ادب وفن

تخطّي الخط العربي وتحوّله من التمثيل إلى التقديم المجسم( إياد الحسيني أنموذجا )/ د. مكية الشرمي*

لقد دفعت ضرورة إيجاد مرجع للخط العربي في التراث، إدراك العديد من الفنانين العرب إلى استخدام الخطّ العربي بغية منح أعمالهم طابعا شخصيا، وعقد أواصر الصلّة بفنّ التخطيط في التراث الإسلامي، حيث يقول عفيف البهنسي:" انتشر استعمال الحرف والخطّ والكتابة في التصوير الحديث، حتّى أصبح من النادر أن ترى فنانا تجريديا عربّيا لا يستعمل الخطّ العربي كصيغة أساسية لتجربته".
وفي خضم التجربة العربية الجمالية تبزغ لنا اتّجاهات متعدّدة في استلهام الحروف العربية في الأعمال الفنّية التشكيلية ذات البعدين وذات الأبعاد الثلاثة.
ووجد الخطّ العربي استجابة تميّز خطابه إزاء التيارات الأوروبية، إذ أنّ هذا المشروع قد صاغ سلسلة من التجارب جذبت إليه غالبية التشكيليين "الرسامين والنحاتين والخزافين..."، ضمن مفاهيم متعدّدة غالبا ما أكّدت أهمّيتها على الصعيد الجمالي وعلى صعيد ما يعنيه الحرف في العلامة الشرقية الإسلامية والعربية، إذ حفّز شيوع استخدام الخط العربي عند الرسّامين العرب المعاصرين حماسة التشكيليين الآخرين إلى الاستعانة به في أعمالهم الإبداعية، حتّى أنّ بعض المعماريين قد أخذت تراودهم فكرة إقامة منشآت معمارية تقوم على أشكال لكلمات وأحرف عربية، ولكن ما تحقّق فعليا من هذه الجهود المتفرّقة، ظلّ محصورا على نخبة قليلة إذا قورنت بما شاع منها في مجال التصوير، إلاّ أنّها نخبة تتيح لنا أن نطمح بما يعزّزها في المستقبل، ومن ضمن هؤلاء نجد تجربة الفنان العراقي إياد الحسيني.
هذا الفنان الذي منح الحرف مكانة فنّية مرموقة، من خلال تحويل الحرف والكلمة إلى أعمال إبداعية، فقد تمكّن هذا الفنان من إيجاد أسلوب فنّي خاصّ به من خلال تبّنيه للحرف العربي والعمل على تناغمه وكيفية توظيفه مع اللون والضوء والعناصر الأخرى المتوازنة التي يختارها ويراها منسجمة مع خياله الإبداعي، حيث سعى هذا الفنان إلى استخدام الخطّ العربي ضمن نمطية غير مألوفة، فنجد الكلمات قد جرّدت من خصائصها المعنوية وفرّغت من أيّة دلالة، وليس ما يذكرّنا بالكتابة غير نسيجها الخطّي وغنى حركتها وانسيابها، بعد أن جعلها خلفية لأشكال في اللوحة.
لم يعد إياد الحسيني، ينظر برؤية خطاط أو رسّام أو نحات أو معماري، بل صار يختلف مع كلّ ماهو ثابت ومألوف، من خلال اقتراحه التفاعل والتداخل بين الروافد لخطاب ينتج ذاته وهويته" لكنّه لا يتراجع أو يتطرّف في التعبير، بل يمهّد لتيار له أنصاره في وحدة الفنون، الخطّ مع الرسم، والنحت مع المعمار، لتمثّل تعدّدية التوجّهات الذوقية وصهرها بجنس له أسسه العلمية وله دوافعه الجمالية والأخلاقية"، إذ أنّ توجّه هذا الفنان يتضمّن التعددية والتجانس، ولا يجعل تراكيبه تتدحرج نحو الهاوية، بل تثبت قدرة التواصل والابتكار على الرغم من حذفه واختزاله حتّى لا يزيح الهوية ولا يبالغ بدور اللاشعور في المنجز.
بحث إياد الحسيني خارج مكوّنات اللوحة عن مادّة من شأنها أن تتلاءم مع الحضور الجديد لحروفه "وتمنحها مجموعة قوانين قادرة على جعل الفعل يتحرّك"، هكذا تحدّث ميشال ديرميه في كتابه "الفنّ والحسّ" عن العلاقة التفاعلية بين الشكل والمادّة، ثلاثة عناصر تكوّن بترابطها وانسجامها أرضية ملائمة لتطوّر طموحات الفنان ورغبته في التشكيل، كما أنّ الهواجس التصويرية للخط العربي قد فرضت على هذا الفنان، محايثة سمك القماشة باعتماد مادّة الجبس، تنقل مباشرة خصائص المساحة التصويرية من تسطيح وامتداد، وتمنح الحروف حضورا جديدا في الفضاء، فلا تكمن الإضافة هنا في استبدال المادّة، بل في تغيّر نوعية الفعل والعلاقة التي أصبحت تجمع هذا الفنان بحروفه.
بعض النماذج من أعمال الفنان إياد الحسيني
يظهر من خلال هذه العيّنات، أنّ الفنان إياد الحسيني قد عمل على تحرير أعماله تدريجيا بدأ بنتوءات بارزة، متّجها نحو فضاء ثلاثي الأبعاد، وفي ذلك سعي نحو التحرّر النهائي من المسطّح ومعانقة فضاء ثلاثي الأبعاد، كما تظهر هذه العيّنات، بحث الفنان المتواصل عن تركيبة منشودة، من خلال استنهاض حروفه وتكويناته من مساحاتها المرسومة، ودفعها إلى الانسلاخ من عالمها فوق قماشة الرسم، لتصبح مستقّلة بذاتها في الفضاء وكأنّها قد بعثت من رقادها فوق أسطح اللوحات.
وفي ظلّ هذه الضغوط تفاقمت رغبة الفنان إياد الحسيني في الخروج الفعلي من فضاء التصوير المسطّح ولإطلاق عنان الذات لمعانقة فضاء أرحب، يقوم على الطرح الصريح للأشكال، غير أنّ توجّه هذا الفنان إلى الفضاء المفتوح لم يكن غاية في حدّ ذاتها أو محاولة للبثّ في قضايا نحتية، بل هو بحث متواصل في مسائل تصويرية حال المسطّح دون بلوغه، إذ أنّ اعتقاده الراسخ بامتلاك أشكاله روحا ونفسا حيّة، جعله يفكّر بجدّية في تجاوز الوسيط ذي البعدين، الذي يفرض عليه البقاء داخل دوّامة الإحباط واللافعل والمفارقات البنائية القائمة فقط على الإيهام والإيحاء.
كما أنّ رغبة الفنان إياد الحسيني في اختراق حدود المسطّح لم تنشأ من عدم، بل من أمل بعثته فيه لوحاته، حيث تبدو فيها الأشكال تتحرّك أو تحاول أن تتحرّك، لتنطلق من فضائها المسطّح، إنّها توحي بأنّ بعثا جديدا يوشك أن يحدث وأنّ هناك أملا في عودة الحياة إليها، إذ أنّ الفضاء المفتوح أغرى هذا الفنان، وقدّم له إضافات تتلاءم مع طموحاته التصويرية، التي تسكن ذاته وتتفاقم ضمن المسار التعاقبي للأفكار، حيث يتطوّر مفهوم التصويري ويتوالد من التطوّر ذاته، هذه الرغبة هي نفسها السبب الذي دفع الفنان إلى مزيد من التحرّر داخل فضاء ثلاثي الأبعاد.
مثل هذا التغيّر الفعلي في الممارسة، السبيل الأمثل للفنان إياد الحسيني لإنتقال من حروف مرسومة إلى أخرى تثبت حضورها الفعلي في الفضاء، وذلك باستغلال التركيبات الخطيّة المقتبسة من التصوير وإعادة تقديمها ولإدماجها في فضاء مغاير، من أجل إخراج تركيب حروفي جديد يتلاءم مع حاجة الفكر للبحث والتطوّر. فمن عملية تخطيط للحروف تحوّل الفعل إلى تراكم (قصّ وفصل وقطع) هذا التغيّر التقني فرضته خصوصية التنّقل بين مجالين يتطلّبان تغيّرا في الأسلوب والتعامل، فكان لهذا التحوّل في الفعل والممارسة الأثر البالغ في رسم علاقة جديدة تجمع الشكل بالفضاء. وقد وجد هذا الفنان في مادّة الجبس ضالته، هذه المادّة التي من شانها أن تمنح أشكاله صلابة تمكّنها من الانتصاب في الفضاء والحفاظ على استقامتها، مقصيا كلّ التدخلات اللونية مكتفيا فقط بالأبيض.
كما تعدّ نقلة تجسيد الحروف من التمثيل إلى التقديم بداية مرحلة يكتسب خلالها العنصر التشكيلي كيانا مادّيا بحتا، يثبت تواجده وحضوره الفعلي داخل الفضاء النحتي، كلّ هذا مثّل الدافع إلى إيجاد فضاء يتواصل مع الخصائص التركيبية للخطّ العربي السابقة، ويفتح آفاقا جديدة للبحث، فيبدو أنّ الولوج إلى فضاء مفتوح لطالما استهوى الفنان، جعله يندفع إلى إخراج حروفه لتشكّل نتوءات بارزة تلقي بها مباشرة في عالم النحت، حيث يقول ريد هربرت "إنّك في الوقت الذي تنحت فيه المادّة تكتشف أنّ ذاك روح الفضاء المفتوح باحثا في مسائل تصويرية عجز المسطّح عن توفيرها" ، هذا التحوّل التركيبي أظهر بوادر علاقات جديدة ووضعيات لم يكن الفضاء المسطّح يسمح بوجودها.
وبالتالي فإنّ انتقال اهتماماتنا إلى مجال المنحوت لم يكن من باب السرد لمسار تجربة الفنان إياد الحسيني، بقدر ماهو تواصل واسترسال مع الهواجس الأولى لهذا الفنان المتمثّلة في تتّبع تحوّلات وتطوّرات الخط العربي في تنّقله عبر ثنايا الفعل، خاصّة بعد ما ارتأيناه من اندفاع هذا الفنان وبحثه المتواصل عن حلول مغايرة من شأنها أن تحدث تطوّرا وتبلورا في المفاهيم. هكذا يدرك هذا الفنان داخل المنحوت، كيف يمكن أن يقيم الحدّ بينه وبين الأشكال والألوان، وأن يترك جانبا تلك الانفعالات المغرقة في الذاتية والعفوية التي لم يتمكّن حتّى في أشدّ لوحاته بنائية من أن يمنع تدفّقها وانبثاقها.
حاول الفنان إياد الحسيني أن يبعث في أشكاله روحا جديدة تدحض نسب وقواعد وحروفية التصوير، فكان النحت البارز سبيلا لانفتاح الشكل واللون على فضاء مفتوح ضمن علاقة تأثر وتأثير تأكّدت على إثرها رؤية جديدة تقرّ بقابلية العناصر الحروفية على الترابط بأخرى خارج نطاقها المباشر أي من عالم المنحوت، وهذا ما جعله ينطلق بحماس نحو التركيب، فأنجز العديد من المحاولات والتكوينات، التي بدت رغم تعدّدها تمتاز بتقارب وتآلف في الخصائص التشكيلية العامّة، ولعلّ ما يزيد في ترسيخ هذا التشابه هو هجرة بعض الألوان والخصائص البنيوية من عمل لآخر، حيث تنطلق جميع العناصر من قاعدة موّحدة ترتفع بعدها لتحدث بتكتّلها وامتدادها علاقات تتراوح بين الظهور والاختفاء.
استطاع الفنان إياد الحسيني تحقيق نوع من الخروج عن المألوف في التشكيل الفنّي للعمل الخطّي والزخرفي، ليضيف إلى روح الخطّ العربي بتكويناته ومرجعياته العقائدية والفنّية نوعا من المغامرة الإبداعية في أسلوب رسمه وتشكيله وجمالية تكوينه الفنّي، فقد تحوّل الحرف إلى تكوين مجسّم أو ما يمكن الاصطلاح عليه بتكوين ذي ثلاثة أبعاد (الطول، العرض، العمق) وهي من سمات العمل الفنّي النحتي. وهذا ما فتح سبلا جديدة لتحقيق طموحات حروفية كانت في السابق قيد التمثيل، وقد ساهم الانفتاح على الفضاء المفتوح في إدراج عنصر جديد ومؤسّس للفعل التشكيلي ألا وهو الظلّ، فإلى جانب الحضور المباشر للأشكال تتدخل الإضاءة لتلعب دورا ما في خلق التضاد بين الشكل الظلّي السالب والعنصر المظلّل، فينشأ في الفضاء جدل حيّ وحميم تصبح فيه المسافات جسورا ضوئية.
وبهذا نرى بأنّ الفنان إياد الحسيني، قد فتح مع الحرف العربي أفقاً ريادية جديدة في تصميماته، إذ يفرض عليه مسعاه لأن يبعث الحرف من شكل جامد إلى شكل متّسم بسرعة حركته، وذلك بما يضفي عليه من تحويرات نحو سيولة الحرف العربي، وضمن وعي فنّان متمرّس على تحقيق دقيق للتناسب والتناظر ما بين الحروف المتداخلة والفراغات المحيطة بها، والتكافؤ بين الأشكال وتوازن بعضها مع بعض وامتلائها بحسيّة الحركة اللولبية المتدفّقة، وهو إذ ينزع هذا النزوع التجريدي الذي لا يبقى من الحرف العربي غير الإيحاء بسيولته وطواعيته، إنّما يذكّرنا بطبيعة الخطّ العربي الذاتية مع إلغائه لمقوّمات الخطّ في الحرف والكلمة، ممّا يجعل هذا الفنان متحرّرا من القيود التي تكبّل الممارسة والفعل والتطوّر، فيكون مفارقا ومناقضا ويطمح دائما إلى المزيد.
هكذا فإنّ محاولة الفنان إياد الحسيني في مجال استلهام الحرف العربي للتعبير عن واقع الإنسان العربي المعاصر، تؤكّد أنّه سعى إلى معايشة عصره من خلال تراثه ومعطياته وبما يعمّق التواصل بينهما. فنرى أنّ في إدخال الحرف العربي إلى الفن التشكيلي المعاصر أهدافا متعدّدة وليس هدفاً واحداً، أهمّها هو توجيه عملية الابتكار الفنّي نحو طابع حضاري يربط الفنان بالأسس الأصيلة التي تتميّز بها قوميته، ويشدّه إلى أرضه وإلى الطبيعة التي عاش فيها، كما أنّ ذلك يهيّئ للفنان أن يستفيد من طراوة الحرف العربي المعروف بجمال شكله، ومطاوعته للتغيير والتشكيل، ولكن دون أن يتنازل عن المدلول أو أن يتبعثر فيه المفهوم.
ــــــــــــــــــــ
أكاديمية وناقدة من تونس