته المسلوبة.
كتبت الروائية الفلسطينية ليانة بدر تقول:» لقد صاغ غسان كنفاني انتفاضات الحلم الفلسطيني مؤشراً حقيقياً على انتهاء أيام القهر والهزيمة، ومن «أم سعد» إلى «عائد إلى حيفا» إلى «الرجل والبنادق» تراجعت مساحات القهر الشاسعة التي حاولوا أن يرسموه أغلالا وفجيعة في تاريخنا العربي الحديث كي يخرج منه إلى جدل الواقع والتاريخ والى ضرورة الثورة المقبلة تعطي نقيض الذل والقهر والحرمان. وفي كتابات فلسطين حضرت فلسطين كما يجب أن تحضر. فمن واقع شعبه اليومي والحياتي أعطيت للكتابة الحقيقية على يديه مكانها وجدارتها الأصيلة وأصبح أبطاله رجالاً يتلاقون مع الهزيمة كي يقهروها ولا تقهرهم ، كي يواجهوها دون أن تبتلعهم».
في رواية «رجال في الشمس» يحاول غسان رسم رحلة الفلسطيني المرة من صقيع المنفى الى لظى الصحراء الممتدة بين البصرة والكويت، ينقلهم فلسطيني فقد رجولته في حرب فلسطين مهربين في سيارة صهريج ماء فارغ نحو بديلهم المكاني عن الأرض طمعاً في تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي. لكن البديل في النهاية لم يكن الا الموت ، والموت اختناقاً في الصهريج وبسواعد اعجز من أن تدق جدران خزان الماء الذي يحتويهم هاربين لتجد جثثهم نهايتها وقبرها في ركام مزبلة صحراوية لا تسمع النداء الذي اصبحت تردده الصحراء .. لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟!
وفي «ام سعد» يمجد غسان كنفاني الإنسان المسحوق الكادح الذي حمل راية المواجهة والمقاومة ويستشهد دفاعاً عن الوطن والشمس والفرح. وأم سعد امرأة حقيقية عرفها غسان وهو اذ يتعلم منها ويكتب عنها ولها. وهي تمثل المرأة الفلسطينية التي تمتلك وعياً سياسياً ثورياً وتشارك في المعركة النضالية التحررية من اجل إقامة الوطن الحر .
أما في «عائد الى حيفا» فيحدثنا غسان عن زيارة يقوم بها فلسطيني مع زوجته إلى بيتهما في حيفا الذي تركاه قبل عشرين عاماً ، بعد أن أتاح لهما الاحتلال عام 1967 فرصة زيارته ، باحثين عن طفلهما الذي خلفاه وراءهما في ذلك البيت عند سقوط المدينة في العام 1947 ، فيفاجآن حين يجدان ان الطفل أصبح ضابطاً في الجيش الإسرائيلي ومدافعاً عن الصهيونية والاحتلال، لكنهما يجدان العزاء في ابنهما الآخر الذي يطمح للالتحاق بحركة المقاومة الشعبية الفلسطينية.
أخيراً، فأن غسان كنفاني لم يمت ، ولا يزال يدق جدران الخزان . انه خالد في الذاكرة الفلسطينية الخصبة بآثاره وأعماله الأدبية الرائعة ، وإذا كان أعداء الإنسان والحرية اعتقدوا انهم حين اغتالوه نجحوا في اغتيال الكلمة الثورية المقاتلة وإخماد الصوت الفلسطيني الهادر ، فهم مخطئون . ويكفي ان حادثة الاغتيال نزلت في قلب كل فلسطيني، وانه هو الذي كتب «عائد إلى حيفا» أصبح لدى شعبنا في الوطن والمنفى ، العائد إلى عكا.