ادب وفن

أسئلة البريكان الموجبة / جاسم عاصي

الشاعر "محمود البريكان" تشكيلة معرفية وشعرية تتفرد في ذاتها، لتوفر شخصيته الشعرية والاجتماعية، مستندة على خصائص ذاتية. وهذا ما تؤشره عزلته، سواء ضمن مسيرته الحياتية، أم في أخرياتها. والدافع إلى مثل هذه الممارسة الوجودية، كوّنه وفّر لنفسه ثقافة ومعرفة مختلفة، ومارس حياة اجتماعية لا تنفصل عن تاريخ البلد، سوى في استقبالها بفرط الحساسية الشعرية التي يمتلكها. ثم واجه ما خلقته كل هذه المكوّنات مجموع الأسئلة الوجودية، التي لخصتها وكررتها قصائده ذات البُعد والرؤى الفلسفية عبر طرح أسئلة المعرفة عن الكوّن والعلاقات الإنسانية، والحرية خارج منظومتها السياسية المواجَهة?بالإحباط، والنكسات الدائمة لمشروع الإنسان، ثم الشعور بالاغتراب.
ولعل الشعور بالفقدان واحد من أهم المؤثرات في شخصه وبالتالي في شعره. فهو يعتبر قصائده، أو ممارسته لكتابة الشعر، نوع من التعويض عن هذا الفقدان، الذي يسحب معه كل مستلزمات الوجود الإنساني التي يراها الشاعر من منظور يختلف عن أقرانه. فمثلاً "السياب" كإنسان وشاعر عانى من الفقدان والغربة الكثير، لكن شعره ترجم هذه الظاهرة من خلال حسّ يختلف عما عكسه شعر "البريكان" كوّنه ترجم ذلك برؤى فلسفية تتعلق بأسئلة الوجود. لقد انعكست مفردات حياته المحدودة مكاناً والواسعة حسّاً عبر توالي الأسئلة الوجودية. فهو يصف العالم بالعور، لأنه ــ سادر في الظلمة ــ على حد ما ذكر "علي حاكم صالح في الشعرية المفقودة" ــ لذا فشعره ينصّب في نوع من الإيمان بجبرية الصورة العقيمة التي تلّف العالم كما يذكر "الأجنة الصغيرة/ الأجنة الشاحبة الصفر/ التي ترفض أن تشاهد النور ولا تريد أن تولد"، هذه النظرة الموصولة بعقم الحياة، لم تكن عفوية في حياة الشاعر، بقدر ما صاغتها مجموعة الرؤى المصاغة من الحياة. إن نظرته تتعمق جرّا? تعمق عزلته المختارة التي خلقت له عوالم من التأمل عبر ممارسة صعبة لمثقف مثله، ولنموذج اجتماعي، كانت له علاقات عريضة، سواء مع جيله، أم مع المثقفين والشعراء والسياسيين، ولاسيّما داخل بيئة تميّزت بخصائص ذاتية في صياغة مثقفها وأديبها، هي بيئة البصرة. من هذا كانت رؤاه أكثر غموضاً حد عكس ما يشبه الرفض حين يقول:
"وما من ملاذ أخير
نفتني المنافي، أحاول أن أقهر الموت عبر القصائد
أدحر بالشعر هذا الظلام الذي يتمدد داخل روحي
أحاول أن أجعل الفقد أجمل حين أصوغ المراثي.
أحاول أن أتثبت من درجات الوضوح. وأن أتثبت
بالزائرات. أحاول أن أتعرّف ما لا يباح وأن
أتقصى حدود العوالم".
هذه الدعوة، هي الأكثر انفتاحاً وانغلاقاً في ذات الوقت. لأنها تكشف عن النوايا، وتغلق التعبير الواضح من الاقتراب من الآخر.
إن سلاح الشاعر هنا كلامه المُصاغ شعراً، وكل ما هو خارج هذه المنظومة المعرفية الانتاجية لا تعنيه. يُريد للشعر أن يأخذ بزمام الحياة، حتى في عزلته عن الوجود المادي الجمعي. فالشعر عنده أكثر قدرة على المواجهة "أدحر الموت بالقصائد" شريط أن يكون لساناً صادقاً.
إن الدعوة في أن يكون الشعر رائداً للموقف من الوجود، يتشبث به الشاعر، محاولاً أن لا ينفكّ عن عقاله، بسبب تداخله مع عمق وجوده المادي، الذي آثر العزلة، معوّضاً بذلك عن الغربة في الحياة مع الجميع.
إن العزلة كما ذكرنا ليست مستخلصة من العلل والأمراض الاجتماعية والسياسية ،بقدر ما هي عزلة معرفية صاغتها دربة البناء الذاتي معرفياً، واستقام عودها على يد الشعر. لذا فموقفه في ما توصل إليه من صياغة لحياته، يُعد قيمة وجودية واعية، ذات محمولات رؤيوية تتأبط الفلسفة كنمط يُصاغ فيه الشعر كما يذكر في إحدى قصائده:
"هذا هو العالم المتأرجح بين الحقيقة والوهم. بين سطوع الوجود وظِل العدم.
أهذا إذاً عالمي"؟
هذا المقطع الشعري، ملغوم بالإشارات التي ما أن يتوسع فيها المرء، حتى تنفتح على مجال أوسع، وهكذا. فوصف العالم بـ "هذا هو العالم"، يعني إدراك ما لم يدركه الغير. وتوصيفه بـ "المتأرجح" ينطوي على كشف وموقف. لأن هذا التأرجح يراوح بين "الحقيقة والوهم" فالحقيقة التي يفهمها الشاعر، ويحاول التثبت منها وتطويرها وفق منظوره، والوهم ما يواجهه به الآخرون. الوهم هنا نوع من الخديعة. ولكي يُزيد من قوة وصفه، يضعه موضع السطوع والظِل. والفرق واضح. فهو لم يذكر الضوء والظلام مثلاً، وإنما اتخذ من صفة مطلقة جامعة للحالة وهي مفردتا "السطوع/ الظِل" لأنهما أكثر قدرة على تأكيد قوة الضوء "السطوع" إزاء تفتت الظِل، الذي هو مكوّن بحكم التراكم للظلام. وبهذا يمكننا القول أن الشاعر محدد ببصيرة تشكّل الأشياء والظواهر الكوّنية، لأنه يؤمن بأن الظاهرة "س" تقابلها الظاهرة "ص" بكل عناصرها، من هذا فأن الأسود كان أبيض على حد قول الباحث "ناجح المعموري" في كتابه بهذا العنوان. وهو خلاصة لما آلت إليه عناصر الظواهر المادية والبشرية. فالهم الوجودي في ذات الشاعر ولدته المِحَن بكل قوة تأثيراتها وقسوتها. من هذا نجده يجنح إلى حافّات الأشياء، لا هروباً منها فحس?، وإنما ليوضح لنفسه سبل القناعة لما آلت إليه حياته. فهو بحث من أجل الحقيقة المولّدة للقناعة بالسلوك اليومي إزاء مجريات الوجود. وهو ما يعكسه شعره المؤشر لسُبل المحاولات للائتلاف مع العالم، لكن يُقابل بـاللاجدوى:
"أحاول أن أعرف ما لا يباح، وأن أتقصى حدود العالم
وأحفر في صخرة الدهر رمز انتصاري.
ولكن نبض الليالي بطيء
ولي لغة لا تشابهني
وكنوز أساطير ضاعت مفاتيحها
أشكّل هذا السديم الذي لا يشكَّل.
أكتب حتى تجفَّ العروق. وأبصر هاوية الصفحات
الأخيرة فاغرة. وأماميَّ
يمتد تيه البياض السحيق".
والقصيدة هنا تتصل بأخرى سابقة، تنطوي على رؤى أسئلة مستترة، يُحددها الكلام الذي يتشبث بأفعال التقصيّ في "لا يباح وأتقصى" وهاتان المفردتان محفوفتان بالمحذور الذي يراه الشاعر ممنوعاً عنه اعتبارياً. لكنه يُجهد نفسه عبر الشعر في البحث عن هذا المحذور. ولكن تبدو اللاجدوى ماثلة في صياغة الجملة الشعرية التي تلي هذا متمثلة في "أحفر في صخرة"، وهي استحالة الوصول إلى ما يريد من نحته هذا. غير أنه يؤكد صيرورة البحث "رمز انتصاري" ويبدو أن رمز الانتصار موصوف من علاقته بالنوع المتحقق وهو الشعر بالرغم من أن "الليالي بطيئة" مقابل "لغة لا تشابهني"، في هذا لا يُشير إلى القطيعة بقدر ما يؤكد عدم المشابهة بين لغتين. ثم يعرّج على ضياع الأساطير باعتبارها تمتلك مفاتيح المعرفة. وبمثل ما ضيّع "البياتي" مفتاحه الذي أهداه له الساحر الهندي، ضيّع "البريكان" مفتاح أساطيره. فما تشفع له سوى الكتابة، ووجه الصفحات البيض التي يراها نقية، مشبهاً إياها بـ "تيه البياض" الذي هو اتساعه. وهي أطراس الشاعر التي يدوّن عليها شعره.
يبدو لي أن الشاعر "البريكان" ملاحق بلعنة الأزمنة وأثر وقعها. وهي واحدة من مكوّنات الإنسان الوجودي، الباحث عن المصير الذي كبدته المآسي حملاً ثقيلاً، ناء به الشاعر ــ الواعي ــ قبل غيره من بني الإنسان. اللوعة تعني لديه أنك محاط بجملة مصدّات وكوابح، وعوامل مصادرة للوجود. ولفرط حساسية "البريكان" الشعرية نجده يتعامل مع الزمن على أنه سالب للإرادة، حد يصل إلى محو هوية الذات. ففي إحدى قصائده يؤكد على ذلك كما يُشير إليه هذا المقطع:
"الزمان.. الزمان.. الزمان
ستصوّح أسنى الحدائق. تُسلّم أوراقها لهواء الخريف المسافر. تهرم كل الشوارع والدور. تذبل كل العواطف وتتحوّل بغضاً وحقداً. وينمو الصغار رجالاً أصحاء أو صوّراً من مسوخ. جميع الأغاني ستنسى وكل المسرات تثوي محنطة في الظلام إلى يوم أن تهدم أعمدة الذاكرة".
ونرى أن الامتلاء والتراصّ في الرؤى، قد حقق نموذج الصورة التي يراها الشاعر، وهو يراقب مجرى الواقع ويعيشه. وإزاء ما يمتلكه من حساسية شعرية، نجده يتعامل بيقينية ما سوف يحصل. وكأنه حاصل تحصيل لخطأ أكبر. إن رؤى "البريكان" تنبؤية من خلال ما ذكر. فصرخته بتكرار الزمان ثلاث مرّات، تعني نوعاً من نفاد الصبر. ثم تتوالى الصوّر مثل "تسلّم أوراقها، هواء الخريف، تهرم، تذبل"، وهذه مفردات دالّة على السلب بمعنى الاستلاب. وهو بعد ذلك لا يربط رؤيته بالولادات الجديدة "ينمو الصغار رجالاً"، لأن ما يراه متحققاً يتجسّد في "صوراً من ممسوخ، الأغاني تنسى، تتهدم أعمدة الذاكرة" هذه المواجهة اليائسة، هي التي منحت الشاعر نتائج اضطراب الأزمنة. وحرقة وقد الأحداث ووصول الإنسان إلى مرحلة أن يكون سؤالاً يبحث عن جواب. ولا جواب هناك. ذلك لأن المفتاح الذي ذكره أعلاه قد ضاع، فضاعت أساطيره جرّاء هذا التيه، الذي صاغ صورة الإنسان وهو مكبّل باللاجدوى، يبحث عن مكان يأمن فيه. والعزلة التي اختارها الشاعر هي الملاذ الذي ينشده الشعراء المعذبون في الأرض. وجرّاءها غدا وجود الشاعر نوعاً من الأسطورة المضيّعة. وما أن يعثر عليها أحدهم، حتى تزوغ عنه مبتعدة، أو نائية?إلى الأبد. هذه الأسطورة التي عنونة حياة "البريكان" شاعراً وإنساناً اتسعت رقعتها وتعددت صفحات أطراسها، لأن بحث الآخر فيها كان جادّاً، لكنه يبحث عن جدّية أكثر. فقد كان وكما ذكر مرّة أمضي "إلى سبر الأبعد المجهول للوجود، وإلى استشراف المصائر الكبرى". ولعل أثره الشعري ما يدعو إلى تحقيق مثل البحث في المضمر من شخصيته الشعرية.