ادب وفن

رواية "جثث بلا أسماء" شهادة سردية عن واقع صادم / فاضل ثامر

أحالني أستهلال رواية "جثث بلا أسماء" للروائي والقاص اسماعيل سكران الى استهلال رواية "فرانكشتاين في بغداد" للروائي احمد السعداوي وخاصة من خلال استحضار الطقوس المسيحية التي تحيط بحياة العجوز "ايليشوا" والتي تحولت الى خرافة حية.
اذ نجد "هيلين" في غرفتها وهي محاطة برموز مسيحية مماثلة:
"تحتفظ هيلين" في غرفتها، فوق منضدة صغيرة بصورة للسيدة العذراء في اطار فضي، وبجانبها وضعت أيضا، نسخة من الكتاب المقدس، الانجيل.
هذا الالتفات المتاخر - نسبيا- من قبل الروائي العراقي الى العوالم الداخلية لشريحة مهمة من مكونات المجتمع العراقي هي شريحة المسيحيين له أهمية استثنائية في هذا الظرف الذي يمر به المجتمع العراقي وتحديدا في مواجهة التحديات الارهابية التي راحت تدمر كافة الرموز الدينية للمسيحيين بما فيها من اديرة وكنائس ونصب وتفرض عليهم الهجرة الى مناف بعيدة. وقد وجدنا اهتماما متميزا في معظم روايات الروائية العراقية انعام كجة جي - المقيمة في باريس وبشكل خاص في روايتيها "طشاري" و"الحفيدة الامريكية" وفي أغلب روايات الروائي سعدي المالح ومنها "في انتظار فرج الله" و"عمكا" كما نجد تكريسا تاما لعالم الآثوريين في بغداد في رواية "سابرجيون" للروائي عامر حمزة والذي دخل، ربما لأول مرة في تجربة الفن الروائي في العراق الى داخل " غيتو " الآثوريين من خلال معايشة طقوسهم وانشغالاتهم وطبيعة علاقاتهم ببقية شرائح المجتمع العراقي.
والحقيقة ان رواية "جثث بلا اسماء" لاسماعيل سكران ليست منشغلة حصريا بتمثيل عالم المسيحيين في العراق كما كان الأمر في رواية "طشاري" أو "سابرجيون" مثلاً، لكنها أفردت لهم مساحة واسعة في رواية لا تخلو من جوهر سياسي.
فهي رواية عن حيوات انسانية عاشت في تسعينيات القرن الماضي، في ظروف الحصار الاقتصادي وممارسات النظام الدكتاتوري المقبور وتحركت زمنيا الى ما بعد الاحتلال وسقوط ذلك النظام من خلال فضاء مكاني محدد يمتد بين مدينتين هما بغداد والكوت لكنها تستقر أساسا في مستشفى الأمراض العقلية في الشماعية في بغداد، وتتخذ لها من شقة المعلم المتقاعد علي سلمان في شارع أبي نؤاس منطلقا للكثير من أحداث الرواية.
والروائي يقودنا، دون ان نكتشف ذلك في البداية الى عالم سري شديد الخصوصية الى " "القاووش الأحمر" في مستشفى الشماعية للأمراض العقلية في بغداد والذي يشرف عليه النقيب سامح والمخصص للسجناء السياسيين المغضوب عليهم بقرار سياسي من سلطات النظام يقضي بتدمير هؤلاء السجناء نفسيا وعقليا وتحويلهم الى مجانين او قتلهم من خلال التعذيب أو الافراط في تناول المخدرات والعقاقير ومن ثم القاء جثثهم المجهولة في شوارع بغداد لترهيب الناس وشل مقاومتهم وهي سياسة كان النظام القمعي قد اعتمدها رسميا لتكميم افواه الشعب العراقي وارهابهم، وهو أمر يرتبط بعنوان الرواية " جثث بلا اسماء " بوصفه عتبة نصية دالة.
وللتاريخ علينا أن نتذكر هنا، ان هذه ليست المرة الأولى التي يتوقف فيها الروائي العراقي أمام عالم المجانين ومصحاتهم العقيلة، اذ سبق للقاص والروائي خضير ميري وان كرس معظم كتاباته لاماطة اللثام عن الكثير من هذه الجوانب الانسانية الفاجعة. بوصفه أحد الذين عاشوا في تلك المصحات مريضا أو متمارضا للتخلص من ملاحقة النظام السياسي في العهد السابق.
الا أن الجديد في عالم اسماعيل سكران ينهض على مفارقة غريبة. ففي الوقت الذي يبدو فيه العالم الذي نراه متشكلا من نسيج تخييلي سردي في حدود فرضية الواقع الممكن في حركة شخصيات متخيلة تؤدي وظائف وادوارا معينة في البنية الروائية، فان معظم أحداث الرواية وشخصياتها هي حقيقية وواقعية الى درجة كبيرة، وهو ما لم يقله الروائي أو يزعمه أصلا فجعل قراءه يعيشون وهم مراقبة عالم تخييلي افتراضي وورقي الى حد كبير. فقد كنت شخصيا على علم بالكثير من وقائع وشخصيات الرواية في حينها، وعندما تساءلت من المؤلف عن درجة واقعية تلك الأحداث، أكد انها تستند الى مرويات وشهادات بعض الشخصيات التي عايشها شخصيا. فالقاووش الأحمر ليس خيالا أو افتراضا، فهو صالة حقيقية في مستشفى الأمراض العقلية وضعت تحت اشراف دائرة الامن العامة، فضلا عن ان أحد الشخصيات الاخرى ذات الصلة بالقاووش واعني بها الممرضة هيلين، احدى بطلات الرواية، وعلي السلمان، المعلم المتقاعد الذي يقيم في شقة في شارع أبي نؤاس ويجد نفسه متورطا في مهمة غير نظيفة هي نقل الجثث وتوزيها في شوارع بغداد، والنقيب سامح المسؤول المباشر عن الاشراف على القاووش والذي يقوم شخصيا بتصفية خصوم الدولة السياسيين يصورة دموية وغير انسانية، والقاء جثثهم في شوارع بغداد ،كلها شخصيات واماكن حقيقية وواقعية تتحرك من خلال عدد من الحبكات الرئيسة التي تنمو وتتداخل وتتقاطع أحيانا، منها الحبكة الخاصة بعالم علي السلمان، المعلم المتقاعد المقيم في شقة في شارع أبي نؤاس والشاهد الحقيقي على وقائع الرواية واحداثها وهو أيضا العنصر الرابط وربما القاسم المشترك بين مختلف الحبكات والشخصيات الروائية. وشخصيته تقوم على التناقض، فمن جانب هو يكره النظام الدكتاتوري وممارساته الدموية ويكن احتراما لمكونات الشعب العراقي المختلفة ومنها المكون المسيحي حيث يقدم الدعم والرعاية للكثير من الاسر المسيحية التي تطلب منه العون ومنها اسرتا هيلين ومارلين، ويتضح هذا الجانب الانساني في شخصية على السلمان في المذكرات التي كان يكتبها سراً في دفتره الخاص والذي عثرت عليه مارلين جارته المسيحية عندما كانت تقوم بتنظيف شقته فاحتفظت به وراحت تطلعنا على بعض مدوناته التي منحت الرواية بعدا ميتاسرديا واضحا من خلال ادراج اليوميات ضمن المتن الروائي الاصلي. اما الجانب الاخر السلبي في شخصية علي السلمان فيتمثل في قبوله العرض الذي تقدم به صديقه النقيب سامح المسؤول عن تصفية السياسيين في القاووش الاحمر في مساعدته في نقل جثث القتلى من ضحاياه بسيارته البيكاب وتوزيعها في الساحات العامة في بغداد لارهاب الناس وترويعهم مقابل مبالغ مادية مجزية جعلت منه "وكيلا للامن " وعلى الرغم من اهمية ومركزية شخصية علي السلمان، الا انها لم تتحول الى شخصية جذابة أو مؤثرة، كما ان الروائي فشل في اضاءة حياته الزوجية الخاصة واسرته التي كانت تقيم في مدينة الكوت انذاك وربما كان ابقاؤه اعزب اكثر اقناعا ومقبولية. اما الحبكة الثانية فتتعلق بحياة هيلين واسرتها المسيحية واضطرارها الى الزواج من النقيب سامح مسؤول القاووش الاحمر والمشرف على عملها بوصفها ممرضة في المستشفى، لكننا نكتشف ان هيلين كانت في أعماقها ترفض الخطط الاجرامية غير الانسانية للنقيب سامح ولدائرة الأمن والتي ترمي الى تدمير الصحة النفسية للمرضى تمهيدا للتخلص منهم او تصفيتهم، ولذا كان لها برنامجها الانساني المضاد المتمثل في مساعدة المرضى للتخلص من المضاعفات المحتملة الناجمة عن خطة النقيب سامح الاجرامية، حيث احتفظت بسرية مشروعها كي لا ينكشف من قبل أجهزة الامن التي كانت تراقب كل شي، ومما فعلته هيلين مساعدتها احد المرضى على الهرب من المستشفى داخل سيارتها الخاصة. وكان بامكان الروائي ان يمنح هيلين الفرصة للتعرف على نماذج انسانية اخرى من مرضى القاووش الاحمر واستبطان معاناتهم ومعرفة مصير بعض المرضى الذين وجدوا انفسهم بعد الاحتلال ضائعين ومطرودين بعد أن تمت سرقة محتويات المستشفى بما فيه من اسرة واجهزة وافرشة وملابس. وتكشف هيلين في سيرتها عن نزعة وطنية عميقة، وانتماء الى التراب العراقي، وخاصة في اصرارها على رفض الهجرة خارج العراق للالتحاق باسرتها التي وجدت نفسها مضطرة للهجرة هربا من اشكال العنف والتهديد والارهاب الذي كانت تتعرض له الكثير من الشرائح المسيحية.
ما زلت أعتقد أن الروائي قد فقد فرصة ان يجعل من هيلين بطلة متألقة ومؤثرة من خلال تسليط الضوء بدرجة أكبر على برنامجها الانساني المضاد لبرنامج النقيب سامح والمساعدة في تهريب بعض هؤلاء السجناء في عملية منظمة مما يجعل منها شخصية بطولية متميزة.
من الحبكات المهمة تلك المتعلقة بحياة ومصير النقيب سامح الذي تربى في أسرة حزبية تضع متطلبات خدمة الحزب والقائد قبل متطلبات العدالة والانسانية والانصاف. وهكذا وجد سامح ابن المسؤول البعثي الكبير نفسه يتقدم ليصبح ضابطا في جهاز أمن النظام توكل اليه مهمة خطيرة تتمثل في التحقيق مع السجناء الخطرين المعادين للنظام السياسي انذاك وتدمير عقولهم او تصفيتهم جسديا والقائهم جثثا مجهولة الاسماء في شوارع بغداد. ومع انه كان يرفض مع نفسه مواصلة هذا العمل القذر، الا انه كان يقاوم تردده بتعاطي المخدرات، حتى بدأ يفقد وعيه تدريجيا وسيطرته على تصرفاته مما ادى الى انحطاط قواه وتحوله الى مريض نفسي يتلقى العلاج في مستشفى الأمراض العقلية الذي كان يتحكم فيه في السابق وتحت اشراف زوجته هيلين، كما أن نهايته الماساوية تمثل عقابا سرديا آخر حيث اختفى بعد سقوط النظام ودخول قوات الاحتلال مع مئات المرضى العقليين الذين ضاعوا في دوامة الاحداث ولم يعرف مصيرهم، ومنهم النقيب سامح والذي انتهت حياته مع نهاية النظام الفاشي. ويمكن أن نكتشف أن شخصية النقيب سامح هي أنموذج يتماهى الى حد كبير مع شخصية أي جلاد من جلادي النظام السابق، ومنهم رئيس النظام نفسه.
ومن الحبكات المركزية المهمة الأخرى الحبكة الخاصة بحياة مارلين وعائلتها التي تقيم في العمارة ذاتها التي يقيم فيها علي السلمان. وتلعب مارلين دورا مهما في تاثيث البنية السردية في الرواية من خلال عثورها على دفتر مذكرات على السلمان في احدى زوايا شقته وقد فاجأها ما قرأته من يوميات ومرويات اجتماعية وسياسية تكشف عن معارضة واضحة للنظام السياسي انذاك. وبين رغبة ذاتية في التلصص على اسرار جارها وخوف من وقوع الدفتر في ايدي رجال الامن احتفظت مارلين بدفتر المذكرات، والاهم من هذا انها راحت تشرك القارئ في الاطلاع على صفحات خاصة من تلك المذكرات أصبحت جزءا عضويا من المتن الروائي الذي اتسم بجوهر ميتاسردي من خلال اعتماد المخطوطة بنية نصية داخلية في الرواية. ويمكن ان نلاحظ ان هذه اليوميات كانت تملأ الكثير من الفجوات التي تركها السرد وتربط الكثير من الاحداث والوقائع التي كانت تبدو معزولة وعرضية. فعلى سبيل المثال كان قد اثار مارلين منظر زيارة امراتين جميلتين لشقة جارها علي السلمان، فاكتشفت اسرار هذا اللقاء وعرفت ان الام هي "أم زينة" التي افرد لها الدفتر صفحات مطولة.
وهذا ما يضعنا أمام الحبكة الخاصة بحياة شخصية نسوية مسلمة مهمة هي "منى" أو "أم زينة" جارة علي السلمان والنقيب سامح في الصغر في مدينة الكوت، هذه المدينة التي كانت الحاضنة الأساسية التي انطلقت منها بعض شخصيات الرواية الاساسية ومنها علي السلمان والنقيب سامح وأم زينة وشقيقه الدكتور نعمان السلمان شقيق علي السلمان الذي أقام لبعض الوقت مع شقيقه في شارع ابي نؤاس بعد عودته من المهجر بعد ان اضطر الى الهرب بعد الانتفاضة الشعبية عام 1991 الى خارج العراق.
نجحت الرواية في تغطية الكثير من جوانب حياة شخصية ام زينة منذ طفولتها في مدينة الكوت وعلاقتها الحميمة مع علي السلمان ورفضها من الجانب الاخر اقامة علاقة مع سامح الذي وصفته مرة بانه " ابن المصرية " و"ابن الراقصة" مما أحدث شرخا بينهما سيدفع بسامح لاحقا لمحاولة الانتقام منها بسبب رفضها له والاستجابة الى اغراءاته، ولاحتقارها العلني له ولأسرته.
شخصية "أم زينة" شخصية جذابة وقوية وتمتلك نفوذا كبيرا على المسؤولين. ومع ان الغموض يلف حياتها وطبيعة علاقاتها مع بعض الشخصيات السياسية والأمنية، الا أنها ظلت محترمة ومتماسكة، حتى في اللحظات الحرجة عندما لفق لها النقيب سامح مكيدة اعتقلت في أثرها لأيام عدة. ومن اللافت للنظر ان الروائي قد تعامل مع شخصية "أم زينة" وعملها، وربما مع أغلب شخصياته الروائية بحياد وموضوعية، والغى كل الاسقاطات السيكولوجية، والقيمية حول أدوار بعض شخصياته، فحتى اسوأ شخصياته وأكثرها توحشا ودموية واجراما واعني به النقيب سامح ظهر بصورة محايدة الى درجة كبيرة وتركت للقارئ مهمة الحكم على سلوكه الدموي بوصفه رمزا او ممثلا للنظام البوليسي والسياسي السائد آنذاك.
ومما أضفى سمة الموضوعية والحيادية والتعددية اعتماد الروائي على منح شخصياته الروائية حرية التعبير عن رؤيتها ومواقفها وذكرياتها من خلال سلسلة من المونولوغات الداخلية المبأرة او من خلال حوارات خارجية دالة، وهو أمر يمنح الرواية خاصية بوليفونية تنهض على تعدد الاصوات والرؤى السردية بعيدا عن تدخل الروائي او ذاته الثانية.
يمكن أن نلاحظ ان معظم الحبكات الرئيسة في الرواية تتحرك من خلال الفعل الروائي وحركة شخصياتها بطريقة شبه متوازية من نقطة شروع زمنية ومكانية في احد ازقة مدينة الكوت الشعبية ومن خلال الانتقال الى بغداد، وتحديدا الى شقة في شارع أبي نؤاس مرورا بصفحات مهمة من تاريخ العراق السياسي تحت ظل النظام القمعي آنذاك وأجهزته البوليسية وصولا الى السنوات المضطربة التي أعقبت الاحتلال وسقوط النظام القمعي والتي تمثلت بالانهيار الأمني وحدوث تغيرات في بنية القيم الاجتماعية، ومنه انهيار طبقات وشرائح اجتماعية معينة، وصعود شرائح طفيلية محلها الى سلم الثروة والسلطة والقوة.
ولأن حركة الحبكات الكبرى والشخصيات الاساسية ظلت متوازية ومتعالقة غابت حبكة الصراع المركزية في الرواية ، كما غاب البطل الرئيس، واصبحت الرواية تنهض على بطولة جماعية تتقاسم أدوار البطولة فيها شخصيات الرواية كلها بنسب مختلفة، تكون فيها الغلبة للعنصر النسوي، كما تحتل الشخصيات النسوية المسيحية مساحة كبيرة في الفضاء الروائي، وخاصة في قدرتها على التعبير عن معاناتها في صراعاتها الاجتماعية والعرقية وتمزقها بين الرغبة في البقاء في العراق أو اضطرارها للهجرة الى عدد من المنافي البعيدة هربا من العنف والارهاب والموت الذي ظل يلاحقها.
ربما كانت الرواية بحاجة الى حدث مركزي كبير تتمحور حوله الحبكات الثانوية الأخرى، وربما كانت الرواية بحاجة الى شخصية روائية قوية ومؤثرة قادرة على ان تشد انتباه القراء بطريقة اقوى، لكني اعتقد ان حالة "التوازن" التي حققتها حركة الحبكات والشخصيات منحت الرواية، بوصفها الراهن، خصوصية بنيوية مقبولة، في زمن لم يعد هناك من يبحث عن بطولة اسطورية خارقة أو حدث مزلزل كبير تتصدع له طبقات الارض السفلى، لأن الرواية كما يبدو شاءت أن تكون متوافقة مع مستوى الواقع الاجتماعي آنذاك في عراق المآسي والصراعات والمفاجآت عبر ربع قرن من تاريخ العراق السياسي.
رواية اسماعيل سكران "جثث بلا أسماء" شهادة فنية وسردية مهمة عن مرحلة مهمة من واقعنا الاجتماعي تمتلك الكثير من مقومات الادراك الواعي لشروط اللعبة السردية والميتا سردية تحديداً.