ادب وفن

محمود البريكان.. الشعر فن لا يقبل التسخير، ولا يحيا مع الحذلقة / جاسم العايف

بعد الساعة الثانية عشرة ظهراً، تعودت على إرسال نظراتي خارج مقهى "الدَكّة". كنتُ وأنا استمع لمَنْ يُحدثني، أنظر عبرَ الشارع، لأسباب خاصة جداً؟!. أراهُ، دون أن يَعرفني، رائحاً غادياً أمام المقهى، وتحت الشمس البصرية الحارقة، يتطاير شعره مع الريح ويرسل نَظراته، عبر نظارته الطبية الملونة، وسط المقهى، من دون أن يدخلها، فأخمن انه ينتظر أن يرفع عبد الكريم كاصد، نظره إلى الأعلى كي يراه.
عندما أشاهده على تلك الحالة، أُنبه "كريم" لذلك، فيخرج مسرعاً، مرحباً بودٍ به، ويدعوه، للجلوس، لكنه، يفضل الصف الأول من "التخوت الخشبية" التي تقع خارج المقهى. كان ذلك الرائح الغادي "محمود البريكان"، الذي تسامى نحو آفاق الإبداع والتحضر، ومثّل روح التطلع الحداثوي المتمدن في النسيج الثقافي العراقي، من خلال تنقيبه في صبوات الروح العراقية وتراثها الإنساني، محتفياً بعظمة الإنسان، متمسكاً بإرادته الحرة، متجاوزاً الإطناب والبهرجة والتزويق، متحصنا بعزلته الخلاقة. وبقي في شعره وحياته واقفاً ضد تأبيد المهانة والذل والتزييف، مؤثثا حياته بالمثل الإنسانية المشروعة، محلقاً بالشعر من أجل خلاص الإنسان ونزوعه للحرية والحياة اللائقة، وبإعلاء دور الشاعر بنصوصه المشعة التي تجعله، رسول الحضارة الإنسانية المدنية.
أسس البريكان شعره، على منهجية "التواصل المعرفي- الإنساني"، مؤكداً على الذات الإنسانية وتجلياتها، وبالتاريخ ووقائعه المغيبة قصداً. يتساءل الشاعر عبد الكريم كاصد في مقال نشره بعد مقتل البريكان:"أكان يدرك البريكان الذي نأى بنفسه عن السقوط الجماعي، أنه سيصبح يوماً ضحية هذا السقوط؟!. وسواء أكان السقوط سياسياً أم غير سياسي، تمثّله سلطة تحترف القتل، أم لصوص عاديون، فإن مقتله دليل على افتقاد أمنٍ، وموتٍ غير مبرّر سيظل باعثاً على الرجفة أبداً، وعلى التفكير طويلاً. لعلّ الحدث الكبير في حياته هو مقتله الذي سيهب مجرى حياته توتّراً لن ينتهي صداه أمداً طويلاً، مضيفاً إلى شعره وحياته غموضاً وتطابقاً آخر بعد أن تطابقا من قبل". المثير في حياة البريكان هو التطابق المحير الذي عبر عنه في قصيدته "الطارق" التي كتبها عام "1984"، مع المصير المجحف والغدر الذي آل إليه في منزله، ليلة الثامن والعشرين/ شباط/ عام 2002؟!.
في ذكراه، نستعيد كتاب "البذرة والفأس" للناقد "رياض عبد الواحد" وهو "قراءات حرة في شعر محمود البريكان - قصائد "عوالم متداخلة" إنموذجا"، وقدم له الدكتور حسين عبود الهلالي أستاذ الدراسات النقدية الحديثة في قسم اللغة العربية- كلية التربية جامعة البصرة، ذاهباً في مقدمته إلى ان الكتاب قراءات لا تلتزم منهجا محدداً من مناهج النقد الأدبي وربما يمكن وضعها ضمن ما سمي بـ"النقد الانطباعي"، وقد عرف به أستاذنا المرحوم الدكتور على جواد الطاهر، والناقد الغائب الحاضر المرحوم عبد الجبار عباس. يرى الناقد "رياض عبد الواحد" إن قراءة الشاعر البريكان تستدعي وقفة تأملية بسبب تجربته التي يحيطها الغموض من جوانبها جميعاً، وان الماهية التي يتوخاها الشاعر من خلال قصائده ليست واضحة المعالم وإن المنعة شديدة فيها والعزلة ممتدة على مساحة واسعة، والافتتان بما تحمله النفس في الداخل أعلى وأكبر من الافتتان بالعالم الخارجي، والبزوغ كثيراً ما يشع في ظلمات الروح دون تدخل قسري من الشاعر.
شعر البريكان أشبه بالبذرة الموضوعة في إحدى قصائده، وهذه البذرة وهي تعيش في الداخل فأنها تأخذ منه كل شيء وتندفع بقوة إرادتها مخترقة تربتها لتكبر وتثمر وتكون ذات لحظة ما خاضعة لفأس الحطاب التي هي صلة التواصل والتقاطع في العيش بعجائبه المتعددة مرئية أو مخفية ومنها صلة الشعر بالشاعر، وبالآخر لكونها محصلة الحياة النهائية.
يحتوي الكتاب على "13" دراسة عن قصائد "عوالم متداخلة" ويبدأها بإعادة نشر تلك القصائد. ودرس كل قصيدة على حدة ضمن مهيمنات عدة، ومنها تجربة "الاعتزال" التي يعمد إليها البريكان إذ يتداخل فيها أكثر من وشيجة لتشكيل نقطة التقاء المعقول باللامعقول. والملاحظ أن تجربة "الاعتزال"، فرضت على شعر البريكان صوراً يغلفها انفعال ذاتي، ما جعل الزمن في بعض قصائده غير موحد ولم تتضح أية صلة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فكانت بعض قصائده غامضة وهي تجوب في غياهب المجهول، ومع انه جنح لاستنطاقها لكنه لم يستطع ذلك بسبب عدم تخلصه من عزلته الروحية فأسقطها في العزلة من ناحية المبتدأ والمنتهى. وفي دراسته لقصيدة البريكان" دراسات في عالم الصخور" يتساءل عن الوشائج بين الشعر والعلم؟. وهل يصح أن يلج الشاعر الذي يمنحنا مدركات حياتنا اليومية المتنوعة وبما يوصلنا إلى حسٍ راقٍ وقيمٍ أخلاقية تتجسد في حقائق السلوك الإنساني، ولكل ذلك وغيره هل يستطيع الشاعر الدخول إلى منطقة اشتغال العالِم دون السقوط بالنثرية؟. ومن خلال تحليله لهذه القصيدة فأنه يؤكد إنها "قصيدة معرفية" وبسب قدرة البريكان على الكشف في القصيدة فأنها هي التي تقود لتَقّبل هذه الموضوعة الجيولوجية شعرياً ،و هذه القصيدة لا تفضي إلى أن تقدم أو تعلمنا حقائق جيولوجية كما أنها لا تفسر لنا الجزئيات المتكونة منها الصخرة كما يفضي بذلك عنوانها الخادع بل هي قصيدة إيحائية تكشف ما يمكن أن نتلقاه من الصخرة بالشعور والإحساس، لا ما يفرزه العقل المجرد عن الصخرة والتي يكّمن سرها في داخلها، ومن المعروف إن الولوج والتغني بعالم الطبيعة ليس مستحدثاً في الشعر عامة، ولكن أهمية ذلك تكمن في طريقة التعامل الشعري معهما، والبريكان استطاع من خلال عالم الصخور الجامد، دفع الحقائق الطبيعية إلى وقائع شعرية، عمقت الإحساس بالصور المحسوسة للصخور عبر التقاط بعض الصفات في ما هو محسوس والانطلاق منه إلى ما يريد توصله إلينا من رؤى أفكار وصوره الشعرية تتجسد في المحسوس ذاته، وفيما إذا أخذنا قصيدة البريكان ككل تبدو موحية متماسكة. والثيمة التي عبرها تتحدد خصوصيات الشخصيات الغائبة في قصائده، هي "الحرية" المستندة إلى الوعي والاختيار والتي تعيه يقينياً.
ويلاحظ إن البريكان قد تخلى عن معجمه الشعري القديم، مستثمرا مفردات الطبيعة كما في قصيدة "الفراشة" وهو يواجهنا بمرئيات المخالفة، وتعتمد كذلك قصائده تغييب الزمن في البداية ثم الكشف عنه لاحقاً ،و البريكان يكشف عن قدرة قصصية في بعض قصائده من خلال استخدامه الأسلوب السردي ومتلازماته إلا انه سريعاً ما يعود إلى عالمه الشعري في بحثه عما يكمن خلف عالم المرئيات من خلال "اللحظة الشعورية الفريدة". وعبرها ينفرد بعمق الفكرة وجلائها و التعبير عنها بالصورة الشعرية التي جعلت شعره يتألف من طبقات عدة، كما استطاع من خلال مهيمنة الفكرة في قصائد"عوالم متداخلة"، وعمله فيها على تحديد شكلها، وأسلوبها معتمداً المزج بين الظلال وعمق الأفكار ووضوحها، من دون أن يبتعد فيها عن الإيحاء بما هي عليه الفكرة ذاتها ووضوح دلالاتها ومَسكَ كل الخيوط بقصيدته متعددة الأصوات والمشاهد والرؤى والتي يعكس فيها و من خلالها شقاء وعيه الفردي الحاد. بداية الخمسينات المنصرمة ترك البريكان الدراسة في كلية الحقوق- بغداد، لأسباب عائلية - اقتصادية، وعاد إلى "الزبير"، ثم ذهب إلى الكويت وعمل معلماً في إحدى المدارس الابتدائية، وكانت له علاقة وطيدة مع هيئة تحرير مجلة ثقافية- أدبية كويتية، والتي أعلنت عن مسابقة في القصة القصيرة واختير البريكان ضمن هيئة التحكيم، مع انه لم ينشر فيها شيئاً، فمنح صوته لقصة شاب فلسطيني مقيم،حينها، في الكويت وقد فازت تلك القصة،وبصوته، بالجائزة الأولى وكان كاتبها "غسان كنفاني".
بعد 14 تموز 1958 عاد البريكان إلى العراق وأكمل دراسته في كلية الحقوق، ونشر بعض القصائد في مجلة" المثقف"، و اختار العمل لتدريس اللغة العربية في بغداد أولاً ثم عاد إلى البصرة، وكان الشاعر حسين عبد اللطيف أحد طلبته في معهد المعلمين المركزي، وقد أجرى حواراً مطولاً معه، نشره في مجلة المثقف العربي عام 1970 ، ومما جاء فيه:" الشعر فن لا يقبل التسخير، ولا يحيا مع الحذلقة،وان منطقته هي منطقة الذات العميقة "..." فالشعر ابن النزوع الإنساني، وموضوعه الأساس تجربة الوجود بكل شمولها. وهو تمثّل خاص لواقع التغيير في الزمن وقلق المصير، والموضوع الكامن وراء الشعر هو التوتر بين الحياة والموت، بين التحقق والضياع، وتلك العلاقة المتحولة بين الروح والعالم". ويؤكد:" للشعر وظيفة اجتماعية، ولا يحققها بالطفو فوق الوقائع، وبالخضوع للتخطيط الخارجي. بل باكتماله كفن إنساني يدافع عن إنسانية الإنسان وحريته ويعمقهما".