ادب وفن

يوم الميلاد.. مشهد من سيرة ذاتية! / يوسف أبو الفوز

حسنا .. لنبدأ من آخر الرحلة.. هاهو السندباد يهبط أرضا جديدة. محملا بالهموم، بخور الأماني، أصداف السنين، ومثقلا بعلامات الاستفهام. عيناه مترعتان بالوجد، ملء المدارات أغانيه، ملء العمر أحلامه، ومن بين كفيه تهبط حكايات شهرزاد ...
تركْت نافذة الغرفة مفتوحة، ففاجأك وعلى غير انتظار، طائر ملون، بقبعة من الريش الأحمر، حط بحذر على حافة النافذة، تفحص المكان بحذر، وأدار ظهره لك وراح يهز ذيله بشكل مضحك. لا تذكر أن في عراقك طيرا جميلا كهذا. أهو نوع من عصافير القطب؟. حملت كوب الشاي بحذر وجلست الى طاولة الكتابة متحاشيا إفزاع الطائر. أمامك حزمة من الأوراق عليك أن تسلمها غدا لدائرة التسجيل.
هذي السماء الغريبة، وخطاك الوئيدة، وبلادك بين نيران ظلم الدكتاتور ونيران الحصار والحروب. في غرفتك النائية يبرز لك سكون الوحدة لسانه. تلتهم الوجع، أرغفة يشويها لك صقيع الغربة. وإذ ترتجف أضلاعك تحت سماوات رصاصية، تتدثر بأغنياته من داخل حسن وفؤاد سالم.
طلبت منك موظفة دائرة التسجيل، أن تملأ الاستمارات بشكل دقيق. وضعت لك علامات بالأحمر أمام الأماكن الإجبارية. حياتك الجديدة، بعيدا عن سمائك الأولى، تحت سماء القطب، سيكون لها إيقاع قوانين بلد منفاك الإجباري. وكلما تتفحص الاوراق يواجهك السؤال: تأريخ الميلاد .. اليوم والشهر.. !
بين ثلوج الغربة وأطلال الذاكرة يمتد زقاق للوجع، هناك تتكئ روحك الى جذع نخلة، وتطلق أغنيتك، ترسمها بهواجسك، في السماء الغريبة، نجمة لها وجه أمك الجميل بعيونها الذكية.
لم يسجل أحد تأريخ ميلادك، لكن أمك ظلت تكرر دائما بأنها ولدتك في أيام "دخول السنة". كررت بأنها قبل ولادتك بأيام لم تترك مسمارا لتعليق الملابس لم تزينه بالعشب الأخضر. أخبرتها غجرية بأن القادم سيكون ولدا، وسيكون غنيا وبهيا وفارسا مثل ملك. لم تصدق أمك بكل هذا، فقد عجنها الفقر كل يوم، طيلة السنوات التي عاشتها مع الرجل الذي أحبته ورفضت أن تتزوج سواه ، بعد قصة حب كان لها صدى في المدينة الفراتية الصغيرة. كانت أمك تتمنى أن يكون لمولودها ملامح أبيه ولون بشرته الفاتح، لكنك جئت تحمل سمارها ولون عينيها، وأنف أبيك الدقي?.
أيها العاشق العنيد. أيها الطفل الكبير. يا عامل السكك العصامي، الذي لم تخلف لأبنائك بعد رحيلك سوى بهاء اسمك وبدلة عملك الزرقاء. ما معنى السماء من دون حرية جناح الطائر؟ ما معنى البحر من دون مرح الأسماك الصغيرة؟ ما معنى الكبرياء من دون حروف اسمك؟ سأخطه بالنار على بوابات الغربة، وأطرزه بالدمع على رموش القلب .
أبوك، الكادح، لم يقرأ يوما كتب ماركس ولينين، ولكنه عرف نضالات يوسف سلمان يوسف ـ فهد واستشهاده الأسطوري، وشارك في تظاهرات عمال السكك وهتف لأجل سعادة الناس. ويوم لاحظك تخبئ كتبك الثخينة في مكان أمين، سألك وهو يغمز لأمك: أهذه كتب صاحبكم أبو لحية، ابو البلاوي؟
تهبط غيمة. تحملني. أفترش الحلم. أعبر كل سنين العتمة. لشمس ما زالت تكبر. لأرض الدفء أغانيها : فارسنا امتشق الفرح سيفا وتزنر!
كانت أمك راوية قصص العائلة. مغامرات أبيكم العاطفية قبل الزواج منها. عراكه مع المهندس الانكليزي. عن زياراتها ودورانها بين السجون. عن قصص عوائل السجناء الباحثين عن أبنائهم في سجن نقرة السلمان. عن تظاهرة نساء السماوة صبيحة ثورة الرابع عشر من تموز، وكنت ذا عامين، تحملك في التظاهرة على كتفها. لقاءات نساء المحلة في لمة "شاي العباس" والحضور الدائم للقائدة الرابطية أم موسى ـ المناضلة صفية الشيخ محمد. قصة اعتقال خالك الشيوعي، صاحب المكوى، من قبل "الحرس القومي" في ذلك اليوم الأسود من شباط. عن يوم الحشر في محطة القطا?، يوم وصول "قطار الموت" لمدينتكم، حين هبت المدينة لإنقاذ السجناء. كان أبوك يرمقها بنظرات الحب، مؤكدا كلماتها، وكنت، وإخوتك، تلتهمون قصصها مع أرغفة الخبز الذي تحمله لكم ساخنا من تنور البيت .
كانت أمي توصيني دوما: يا ولدي، احذر.. احذر، لا تعط ظهرك للريح . اسنده الى صخرة أو كتف رفيق!
مدرسك المسيحي، ببشرته الناصعة البياض، وعيونه الملونة، اختار ساعة الظهيرة لزيارتكم. طرق الباب، بأناقة فنان موسيقي، ففتح له أبوك. عاد ليهمس لك بتآمر: أستاذك الأحيمر! لم تكن مفاجأة ما حمله لك، لكنها كانت سعادة غامرة لم تستطع إخفاءها عن أشقائك، إذ أبلغك أستاذك بقبول ترشيحك لصفوف الحزب، وأنك ...
كما لو لم أعرفه. كما لو يكن. جاء هذه المرة. مرايا دارت بي ، والروح شفيفة كالأغاني . تساءلت، لم يتلون كقوس قزح ؟ أهو نزيف الروح، ام هاجس لها؟ أهو... أنه.. الفرح !
مرت الأيام سريعة، وفي اجتماع ضمّك وآخرين، حضر ذلك الرجل الأشيب، الذي لم يترك سجنا لم يخط اسمه على جدران زنازينه. مسح نظارته الطبية لأكثر من مرة، رفعها يفحصها عدة مرات، قبل أن ينادي بعض الأسماء، ويرفع صوته، كأنه يقرأ خطابا في حفل عام: أحمل لكم تهاني الحزب بقبولكم أعضاء في صفوفه كاملي العضوية، وأن ...
يشتبك الأصبع بالأصبع، يختلط الأخضر بالأحمر، ويميل القلب كالسنبل. وكأول قبلة بشفتي عاشق، يذوب...يذوب، بطقوس الحب، بين الأرض ولهيب الأرجل!
كان ذلك في يوم العشرين من آذار. قبل دخول السنة بيوم...في ذات الأيام، حين وزعت أمك العشب الأخضر في زوايا البيت وهي تنتظر ولادتك..والرجل الأشيب حمل البشارة لك قبل الدخول بيوم. ومسؤولة التسجيل في البلد القطبي تنتظر أوراقك. حملْت القلم وكتبْت في خانة يوم وشهر الميلاد، وبوضوح كامل، وأنت تغمز للطائر المستكين عند النافذة: 20/آذار!
غابات الدنيا تناديني ... ياهذا قد أشرق يومك .
يا كل العا ا ا ا ا ل ل ل ل ل م م م م اسمعني:
اليوم قد أشرق عمري!