ادب وفن

مراسيم خاصة 10 / مزهر بن مدلول

لملومة!
هل نتعرض الى النسيان أو للسخرية في يوم من الأيام!؟، هل ما نسميه جميلا ومقدسا، ليس سوى وهم، ونحن مجموعة من الحمقى اعتقدنا بأنه حقيقة حية!؟، هل من قوى خفية من قوى القدر، تستطيع أن تعيد النور الى هذه الليالي الحالكة!؟، هل من معجزة تعيدنا الى أحضان امهاتنا اللواتي مزق صدورهنّ الصمت!؟.
وحتى لو حدثت معجزة، فهل تستطيع أمي التعرف عليّ، هل ستأخذني بين ذراعيها كما كانت تفعل عندما كنت صغيرا، أم أنها ستنظر اليّ على أني قادم من عصر آخر، أو قرن آخر!؟، أكيد سوف يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى تتمكن من الأقتراب مني وتلمس وجهي بأصابعها، أليس كذلك؟!.
لطالما راودت (خالد) هذه الهواجس، وشغلت ذهنه تلك الأسئلة، لقد تولّد عنده شعور بعد سنوات أمضاها في هذا المكان، بأنه يعيش في بقعة بعيدة ومعزولة، بقعة اقرب الى السماء منها الى الأرض، والحياة فيها لا صلة لها بحياة البشر!.
وقف أسفل القمة الشاهقة نافد الصبر متأفئفا، ألقى عليها نظرة مشدوهة ومغمورة باليأس، نظرة أقل ما يُقال عنها انها حائرة وعاجزة أمام سطوة الجبل اللامحدودة، ثم أشاح بوجهه وتحرك خطوة، فتعثرت قدمه بحجر مدبب، ومن شدة الألم، دفن وجهه في يديه، وراح يتمتم دون إرادة، صابّا ً لعناته على الارض والسماء والكون برمته!.
- ماذا جرى!؟.. بماذا أُصيبت عقولنا!؟.. ألم نكن بشرا!؟.. هل نحن بشر!؟.. تساءل (خالد) تائها في الظنون والتخمينات.. ثم أردف قائلا:
- لا.. أبدا.. لا أظنّ ذلك!.. نحن.. نحن.. نحن.. كان يكلم نفسه، ويحاول أن يجد وصفا يليق بعالم ما ورائي، همجي وشديد الغموض، كما انه حاول ان يباعد بين كلماته ليترك للصور متسعا من الفواصل الزمنية لتحل محل المقاطع اللفظية!... نحن.. نحن ..............
نحن مجرد هذيانات.. عبارات غير مفهومة.. انحدار متواصل.. أجساد تشعر بالبرد في قيظ الصيف.. نحن خارج الزمان والمرئيات.. معلقين في سابع فضاء.. غرباء ومشاغبين.. لنا أوهامنا الخاصة.. لكلّ منّا أوهامه الخاصة.. حفرتهُ التي يأوي اليها عندما ينام صاحب القناع!.. نهرب من الظلام المستديم، ونحشو رؤوسنا بآمال كاذبة، لكي نشعر بأننا على قيد الوجود ومازلنا نقاوم!.
نهض (خالد) مرة اخرى، ومسح المكان بنظرة شاملة من عينيه المليئتين بالأشمئزاز والأضطراب، تلفّت فيما حوله، فشاهد سلسلة قمم جبلية طويلة الى يساره، واخرى الى يمينه، ورابعة جرداء تقع خلفه، ورأى جميع الأشياء ساكنة وموحشة وتثير في داخله الأحساس بالضيق والأنقباض!....
شبك ذراعيه متأملا وجوده العقيم، ثمة شيء ما بدأ يغلي في أعماقه، صراع داخلي غريب اجتاح كيانه، [روحان.. واحسرتاه.. يسكنان صدري]، كما قال "فاوست"!، نضح وجه (خالد) عرقا، شعر بالأختناق الشديد، كان يبحث عن نسمة هواء كما لو انه في غرفة بلا نوافذ، أظلمت نفسه، وغزت ذهنه فوضى عارمة، وكان رأسه يتلاطم وسط حشد من الوساوس، حتى تراءى له الجبل في تلك اللحظة المتمادية بالخبث، كأنه شبح عملاق وافد على صهوة جواد أغبر يتبعه رهط من كلاب مسعورة، يحاصره بالكآبة والتلاشي، ويأخذه مقيدا الى عزلة مظلمة ورهيبة!، وفي ذروة انغماره في هذه الأنفعالات والمشاعر، ضغط (خالد) على زناد بندقيته، فأنهمر منها وابل من الرصاص حتى فرغ مخزنها، ثم زفر زفيرا متقطعا ورمى البندقية جانبا، وجلس على الأرض متكأً برأسه على حجر كبير، وباديا عليه الغم ّ والأرهاق، ثم أغمض عينيه وإستغرق في حياته القديمة، التي يعتقد انها تحطمت بين ليلة وضحاها!.
لا تفصلني عن (خالد) سوى بضعة أمتار قليلة، وكنت أستظل شجرة جوز كبيرة، وأتصفح ذكرياتي أنا الآخر!، وعلى الرغم من اطلاق الرصاص الكثير، لكنّي كنت مطمئنا وواثقا بأنّ لا كارثة توشك على الوقوع!، وبعد أن مضت عدة دقائق، قمت من مكاني واقتربت منه وجلست قباله، تمعنت في وجهه من دون أن أنطق بكلمة، كان مصفرّا وشاحبا، لكنّه عندما شعر بوجودي، فتح عينيه وراح يرسم إبتسامة رقيقة ملأت قلبي حزنا، ثم قال:
- تخيّل يا رفيق، بأني مهما حاولت أن أتحايل على الجبل بالقناعة والصبر والأرادة، ومهما حاولت أن أخيفه بأقوال المفكرين والفلاسفة والثوار التي حفظناها!، ومهما صوبت بندقيتي على رأسه واعتقدت بأني أرديته قتيلا وتخلصت من جحيمه، لكنّه يظهر في كل مرة، سداً منيعا، قاطعا ومطلقا، يحول دوني ودون (زهرتي) التي طالما حلمت بعطر جدائلها، وحملت البندقية من أجل أن أثأر لكرامتها!.. هذا الجبل كئيب كالأوهام، لم يترك لنا سوى كسرة بسيطة من حياة باهتة.. مؤونة قليلة من ذكريات غامضة لا تستقر على جدار.. وما أنا أمامه، الاّ روح تذوي ببطئ شديد، فجسدي يتوجع، وقلبي يخفق من دون رغبة أو فرح!......
تركت كلماته رنينا قويا في اذني!، ما سمعته الآن لم تكن كلمات فقط، بل كانت أفكارا تبحث عن نهايات وأجوبة لا وجود لها عندي، وهذا ما جعلني أن أتردد كثيرا في أن أقول شيئا، وذلك لعدم ثقتي الكاملة بجدوى الذي سوف أقوله، وخاصة في مثل هذا الوقت بالذات، لكنّي في نهاية الأمر تجرأت، أو بالحقيقة شعرت انّ من واجبي أن لا أتركه وحيدا، فقلت:
- لا زلنا في مقتبل العمر، ولا زال مشوارنا طويلا، ولا تنسى يا رفيقي (خالد)، بأنّ لنا قضية عادلة ومن اجلها نخوض هذه المغامرة، ومع أنّ الظروف صعبة ومعقدة، لكن علينا ان لا نستسلم للضجر، فحياتنا وعلى الرغم من انها مزيج غريب من القسوة والبساطة، الاّ انها جميلة في كثير من جوانبها التفصيلية!.. قلت ذلك من غير قناعة!، حتى أني بعد أن توقفت عن الكلام، شعرت بقشعريرة سرت في جوانحي، وبغصة ملأت حلقي!.
رفع (خالد) رأسه، وحملق في وجهي، وضحك ضحكا مقهقها وساخرا، وقال:
- هل تسمي هذه حياة، ولا شيء فيها يحثك على التفكير أو الأبتسام!؟.. هل هذه حياة، ولا تبصر فيها أكثر مما تتخيل وتتوهم!؟.. هل هذه حياة، وكلّ شيء فيها غارق في النوم، ولا تسمع منها سوى صدى لهاثك!؟، ولا تقول عنها الاّ متأتأً أو صامتاً!؟.. أليس هذا هو الخواء المرّ!؟.. ألم يكن ذلك هو العدم بعينه!؟.........
حرّكَ جسده بطريقة مسرحية، ثم رفع سبّابته أمام عينيّ، ورماني بنظرة ملتهبة، وصاح بصوت أجش: هذه حياتك أنت، أما أنا، فحياتي تختلف.. تختلف.. تختلف!!....
أنا أعرف، بأن لا فائدة من الحوار مع (خالد) في هذه الساعة، وأعرف انّه سكوت وقلّما يتكلم، لكنّي أدرك حق الأدراك، وخاصة من خلال علاقتي الحميمة والطويلة معه، بأنّ مزيدا من البوح يجعله أكثر انشراحا وأهدأ روعا!، مما دفعني الى استفزازه المزيد من الأستفزاز، علّني أفلح في أستدراج ثقته وانتزع شيئا ولو قليلا مما يدور في خلده وما يستبدّ في روحه من احزان!، فطلبت منه متهكما، أن يفسر لي ما تعنيه الحياة بالنسبة له، فقال:
- الحياة ببساطة، تعني، أن تكون لي ردود أفعال.. أن لا يتملكني الشيطان وينتحل صوتي!.. أن أذرف من الدموع ما أشاء من دون أن يُقال عني ضعيف أو جبان!.. أن لا أتجرد من غرائزي وشهواتي.. الحياة تعني، أن أموت من الحب، وليس من الجوع واليأس والأنتظار!.....
كان (خالد) يتحدث بنبرة صادقة، واضحا كوضوح الماء النابع من الصخر، عفويا، لا يجد مشقة في اختيار عباراته، لكنّ شعوره بالقيود التي تكبّل ارادته كان عميقا، كما انّه كان يزداد حماسا للتعبير عن نفسه كلما قرأ دلائل السخرية ظاهرة على وجهي!.
فتح (عليجته) وأخرج منها (كيس التبغ)، وبدأ بلفّ السيكَارة التي أخذت من الوقت الكثير، فكلما أراد أن ينتهي من لفّها، يعيد الكرة من جديد، لقد حاول (خالد) كعادته أن يلفّها لفا أنيقا وجميلا كجزء من شغفه بالحصول على أقصى متعة ممكنة!، سحب نفسا عميقا، ثم نفث الدخان بقوة في الهواء كما لو انّه ينفث كابوسا جاثما على صدره، ثم ما لبث أن استردّ انتباهه، وراح الكلام مرة اخرى يتدفق من فمه بغزارة:
- الحياة تعني، انّك تستيقظ متأخرا، ثم تركض وسط زحام الطلبة والموظفين لكي تجد لك مقعدا داخل (باص المصلحة)!.. الحياة بالنسبة لي، أن أنعم بقيلولة في ظهيرة قائظة، ثم أخرج في المساء وأجلس في مقهى أتصفح جريدة.. الحياة تعني، نظرة خاطفة ومثيرة من امرأة تغويني.. الحياة ان اسمع في الصباح ديكا يضرب بجناحيه ويصيح: عي عوووو.. عي عوووو.. وراح (خالد) يصرخ كمن فقد صوابه، عي عوووو!.. ثم استعاد رشده، وهدأت روحه، واردف قائلا:
الحياة يا رفيقي (سمير)، هي انتماء كامل الى الموجودات، وليس بحثا عن أبدية خلف الزمان!.. هي احساس بالطمأنينة والأمان، كما لو أني بالقرب من أمي، حيث لا أشعر ببرد أو بعتمة أو قلة نوم!......
رمى (خالد) عقب سيكَارته بعد أن سحب منها النفس الأخير، ثم أسدل جفنيه وإنفصل لثوانٍ قليلة، لكنه سرعان ما حرّك شفتية وتمتم بشيء ما كأنه يتذكر، وفجأة ظهرت عليه علامات الهدوء والسكينة، تنفس هواءا طريا منعشا، وزحف من مكانه واقترب مني كثيرا، الى درجة انّ وجهه كاد أن يلامس وجهي، وهمس:
- الحياة بالنسبة لي، هي لمياء (لملومة)!..هي تلك العينين الصافيتين اللتين يتكلمان اكثر مما يتكلم اللسان.. ذلك الاحساس الذكي، والفكر الحالم الرقيق.. هي الظمأ الطفولي الصادق، والشفتان المكتنزتان كوردة في شهر حزيران!....
هل تعرف يا (سمير)، كانت (لمياء) هي امنيتي وهيامي، وعندما التقيها اشعر وكأنّ كوكبة من النجوم قد اشرقت فوق رأسي!، وأنّ حياتي مسرحا للبهجة والفرح.. كنّا، أنا وهي، كعصفورين صغيرين في السماء!، والطريق تتجلى امامنا واضحة وفسيحة، لكنّي ضيعتها هناك، تركتها في النفق، وهربت.. هربت!..
لم أف بوعدي لها.. لقد خذلتها.. خذلت الأبتسامة التي طالما تغنيت برقتها.. خذلت الأنفاس المتلهفة والعناقات الطويلة.. تركت اللؤلؤة مرمية في النار، وهربت!..
اضطربت مشاعر (خالد) واختلطت اختلاطا مبهما في نفسه، ارتعشت شفتاه، وفاضت الدموع صامتة على خديه، وكانت تنهداته تخفي وراءها نارا متأججة لا سبيل الى اطفائها، تراجع الى الخلف قليلا، وأخرج كيس التبغ مرة أخرى، وراح يدخن بشراهة، ثم التفت اليّ وسألني:
- هل تعتقد بأنها مازالت الى الآن تحبني وتتسقط أخباري؟، أم ان ذلك الحب أطبقت عليه قبضة النسيان والموت الى الأبد!؟، هل تظن بأنها ستنتظرني بعد كلّ هذه السنين، أم أني اصبحت بالنسبة لها مجرد ذكرى حزينة تثير في نفسها الكراهية والخطيئة!؟، هل ما زالت هي ذاتها، تلك الصبية التي ابتسامتها تضيء وجهها، أم انّ الزمن ترك على خديها طبقة من الخوف والأخاديد؟!.. ترى أين هي الآن، وبأيّ شيء مشغولة البال!؟....
ومن دون أن يسمع مني رداً على تساؤلاته، هزّ منكبيه، ودار رأسه، واسترسل في تصوراته كما لو أني لم أكن موجودا!.
- لا، أنا لا أستحق أن ينبض قلبها النبيل من أجلي.. لستُ جديرا بأن أتأمل ذلك الوجه الحلو الذي تتلألأ فيه البراءة.. لم اكن الرجل الوفي، الذي كانت تقول عنه، بأنها تسمع رنين الصدق في كلماته.. لقد كانت تردد أمامي: خالد، أنت الوحيد الذي أفتح له قلبي وأبوح له أكثر مما أبوح لنفسي!.. ولطالما قالت: سأتبعك أينما ترسلك الأقدار، وأينما تتقاذفك الأمواج والعواصف.. لكنّي في لحظة مصيرية تركتها.. تركتها في وحل تملأه التماسيح وهربت!.. هربت!..
كانت السماء بلا سحب، والشمس تميل الى الغياب، وكان كلّ شيء مغمورا بالخوف والحذر، انسابت نسمة باردة على الارض كزفرة خفيفة، فتساقطت اوراق صفراء من شجرة مزروعة على الرصيف، الشوارع صماء بكماء، وعلى جدران بناية متآكلة، كُتبت بالطباشير عبارات تندد بالوحشية التي انفلتت من عقالها.............................
من فوهة زقاق مظلم، خرجت مجموعة من الدببة الريفيين وهي تفترس (لملومة) وتسحق إنسانيتها!!.