ادب وفن

«غجرية» حسب الشيخ جعفر والتناص / داود سلمان الشويلي

يشتغل التناص كأداة مفهومية وكرواق ابستمولوجي، ان على مستوى الانتاج، وان على مستوى الفحص "كأداة معملية" ضمن آليات ليست ظاهرة للعيان، فضلاً عن أنها غير مشروطة، كما هي الآليات المتجسدة في المعامل والمختبرات،
وانما يعتمد تجسدها "استخدامها" نوعية الترابط والتداخل الحاصلين بين النصوص المتناصة "على مستوى الانتاج"، أو اعتماداً على النص نفسه، "على مستوى الفحص" من خلال قراءته، أي أن هذه الآليات التي يؤشرها الفحص من خلال النص نفسه هي نفسها التي اعتمدت عند الانتاج، وهذا يعتمد على "حصافة" القارئ، ومقدرته ودقته ووعيه والتراكم المعرفي لديه، اذ أن النص هو "شيء" ميت، لا حياة فيه، انه كالبذرة التي هي مشروع - واحتمال قائم - لأن تكون نبتة تعطي ثمارها.
ان التناص "أثناء الفحص" هو الكفيل بإحياء النص، أي يدفع النص لأن يكون "معنى" من خلال تفحصه لإظهار تناصاته مع النصوص الأخرى، وعلى هذا الأساس تكون القراءة التناصية لأي نص احدى أدوات "جماليات التلقي"، ذات البعد الثنائي "النص القارئ"، أي يكون التناص اضافة لكونه "جيولوجيا كتابات" يكون قراءة، أي يصبح فناً لـ "كشف ما يكشف في النص نفسه الذي نقرأ والعلاقة مع نص حاضر بغياب ضروري في الأول".
واذا كانت مقولة "موت المؤلف" أحد المآخذ على البنيوية عند البعض، فأنها ما زالت فاعلة في "الفحص التناصي" لكي تبقى علاقة النص بالنصوص الأخرى وثيقة، وكذلك علاقة القارئ بالنص المقروء، هي العلاقة الوحيدة في الوصول من خلالها الى "معنى النص" عند الفحص التناصي".
واعتمادا على هذا الطرح سنفحص نص الشاعر حسب الشيخ جعفر المعنون "الغجرية" لنتعرف على ماذا اعتمد هذا النص الشعري، ونهض ليكون قصيدة متكاملة وجدت صداها عند المتلقي.
القصيدة:
"يا ساهرالمطر
أيقظْ يدي الحجرا
"لعلّ في الحرفِ أعواناً على السهر"
لفّت عباءتها الخرقاءُ وابتدرتْ
"سِقْط اللوى" تستحثُّ الريح والشجرا
لم تنس خُفّاً وفنجاناً ومبدلةً
وحفنةً من قروشٍ تحت أيدينا
فقلتُ ما قال يوماً ، بعضُ إخوتنا :
أضحى التجافي اعتياضاً من تصافينا..
وقلتُ :"لا خير.. فالدنيا تمدُّ يداً
في الحالتين.. فِراخاً أو سراطينا"..
يا ساهراً حرِدا
أيقظْ فمي الغرِدا
لعلّ في الحرف تحناناً إلى الطللِ
فيرتدي الملكُ الضلّيلُ معْطِفهُ
في ملتقى السبلِ
فزّاعةً ملءَ أيدي الريحِ والشجرِ
يا ساهر الغجرِ"!
***
تدعونا قراءة القصيدة الى استذكار الكثير من الشعر العربي، ذلك لأنها استطاعت أن تتناص ابداعيا مع بعض قصائده، ليس من باب السرقة أو الانتحال، بل من باب التثاقف الابداعي المثمر الذي يولد قصيدة تمثل "من التمثيل الضوئي" ما في تلك القصائد من قوة ابداعية، لتبني عليها قوة أخرى مغايرة لها بالاتجاه ومساوية لها بالقيمة الابداعية ،كقانون نيوتن الفيزياوي.
أول ما يفاجئنا هو ايقاع القصيدة الداخلي والخارجي "بحر البسيط"، حيث تتجاوب وايقاع قصيدة المعري "يا ساهر البرق" التي يقول فيها:
"يا ساهر البرق أيقظ راقد السَّمُرِ... لعلَّ بالجزع أعواناً على السهر
وإن بخلت عن الأحياء كلهم... فاسق المواطر حيناً من بني مطرِ
ويا أسيرة حجليها أرى سفهاً... حمل الجليّ لمن أعيا عن النظر
ما سرت إلا وطيف منك يتبعني.... سرى أمامي وتأويباً على أثري".
حيث يتناص الشيخ جعفر في قصيدته مع قصيدة المعري، مع تغيير في بعض مفرداتها الشعرية، والتي سنتحدث عنها في السطور القادمة.
وكذلك مع قصيدة ابن زيدون "أضحى التنائي" التي خاطب بها ولاّدة بنت المستكفي بعد أن هجرته وتنكرت لحبّه لها، والتي عارضها الشاعر احمد شوقي في قصيدة "يا نائح الطلع"، إذ يتناص الشيخ جعفر في قصيدته فيقول:
"فقلتُ ما قال، يوماً، بعضُ إخوتنا:
أضحى التجافي اعتياضاً من تصافينا"..
الذي يؤكد قول الشاعر ابن زيدون "بعض اخوتنا" في بيت قصيدته:
"أ َضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا.. وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا".
والتي جاء التناص هنا تمطيطا لقول الشاعر الأول، والتمطيط من آليات التناص التي يستخدمها.
وتستدعي قراءة القصيدة قصيدة أخرى من الشعر الجاهلي، وهي معلقة امرؤ القيس "قفا نبكي"، حيث يتناص معها الشاعر الشيخ جعفر عندما يقول في قصيدته تلك:
"لفّت عباءتها الخرقاءُ وابتدرتْ
"سِقْط اللوى" تستحثُّ الريح والشجرا".
فيما يقول الشاعر امرؤ القيس:
"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل".
و"سقط اللوى" مكان عند امرىء القيس يستدعيه الشاعر الشيخ جعفر الى قصيدته كمكان لغجريته التي راحت تستحث الريح.
والشاعر امرؤ القيس كان يدعى في ذلك الوقت "الملك الضليل"، ويخاطبه الشاعر الشيخ جعفر بهذا الاسم، مع التأكيد على ارتدائه لمعطفه:
"فيرتدي الملكُ الضلّيلُ معْطِفهُ".
وهنا نتساءل: هل المعطف الذي يرتديه هو رمز لما كان يثقل كاهل هذا الملك بعد قتل أبيه، وقولته المشهورة:"اليوم خمر وغد أمر".
القصيدة هي مخاطبة الشاعر للحرف، للكلمة، للشعر،"لعلّ في الحرفِ أعواناً على السهر"، ان يأتي بأعوانه ليقف معه في ما هو فيه، والحرف الذي يخاطبه هو ما ستقوله الغجرية "العرافة/ قارئة الفنجان" التي تذكرنا بعرافة نزار قباني التي قالت:
"جلست والخوف بعينيها
تتأمل فنجاني المقلوب
قالت يا ولدي لا تحزن
فالحب عليك هو المكتوب
يا ولدي قد مات شهيداً
من مات فداء للمحبوب
يا ولدي".
ان هذه القصيدة تبين لنا قدرة الشاعر حسب الشيخ جعفر على تمثل تلك القصائد، ودفع المفردة لاستجلاب ذاكرتها، حيث تستأنس قصيدة الشيخ جعفر بذاكرة المفردة وما توحي به من معان كثيرة وعديدة الا انها مركزة.
هكذا يلجأ الشيخ جعفر الى هذا الاسلوب ليعطي للأشياء معنى آخر، من خلال استبدال المفردة لمعانيها السابقة في قصيدة قديمة.
فألفاظ مثل الفنجان، المواطر، الريح، تشترك بين القصيدتين، مع اختلاف في الهدف المرسوم لكل مفردة في ان تقدم المعنى المطلوب منها في القصيدة الجديدة التي كتبها الشاعر الشيخ جعفر.
إذ تبدأ قصيدة الشيخ جعفر بهذين البيتين:
"يا ساهرالمطر
أيقظْ يدي الحجرا".
ومفرداتها مأخوذة من قصيدة المعري "يا ساهر البرق" والأخذ هذا ليس سرقة أو انتحالاً، انه تناص ابداعي بين القصيدين، الغاية منه منح المفردة قدرة على حث ذاكرتها لبناء قصيدة جديدة، وفي الوقت نفسه نجد ان استعمال هذه المفردات قد جاء كتمهيد أولي لما سيأتي في القصيدة، إذ تحدث قراءة أو سماع هذين البيتين الدهشة المفاجئة للمتلقي.
واذا كان المعري قد اختار مفردات خاصة لبدء قصيدته، والذي يعد من حسن الابتداء وبراعة الاستهلال كما يقول البلاغيون، فقال في قصيدته:
"يا ساهر البرق أيقظ راقد السَّمُرِ... لعلَّ بالجزع أعواناً على السهر
وإن بخلت عن الأحياء كلهم... فاسق المواطر حيناً من بني مطرِ
ويا أسيرة حجليها أرى سفهاً.... حمل الجليّ لمن أعيا عن النظر
ما سرت إلا وطيف منك يتبعني.... سرى أمامي وتأويباً على أثري".
فالشاعر الشيخ جعفر يحسن ابتداء قصيدته في براعة استهلالها، الا انه يغير في بعض مفرداتها، لتغير العوالم التي عاشها المعري والشيخ جعفر:
"يا ساهر المطر
أيقظْ يدي الحجرا
"لعلّ في الحرفِ أعواناً على السهر".
لأن العالم الذي يعيش فيه الشاعر الشيخ جعفر مغاير للعالم الذي عاش فيه المعري، حيث أن "جزع" المعري تحول الى استنطاق "حرف" الشيخ جعفر، هذا الحرف الذي يستنجده لإرسال أعوانه لكي يقفوا مع الشاعر ليساعدوه على السهر في جو ماطر، ويده كالمشلولة، لا يتحمل ثقلها.
آمل أن تكون قراءتنا هذه عن تناصات قصيدة الشاعر حسب الشيخ جعفر مع قصائد عربية قديمة قد فتحت ذائقة المتلقي الى انثيالات توصله الى المعنى الخاص للقصيدة.