ادب وفن

مصطفى جمال الدين نحفظ ذكراه ونعود الى ديوانه * / مفيد الجزائري

السلام عليكم وطاب نهاركم
والامتنان لعائلة الفقيد الراحل مصطفى جمال الدين وللتجمع الثقافي في سوق الشيوخ، وهما يبادران سنة بعد اخرى لاقامة هذا المهرجان.
والتحية لابناء سوق الشيوخ، مدينة النضال والعطاء، والشعر والادب، ولكم جميعا وانتم تحتشدون هنا اليوم، لإحياء ذكرى شخصية لامعة، انسان غير عادي في مختلف جوانب حياته وفعله وعطائه رجلَ دين وشاعراً ومعلماً وصاحب قضية. مثلما لم يكن عادياً في تواضعه، وإيثاره الصمت على الجعجعة، وابتعاده عن طلب الشهرة والجاه.
بعد ان درس السيد مصطفى جمال الدين الفقه والشريعة، ونال الدكتوراه في اللغة العربية، عمل استاذاً في كلية الآداب بجامعة بغداد، وفي كلية الفقه بالنجف. وكم تحدث طلابه عن شغفهم بساعات الدرس على يديه، التي كانت عندهم ساعات متعة، فضلا عن الفائدة.
كانوا ينتظرون لقاءه فيها باشتياق حقيقي، وتهيؤ كامل للانصات اليه، وهو يقف امامهم بعمامته التي لم يتخلَّ يوماً عنها، مازجاً المعارف التي ينقلها اليهم بالطرفة والشعر والخاطرة والحكاية، في اجواء من اللغة الجميلة والتعبير الطليق .. فيستهويهم حتى الجاف والوعر من تلك المعارف، ويدخل عقولهم بيسر وسلاسة.
وهكذا كان الاستاذ مصطفى جمال الدين نفسَه: سهلا (وإن ممتنعاً) سلساً، منفتحاً، مولعاً بالمعرفة، مدركاً ضرورة وضعها في متناول الاجيال الجديدة، ولزومَ تعليم الناشئة حبَّها والاقبالَ عليها. وكان هو نفسَهُ يشعر بالمتعة، حين يترجم هذا الادراكَ وسط الفتية الدارسين، الى ممارسة فيها الكثير مما يُسرّ النفس، ويغذي العقل.
كذلك كان الراحل مصطفى جمال الدين سمحاً، بعيدا عن الانطواء والتزمت، مفتوح الذراعين للآخر المختلف، انسانياً في نظرته الى المجتمع والحياة، متنوراً ومنوراً!
كان يرى في الدين رسالة محبة وسلام، وعنوانَ تحرر وانعتاق. وعبر المشهد الديني كان يبصر ابطال الصراع ضد الظلم والعسف، الواهبين ما غلا من اجل الناس وحقوقهم وحريتهم، مهتدين في ذلك بعقولهم المستنيرة، وحبهم للوطن، ووعيهم العميق ضرورة التغيير.
كان الراحل وطنياً صافياً في وطنيته، صادقاً مخلصاً.
وبهذه الصفة، الى جانب عمق شعوره الانساني، وطيب النفس، ولطف التعامل والخطاب، يتذكره كل من عرفوه في دمشق، التي عاش فيها لاجئاً من جور نظام صدام حسين، في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، الى ما بعد منتصف التسعينات.
وتبقى حية في الذاكرة دعوته المتكررة للقوى المكافحة ضد النظام الدكتاتوري، الناشطة من سورية آنذاك، الى التعاضد والعمل المشترك وتوحيد الجهود، الى الوحدة الوطنية في مواجهة طغيان الظلم والقهر.
كان حبه للوطن وتعلقه به يبلغ درجة الوله والهيام. ولا ينسى قارئو شعره البيت الذي تغزل فيه من دمشق بالعراق العزيز:
"احبك، بل أُحب خشوع نفسي
ببابك حين احلم بي اعود"
شعره الرقيق الشفيف في لغته وتعبيره، الحديث في صوره ومعانيه، والتقليدي في عموده، يظل يراود الذاكرة ولا يكف، ومن خلاله تُطلُ شخصية الشاعر مصطفى جمال الدين، واصالة الشاعرية وعذوبتُها.
كان بروح شعره وصوره ينتمي الى هذا الزمان، لكنه حسب قول احدهم كان ينتمي ايضا الى ذلك الزمان، الذي كان فيه علماء الدين، شعراء وفلاسفة وموسيقيين واصحاب مجالس، يوجهون منابر الثقافة ويقودون حركة الامة.
وليس من دون دلالة ان نجد في السيد مصطفى جمال الدين في الوقت عينه - شاعر غزل، الى جانب شاعر الوطن والوطنية.
قيل ان صحفياً سأله ذات مرة: انت رجلَ دين، كيف تكتب شعر الغزل؟
فرد عليه متسائلاً بدوره: وهل خلق الله رجل الدين بلا قلب؟ ام جعل له قلباً من حجر؟
ويتغزل بمحبوبته:
سيدتي ماذا ارى: عريشَ كًرمٍ ام مُقَلْ
ام زورقان سابحان في غدير من عَسلْ
طافا بنا، فصفق الحب وعربد الغزلْ
وجمرتان تُسرجان الليل.. والبدرُ أفل!
انه التعلق بالحبيبة عند الانسان والشاعر مصطفى جمال الدين، يمتزج مع حب الوطن، حتى يكاد الحبان يذوبان في بعضهما.
نقرأ في ديوانه الشعري المطبوع قصيدته المعنونة: "لرمادها ورماد الوطن"، فيطالعنا في اول سطورها قوله: "كان حبي لها لا يساويه قوة، ويعارضه اتجاهاً، غيرُ حب الوطن".
ثم تقع أبصارُنا مأخوذة بأبياتها، ومنها:
يا أنتِ، يا وطناً حملت ربوعهُ
في غُربتي، وجمعتُهُ بشتَاتي
عيناك منبعُ رافديه، وملتقى
فرعيكِ خضرُ مروجه النضراتِ
وطني رمادُ جنائنٍ محروقةٍ
وانا وانت هنا رمادُ حياةِ
الحضور المحترمون
بجانب هذا وذاك نتذكر نحن، في الحزب الشيوعي العراقي، الراحل الكبير مصطفى جمال الدين، صديقا صدوقا، محبا، مخلصا، وفيا..
ووفاء له، وتقديرا لإرثه الثر الجميل، شاعرا وانسانا وشخصية ثقافية وطنية مرموقة، نبقى نحفظ ذكراه العطرة، ونعود الى ديوانه وإنجازه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*القيت في افتتاح مهرجان مصطفى جمال الدين يوم 16 نيسان الجاري بمدينة سوق الشيوخ