ادب وفن

البريكان.. في حارس الفنار / علوان السلمان

ان الصحو الشعري في الأربعينيات من أواخر القرن العشرين تجسد في ابداع السياب ونازك الملائكة والبياتي ومحمود البريكان الذي تقول عنه سلمى الخضراء الجيوسي "شاعر ذو اصالة عظيمة ونظرة كونية.. نادرا ما ينشر نتاجه ولا يعرف له ديوان مطبوع"، فهو المشارك الفاعل في ثورة التجديد الشعري ووضع حجر الأساس له حتى انطلاقته عبر الأجواء ليحقق الانتشار واثبات الوجود عبر اللغة.. الركيزة الاساسية لفهم الرؤيا الشعرية التي يقدمها الخطاب الشعري.. لأن مكونات الشعر وصفاته "الأفكار والصور والموسيقى".. تتركز في لغته ذات الطاقة الايحائية والدلالية التي تقدم أشياء لا يمكن تقديمها في أي شكل نثري.. والتي يقف عليها المتلقي أولا للكشف عن المضمون الشعري..
والشاعر محمود البريكان الذي بدأت انطلاقته الشعرية مع اطلالة عام 1948 حتى عام 1994 .. والذي وصفه الدكتور علي جواد الطاهر بانه "احدى السنابل الملأى بالحب".. كناية عن ابداعه وتوكيدا لما عرف عنه من امتلاء فكري تجسد في منجزه الشعري الذي ترجم الى لغات متعددة من العالم ..فكان شهادة ابداع له.. حتى ان صديقه الشاعر بدر شاكر السياب عندما سئل عنه أجاب: انه شاعر عظيم ولكنه مغمور بسبب نفوره من النشر".. كونه واكب حركة التجديد الحداثوية حضورا ومزاملة لشعرائها.. وهو يمتلك نفسا شعريا طويلا مع اتساع افقه ورؤاه وشمولية ثقافية.. فكتب القصيدة الطويلة التي تمثل جزءا من وعي الذات لمثالها الغائب.. وكانت حصيلته "انسان المدينة الحجرية" و"هواجس عيسى بن ازرق في الطريق الى الاشغال الشاقة" وحارس الفنار" التي تمثل لحظة انتظار المنقذ والاغتراب الروحي الذي يعيشه الشاعر بحكم الواقع المأزوم سياسيا واقتصاديا واخلاقيا وفكريا.. فكانت ذات الشاعر منفصلة عن واقعها وتعد طقوسها لمنقذها المنتظر "الزائر المجهول والزائر الآتي والغامض الموعود"..
اعددت مائدتي.. وهيأت الكؤوس..
متى يجيء الزائر المجهول؟
وقوله:
أنا في انتظار الزائر الآتي
أيجيء بلا خطى؟
ويدق دقته على بابي.. ويدخل في برود
وقوله :
أنا في انتظار الغامض الموعود
تحمله الرعود
وهذا يكشف عن انتظار زائر خارج دائرة الواقع قد يكون "ملك الموت".. فالصورة الحسية في نص البريكان تكشف عن صراع بين الذات والوجود مع شعور باغتراب الذات عن الواقع.. وهذا يتجسد في الافعال "أعددت ـ هيأت ـ أوقدت.."، التي تدل على أعداد الطقوس والتهيؤ لاستقبال المنقذ الغائب المنتظر ..
والشاعر في "حارس الفنار" يحرص في تركيب جمله الشعرية على ان تكون الفاظها سهلة وواضحة.. لكنها لا تمنح نفسها بسهولة للحصول على معناها.. لذا فهي تنتمي الى "السهل الممتنع" كون لغتها الشعرية لن تتخلى عن حقها في تفجير اللغة عبر اكتشاف علاقاتها برؤية جديدة بحيث تمنح هذه العلاقة سيلا من العواطف الحسية فتشكل تشكيلا لأعمق التجارب الانسانية.. مع قدرة فائقة في الأداء والتوصيل وتدفق في الايحاء.. وفيها يعمد الشاعر الى تقنية الراوي الموضوعي الذي يعرف ما لا يعرفه الآخرون.. لكنه على الرغم من ذلك لا يتدخل في فنية النص.. بل يراقبه من الخارج لان هاجسه تقديم الصورة بكل ابعادها.. اضافة الى التزامها المونولوج الدرامي الذي هو حوار طرف واحد او هو حوار بين النفس وذاتها..
الوقت أدرك. . رعشة في الريح تعكسها الصخور
الوقت أدرك.. موجة تنداح من اقصى الدهــــــور
الوقت ادرك.. لست وحدي.. يعرف القلب الجسور
ان الرؤى تمت وان الافق يوشـــــك أن يـــــدور
أنا في انتظار اللحظة العظمى.. سينغلق المدار
سينغلق المدار
والساعة السوداء سوف تشل ..تجمد في الجدار
أنا في انتظار
والساعة السوداء تنبض ـ نبض ايقاع بعيد ـ
رقاصها متأرجح قلق يميل الى اليمين ـ الى
اليسارـ الى اليسارـ الى اليمين ـ الى اليسار ـ
الى اليسار..
فالتكرار الذي هو "دوران داخل الذات في الاتجاه العمودي" يحاول الشاعر من خلاله تحقيق قدرة من التناغم والتآلف الموسيقي اللذين يثريان الجوانب الايقاعية والدلالية للنص الشعري.. كونه عنصر من عناصر البناء الفني لموسيقى النص.. اضافة الى أنه يساهم في تعميق حس الغربة مع تأكيد على حاجة الشاعر للتعويض عن هذه الغربة .. فيتخذ عند البريكان أشكالا متعددة.. اذ أن موسيقى الشعر لا تكتفي بالتشكيل الخارجي "الوزن" الذي هو "تكرار التفعيلة في اطار زمني منتظم لخلق توازن ايقاعي منها".. بل هناك بنية المفردة الموسيقية المتأتية من أصواتها "حروفها" التي تمتلك دلالتها التعبيرية او الانفعالية.. اذ ان تكرار الصوت في حدود اللفظة يعطي دلالة موسيقية تثري دلالة البيت الشعري..
أعددت مائدتي.. وهيأت الكؤوس..
متى يجيء الزائر المجهول؟
فتكرار "الدال" يعطي نقرا ايقاعيا شديدا كونه صوتا انفجاريا يحاكي ضجر الشاعر وسأمه من الانتظار.. وهناك تكرار "الوقت أدرك.." ثم تبعه تكرار "أنا في انتظار"
التي أقام عليها قصيدته لغرض اشباع دلالة فكرة النص ثم تبعه تكرار "سينغلق المدار" الذي أعطى قوة لفعل الانغلاق على مستوى الايقاع والدلالة وعمق وطأة الزمن وثقل اللحظة الانتظارية.. ثم كان تكرار الساعة السوداء التي تدلل على ثقل مسيرة الزمن فتكشف عن اغتراب الشاعر الروحي ببطء حركتها الزمنية وقلق مسيرها اذ مرة يسار ومرة يمين..
أما القافية فيستخدمها الشاعر كي تسهم في اثراء ايقاع النص وهي اما داخلية كما في "رعشة وموحية".. اوخارجية كما في "صخور ودهور وجسور.." وفي هذا النص يطلق على القافية الخارجية القافية المترادفة لترادف ساكنين في آخرها لا يفصل بينهما متحرك.. ومن الظواهر البلاغية التي يستخدمها الشاعر الجناس ليؤدي غاية ايقاعية تضاف الى دلالته في تشكيل مستوى الصورة التي تتعامل مع الفكرة.. لذا تبدو صورا حسية بصرية مع درامية منبعثة من لغة متدفقة تتحرك بطاقة ايحائية استاتيكية..
استنطق الموتى .. أرى ما كان وما سيكون
وأشم رائحة السكون الكامل الاقصى ..
أريد..
أن لا أمثل من جديد
آلام تجربة العصور..
أما فيما يتعلق بحركة الضمائر فإنها تدور في بؤرة الشاعر الذاتية.. وهي تعبر عن حالته الوجدانية وتشكيلاتها ازاء الموضوع الشعري..
"أعددت مائدتي.. وهيأت الكؤوس.. أوقدت القناديل"..
وهذا يعني أن القصيدة تعبير ذاتي يجسد موقفا يعانق الآخر فيعلن تقاربه بضمير الغائب..
"ويدق دقته على بابي.. ويدخل في برود"
فيبرز في "أعددت وهيأت واوقدت.." الضمير المستتر "أنا" وهي تبحث عمن يمنحها الامنية فتعانق الـ "هو" الـ "أنا" من خلال "يدق ويدخل.."..
وبذا استطاع الشاعر الارتقاء بالتعبير عن الانفعال الذاتي الى مستوى انساني من خلال محاورة الوجود.. وهذا ادى بالنتيجة الى ظهور نزعة خطابية في نصه الشعري والتي نتلمسها من خلال أسلوب الاستفهام "والدمع مهما رق هل يكفي لمرثية الجمال"؟ والنداء "يا طالما أسريت عبر الليل أحفر في القرار"..
وقد عبر هذا عن اغتراب الذات الشاعرة وبعدها عن الواقع الموضوعي.. فكانت قصيدته صورة احتجاجية ضد الانكسار الفكري والجمود العقلي الذي يلف الواقع الاجتماعي.. فكانت صوره الشعرية تمثل اغتراب الروح عن ذاتها وصراعها مع واقعها.. فكان استعمال الالفاظ بمعناها الآخر غير المألوف ومن ثم خلق الانزياح لتحقيق غرض الصورة الذي هو "تكثيف الشعور او الاحساس الذي تثيره أية فكرة تسعى التجربة الشعرية من خلال صورها الى تجسيده حسا وفكرا في آن واحد".. كما يقول الدكتور عناد غزوان.. فكانت صوره سابحة في الحسية المحاطة بالأفكار الذهنية.. كون القصيدة بنية اشارية قوامها اللغة الشعرية التي تنقلنا الى افق تصويري ايحائي.. فالصورة الشعرية عند الشاعر لا تعبر عن تجربة حياتية بقدر تعبيرها عن تجارب ذهنية.. اذ انه يقول:"كثيرا ما يكون الشعر لدي نوعا من الكشف لما وراء الواقع.. نوعا من الغموض في اعماق الحياة والموت.. نوعا من الاحتفال بالجمال الخفي في مواسم ليس لها تقويم".
لقد تعامل البريكان مع الموحي في بناء قصيدته بصورة مكثفة تعتمد على الرمز الذي يحرص الشاعر على ايجاده وبثه في تجاربه الشعرية كونه "تعبير عميق الفكرة مزدوج المعنى" والذي يعد اهم الامكانيات التعبيرية في النص.. وانتاج الدلالة المفتوحة على معان تتأرجح بين الانسان والوجود..
لقد كان بناء الجملة الشعرية عند البريكان يتميز بالوضوح والايجاز والتكرار وتنوع القوافي .. مع بناء لغوي تميز بالاختزال والتكثيف والتجريد مع غنائية انبثقت من استخدام "البحر الكامل" "متفاعلن متفاعلن متفاعلن" وايقاعه الذي اضفى على النص جمالية ملامحها عند الشاعر يجسمها حرصه على الغاء المسافة بين الذات والآخر..