ادب وفن

ضياء الخزاعي.. موهبة لا تكف عن التجدد والإبداع / جمال العتابي

أقام الفنان ضياء الخزاعي معرضه التشكيلي الرابع على قاعة برج بابل في بغداد، أواسط نيسان 2015، بحضور لافت. ويقول الخزاعي في بطاقة التعريف بمعرضه:"اللوحة لدي هي مشروع دائم لا يتوقف، إلاّ بتوقف قلبي".
يدعونا ضياء بهذا القول الى البحث عن سر العلاقة بين اللوحة والحياة، كيف لنا أن نفسر هذه الثنائية؟، اللوحة مرادفا للحياة، هل كان ضياء مدونا تاريخيا؟، أم رساما؟، كيف قدم نفسه في معرضه الأخير؟، هذه الأسئلة وغيرها نجد إجاباتها حينما ندقق ونتفحص المضامين المختلفة التي إمتزجت مرة واحدة، بمسار خطه التشكيلي، فاهتدى فيها الى سر البناء في اللوحة، وإن تعددت أساليبه وإقتباساته، وتنوعت وتواترت أعماله وكشوفاته، فكان ومايزال يمارس تواصلاته الوجدانية مع عمله الفني، كما لو كان يمارس طقسا مقدسا من طقوس الحياة.
لوحة ضياء تغمرك دائما برعشة الحركة، إنه ينهل من الزمن الحاضر والماضي، من تراقص الأشياء وعدم استقرارها، اللوحة لا تكتمل ولا تنتهي، تبعث برسائل إلى مدن الطفولة والصبا، الى السفن التي تصعد نحو الشمال، من على اكتاف الرجال المهدودة، انها تدخل لحزننا وفرحنا، لا تستقر على ظمأ، تنادي طيورا في الصحراء وتعبر الأزمان، وتورق مثل الشجر، تغمرنا كالمطر، تقول للأرض انها الثمر، وجمال الروح، وزهرها، لتكتسب اللوحة شرعيتها بالإنتماء الى الحياة، وتستمد سحرها من الحلم المتصاعد. هذه المعاني وغيرها، هي التي تدعو الخزاعي الى القول: إن لوحاتي تقترح بدائل للموت، أنا أعطي فرحا للوحة، أعمل على صنع فرح مبتكر بالذاكرة، مختزلا آلاف الحكايات بتوليف بصري عجيب.
إن أعمال ضياء الأخيرة كرنفال من الألوان البهيجة، ليس فيها غموض لكنها لا تقدم نفسها بسهولة للمتلقي، انها تدعوك الى التأمل والتفكر، تحفز حواسك، وتوقظ فيك الذاكرة، تعود بك الى اللثغة الأولى في النطق، تستعيد ترانيم الأم بموسيقاها وشعرها، فالتشكيل يقترب من الشعر في قوة التأثير غير المحدود عند المتلقي، الذي ما أن يواجه العمل الفني حتى يروح محاولا إكتشاف أبعاده الداخلية، التي تقترب من أبعاد الشكل الموسيقي، عبر حالة عدم قدرة المتلقي على إحتواء عناصر العمل الفني دفعة واحدة.
تتطلب قراءة لوحات ضياء الخزاعي، الغور في ما وراء الألوان والمنظور، ومفردات اللوحة، وإن تكررت في أعمال ومعارض سابقة، إلاّ ان عملية التفاعل بين أبعاد وعناصر العمل، الفراغ، الحركة، اللون، اللمحة، الإيقاع الخاص ،تعد العناصر الأكثر أهمية في أدوات الخزاعي التشكيلية، ويتقدم اللون كعنصر من عناصر الإفصاح عن عمق الموضوع، من بين هذه العناصر، ولعل الخزاعي هو الأقدر في التفاعل الإنساني مع الأحداث، واصبح شاهد كوارثها، وقسوتها.
إن ارادة الحياة تدفع بالخزاعي، وتسعى به إلى أن يقدم أقصى ما يستطيع من عطاء، وتأكيد اللون وإبرازه، دائم البحث عن الرفقة والصديق، كما عبّر عنه في إحدى لقاءته الصحفية، لأنه متآلف مع الحياة، وتحولت اللوحة لديه إلى مفاهيم ورسالة لبث الفكر الجمالي، يشتغل في دائرة الجمال، يعود إلى خزين الذاكرة وأيام الطفولة، لأنها وهج مشع في صدره، فيطلقها شرارات مشحونة بعذابات تتأجج في لوحات، تؤذن الوانها بالبريق مشدودا الى رموز الماضي.
ضياء، في معرضه الأخير كان حافلا بالقوة والنشاط، يثير شغفه بالفن، موهبة وطاقة تستطيع أن تحقق إضافة الى الفن العراقي المعاصر، مع مجموعة طموحة من أبناء جيله بدأوا خطاهم الباهرة.
أعمال الخزاعي لا تختزل الكلمات فحسب، انما المسافات كذلك، باللون الذي أرهف مشاعره بترددات بين وميض الأمل، ورمادية الحزن، فأهتدى فيه الى سر البناء في اللوحة، ثم حلق بها نحو الدهشة. في لوحات عديدة، نستطيع أن نلمح سر الأنوثة، والطيور الخجلى، وألفة البيوت، وحدائق تحف بها النجوم، وأناشيد وغناء ترفض الصحراء والجفاف، وفضاءات تجف فيها الغيوم، وتنكسر الأقمار، جداول تحتفل بالعشب لا بالدمار، ينابيع، سحر صبايا، واحلام تكبر، إن ضياء يحب المدن، ويحب النساء، دائم البحث عن الأشكال في صفائها ،والألوان في أعمق قدراتها التعبيرية، يعايش الكون معايشة شاعر ومفكر، فأوغل في أسرار الطبيعة الإنسانية، في خلاياها ومكوناتها.
في ضوء ما تقدم، هل يمكن القول ان معرض الخزاعي الأخير شكل إضافة لمنجزه الإبداعي، أو اضاف خطوة متقدمة في مسيرة التشكيل العراقي؟، إن الإجابة المنصفة لهذه الأسئلة تتطلب الإشارة أولا إلى ان الفنان الخزاعي أدرك منذ سنوات أن يبدع صوته الحقيقي، فأستعار كثيرا من مفردات الأساليب الفنية الراهنة، ويسعى الى رفض الجمود والتقليد، هذا الموقف الصادق من الفن, دفعه الى حرق أعماله الأولى، ولم يتوان لحظة واحدة بالإعلان عن عدم قناعته بها، ليجد ضالته في التجديد والابتكار، لأنه يجد نفسه على هذه الأرض.
إن ابرز ماميز أعمال ضياء الخزاعي ،هويته المسندة بوعيه الذاتي ،على خلفية من وعي العصر ، المعرض كان دفقة جديدة إجتازت الحواجز التقليدية .