ادب وفن

ظواهر ثقافية.. الموتى يسمعون / عبد علي حسن

المكان/ مقبرة السلام/ النجف الأشرف.. المؤدون/ ثمانية من الشعراء الشباب البابليين وتاسعهم من النجف الاشرف.. المتلقون/ موتى أيقظتهم فواجع الأحياء وهمومهم التي تشكلت في أنماط من الاداءات القرائية والحركية والصوتية أفصحت عن رسائل مشفرة تارة وصريحة تارةً أخرى ليبلغوها الى من رقد تحت الثرى أيا كانت فجيعة موته.. فالأحياء ليسوا غائبين.. ويعرفون بل ويعيشون ما يدور وما يحصل ولعلهم جزء من مشاريع تلك الأداءات.
لست بصدد تقديم مقاربات نقدية لمستوى ما قدمه هؤلاء الشباب في تلك المقبرة.. ولكني هنا معني بتقديم ورقة ثقافية بشأن هذه الظاهرة التي تصطف وغيرها من الظواهر التي افرزها التحول البنيوي للمجتمع العراقي منذ 2003 مروراً بالمعطيات اليومية لحركة المجتمع، ليتشكل وافداً يستحق بل ويستوجب معاينته وتأشير أمكانية ظهوره كمؤثر ومشكل للمشهد الثقافي العراقي ـ ولا يمكن ـ والحال هذه ـ النظر الى هذه الظاهرة وسواها من الظواهر التي تتسم مشاريعها بالمغايرة والاختلاف بمعزل عن الموروث العالمي والوطني لظهور هكذا ظواهر عُدّت في وقتها جديدة ومغايرة للمألوف والتقليدي. إذن نحن جيل استجاب للتحول البنيوي للمجتمع العراقي بمشاريع شعرية تبلورت بعد عام 2010 ليقوموا أنفسهم مختلفين ومغايرين للمألوف والتقليدي في الشعرية العراقية ليس من ناحية الشكل "الأداء القرائي والحركي والصوتي" وإنما الى المضامين التي لم تجد في الأشكال التقليدية وعاءً يستوعب المعطيات الجديدة واليومية الحاصلة في البنية الاجتما سياسية، مؤكدة بذلك جدلية الشكل والمضمون التي تشهد وحدة وافتراقاً في عملية تخليق النص الأدبي وإذا ما عدنا الى الوراء وتحديداً عند المنعطفات والكوارث الحربية التي شهدتها شعوب العالم فإننا نجد العديد من الحركات الأدبية والفنية التي ظهرت في تلك المنعطفات واستوعبت حراكها الاجتماعي للتعبير عنها داخلياً كالدادائية ومسرح اللامعقول ومسرح العبث والفارس الأزرق وسواها من الحركات ولا ننسى بهذا الصدد ظهور حركة الشعر الحر في العراق والشام ومصر بعد الحرب العالمية الثانية وقبل كل ذلك حركة قصيدة النثر الوليد الشرعي لفكر الحداثة الغربية. والجدير بالذكر إن جميع هذه الحركات قد استحدثت على يد الشباب من الشعراء والكتاب والفنانين الذين وجدوا في الأشكال والمضامين القديمة قيوداً ثقافية تكبل حركة الاندفاع لاستيعاب المعطى الجديد المتشكل في البنية الاجتماعية، وبالإمكان تمييز نمطين أو اتجاهين في عملية التجديد هذه، الأول قد أسس لتوجه جديد بنيوي في النمط أو الجنس الأدبي/ الشعر الحر، قصيدة النثر، فقد امتلك هذا التوجه دلالته الشعرية ـ على الرغم من المعارضة له ـ بعده قد خرج من معطف الأشكال القديمة إلا انه مجدداً لها وشكل حلقة أضافية اعتمدت لتحديث وتجديد للمنجز اللاحق، وبذا فقد دخل منطقة التأسيس، ولم يتوقف عند حدود المعطى الذي أنتجه/ أما النمط الثاني أو الاتجاه الثاني فهو نمط استهدف عملية التجديد والإضافة واستجاب للمعطى في البنية الاجتما سياسية والاقتصادية وظهر منجزه كنمط مغاير ومختلف عن المألوف والتقليدي إلا انه قد احتكم الى التمظهرات والتفاصيل اليومية للمعطى وما أن تحول المعطى توقفت تلك الحركات وظلت أسيرة للبنية التي أنتجته ولم تؤسس لما بعد المعطى، وبمعنى آخر فان هذه الحركات قد توقفت عند حدود الظاهرة الاجتماعية ـ المؤقتة عادة ـ وبهذا الصدد تستذكر محاولة الشاعر الفرنسي ـ رامبو ـ في كتابة القصيدة الملونة التي أعطى فيها كل حرف لوناً متقارباً دلالياً مع المفردة الشعرية وبالتالي الجملة، إلا أن هذه التجربة لم تستمر كما لم تتمكن من التأسيس لمحاولات أخرى لاحقة وكذا الأمر بالنسبة للحركة الدادائية وسواها من الحركات التي توقفت عند التجربة الأولى ونرى أن العلة في ذلك هي عدم وجود تحذير فلسفي لتلك التجارب أولا ولعدم الاستفادة من البنية الثقافية السائدة والخروج عنها بشكل منطقي ومقبول، لذلك نجد أن قصيدة التفعيلة كانت خروجاً على السائد والمألوف إلا أنها قد استفادت من النظام العروضي للشعر العربي الفراهيدي محولة الفضاء الشعري للقصيدة من الجملة الشعرية ـ البيت في الشعر القديم ـ الى القصيدة الموضوعية وقد شكل هذا التحول أساسا لتجارب لاحقة ولا زالت قائمة غير مستنفدة جميع إمكانيات قصيدة التفعيلة وان جرت محاولات تنويعية على شكل القصيدة وفق آليات الحذف والتقطيع والفراغات والتنقيط وما الى ذلك من تقنيات رفدت محاولات التأسيس وأتاحت للمتلقي حرية المساهمة في إنتاج النص الشعري وفق مبدأ التأويل ووجهات النظر القرائية المعاصرة وعود على بدء فإننا نجد في محاولات الشعراء الشباب المشار إليهم في صدر المقال قد تضمنت إجراءات حركية وصوتية تشترك مع غيرها من الأجناس الأدبية والفنية وخاصة المسرح، متنازلة عن قوة الكلمة ـ قوام القصيدة ـ وتأثير إيحائها الشعري. لذا فان محاولة تجنيس هذه المشاريع الشعرية أمر لا طائل منه، وفي الوقت الذي شكلت فيه هذه المحاولة استجابة لتحولات ومعطيات البنية الاجتما سياسية لا تخلو من الانفعال الذي توقف عند حدود التقنيات الأدائية محولة الأداء في الكتابة والقراءة الى الأداء والتلقي الشفاهي، وإزاء ذلك فإننا لا نعدم التوجه المخلص والمثابرة الصادقة من قبل هذه المجموعة لزحزحة البنى التقليدية ـ الأدائية حصراً ـ في تقديم وتلقي النص الشعري، إلا أن ذلك يدعو أيضا إلى الحث في تقديم أنماط جديدة تعتمد اللغة وإطلاق طاقاتها وفق ما يحصل في البنية الاجتما سياسية والثقافية المتحولة كي تقع هذه المشاريع في منطقة التأسيس لتجارب ذاتية وموضوعية لاحقة. والأمر يستدعي دراسة المشاريع والمنجز الشعري السابق والاني دراسة مستفيضة والخروج منه وعليه لتقديم ما يمكن أن يعد تجديداً وتحديثاً ومتجاوزاً، وتحية للشاعر مازن المعموري وكاظم خنجر وعلي ذرب ووسام علي وحسن تحسين وعلي تاج الدين واحمد ضياء وعباس حسين واحمد عدنان في بحثهم الدؤوب عن كل ما هو جديد ومغاير باتجاه تخليق مشهد شعري شبابي متحول بعد خلخلة للبنى الثقافية التقليدية السائدة، ونرى بان إمكاناتهم الشعرية قادرة اذا ما وضعت في المنطقة الصحيحة من جدلية هدم السائد وبناء الجديد ـ من تحقيق ذلك التجاوز الذي ننتظره منذ عام 2003 ولحد الآن . إذ أن التجارب الشعرية المقدمة قد اغتنت بمضامين جديدة أفرزتها معطيات التحول البنيوي للمجتمع العراقي، إلا أن الاشتغال على صعيد البنية اللغوية والشكل المقترح لاستيعاب تلك المضامين لا يزال كما تراه ـ بحاجة الى جهد مضاعف ومخلص وفاعل في المشهد الثقافي العراقي والشعري منه على وجه التحديد وإذ شكلت محاولة هؤلاء الشباب البحث عن قضاء جديد للتلقي فانه ينصب في بحثهم الدائم عن تجديد فضاءات الشعر العراقي ـ كتابة وتلقياً ـ الا انه قد توقف عند استشعار هذه التجربة ضرورة نقل ما يعمل في البنية الاجتما سياسية الى الأموات الذين كانوا ـ ربما ـ جزءاً من مشروع انتهاك الشخصية العراقية المعاصرة. إلا أن الأحياء بحاجة الى من يتفاعل مع المعطى اليومي المتغير والوصول الى البنية العميقة، ونبقى بانتظار نتائج هذه الجهود وغيرها والتي ممكن اعتبارها تراكمات كمية ستؤدي حتماً الى تحول نوعي في الفضاء الكتابي والتلقي ـ للشعر العراقي المعاصر ـ الذي امتلك تجارب ايجابية لافته للنظر على الصعيد المحلي والعالمي ـ تحية لكم وتحية للأموات الذين سمعوا وجعكم الإنساني.