ادب وفن

امشي أبو المعيد!/ مزهر بن مدلول

لطالما حيرتني هذه الكلمة، (أبو المعيد).... ايام طويلة وهي تتردد على مسامعي من دون أن أجد لها تفسيرا.. لا ادري ما هو (المعيد) ومن هو (ابو المعيد)!، لكنّي بمرور الوقت، ومن خلال الابتسامات الماكرة، والايحاءات الخبيثة، عرفت انها نوع من انواع الشتيمة، التي تنتقص من ذهن الانسان وطريقة تفكيره والمكان الذي يعيش فيه!.
كان المعلم عندما يسألني عن اسمي، أقف وأقول من دون تردد، (مزهر مدلول معيدي)، فيضج الصف بالضحك بما في ذلك المعلم!، هذا المعلم الذي يطلب منّا احمد شوقي أن (قف للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلم ان يكون رسولا)!، يهتز كرشه من الضحك، ساخرا من احد تلامذته الصغار بسبب اسمه!، ويجعلني أتلفت من حولي، وأتساءل في سري: ترى ما الذي يضحكهم كلّ هذا الضحك وبهذه الطريقة المتعالية!؟، وهل تلفظت لا سامح اللة بكلمة بذيئة لكي يسخروا مني!؟.
كان اسمي فضيحة مدوية، دليل ادانة قاطع، حجة دامغة من دون حاجة الى بيانات او شهود، بأنني قادم من تلك الاصقاع التي طواها النسيان، من بين اولئك الذين يحيون وسط الماء والبردي والجاموس، من الذين يظنون عنهم، انهم يسكنون الكهوف والمغارات ويلبسون جلود الثيران!.. سبحان من لا ينبغي التسبيح الاّ له.. كل هذا بسبب اسمي، مع أنّ اسماءهم ليست رقيقة ولا رومانسية، فكلها (كَطان وشلاكَه وكَطافة ومحجال وعطشان) وهلم جرا!.
لم يساعدني عقلي الصغير على فهم الكثير من الاشياء في بداية انضمامي الى تلك المدرسة المتوسطة، كما انه لم يساعدني في العثور على طريق للنجاة سوى بعض ردود افعال انفعالية لا قيمة في نتائجها، فكنت احتاج الى المزيد من الوقت لكي اتدرب على اساليب الثبات والثقة بالنفس!.
وفي احد الايام، وكنت قد وصلت توا الى البيت عائدا من المدرسة، اجتمعت واهلي حول مائدة الطعام!، ومائدتنا عبارة عن خبز تنور حار و(مرق جذابي)!، و(المرق الكذاب ) هو ليس سوى طماطم انتهت صلاحيتها وتلفت مادتها الغذائية، يبيعها البقالون بالفلسات، وبعض الناس يحصلون عليها مجانا، فتأخذها (خالتي) وتطبخها على النار مع رأسين بصل وملعقة معجون وقليل من الدهن الحر، وبهذه الطريقة تصبح لدينا وجبة طعام مطبوخة!.
حول هذه المائدة، كنا نتجاذب اطراف الحديث، وبصراحة لا اتذكر عن ايّ شيء كنّا نتكلم، لكنّ الذي اتذكره، انّ اخي (رهيف) الذي كان يقابلني ويقاسمني (بادية التشريب)، نظر في وجهي ساخرا وقال: (امشي ابو المعيد)!!.
انصدمت.. (حتى انت يا بتروتس، ......)!!......... اذن فليسقط التراث والاسماء!، وعلى الرغم من انها خرجت من فمه عفوية ومن دون قصد، لكنها كانت ثقيلة، لأنها ذكرتني بالصف وسخرية زملائي، اولئك الشياطين الصغار الذين لا يتوقفون عن التهكم!، حتى عندما تعرضت الى محاولة اغتيال اخلاقية وضربني رجل غبي بحديدة على رأسي ادخلتني الى المشفى لعدة ايام، وكان راسي مربوطا كله بالشاش الطبي الابيض، لم يسأل عني احد منهم، وبدلا من ان يقولوا الحمدللة على السلامة، قالوا: (اجه ابو المعيد)!.
كانت مدرسة 30 تموز، تقع في وسط الاحياء الشعبية، التي اشتهر اهلها بأقبالهم على المشروب الوطني (الزحلاوي والمسيح) بحثاً عن (الدوخة)!، تلك التي جعلتهم يسيرون في المؤخرة، أما تلاميذها فهم من ابناء هذه المنطقة التي تزدهر فيها الاقاويل والنمائم، فكانت المشاحنات تنتقل من المدرسة الى البيوت والشوارع، وتشتد العداوات وتأخذ منعطفات خطيرة اذا كان الامر يتعلق بالجنس الاخر، فهذا من الخطوط الحمراء، فلا حب ولا غزل ولا (تصجيم) وأنّ انبل العواطف حُكم عليها ان تظل سرية ومكتومة، ولكن، وعلى الرغم من انّ جميع الناس يستنكرون ذلك ويحرموه على انفسهم، الاّ انهم يمارسونه في الخفاء (تفو عليه .. وعيني عليه)!!.
لا وجود لمن يراقب ولا من يوجه، فكان شعار الطلبة الرئيسي هو التسيب!، وكنّا نحن التلاميذ نشعر وكأننا في معتقل، مما يدفعنا الى ارتكاب الكثير من الحماقات وخاصة مع المعلمين، كما ان المعلمين يتبادلون معنا ذات الاحاسيس، فتجد المعلم ما ان يدخل الى حصة الدرس، حتى ينفش ريشه ويستعرض عضلاته، متقمصا شخصية الحاكم العربي الذي لايشق لسلطته غبار!، وعند ذاك تبدأ حرب الاستنزاف من اول الحصة حتى يرن الجرس معلنا نهايتها، فننط كالسعادين الى ساحة المدرسة لنحولها الى (ساحة وغى)!، وفي احيان كثيرة نقفز السياج لنتيه في (الدرابين).
هذه هي سنواتنا الاولى، يصفعنا المعلم والشرطي والغبار والقاذورات، كما تصفعنا الدروس المملة، التي حولت ذاكرتنا الى (سي ديات) لحفظ المعلقات وقصائد الهجاء التي لا نعرف معناها ولا جدواها، وجعلت رؤوسنا عبارة عن حاسبات الكترونية لحفظ اللوغارتم والكسور والجذور المربعة وجدول الضرب!، فهل سمعتم بأنّ احدا وقف امام صاحب دكان ليقول: اعطني من فضلك (لوغارتم او جذر مربع من السكر والشاي)!؟، وهل تغزل احدكم بحبيبته قائلا: (فوددت تقبيل السيوف لأنها.. لاحت كبارق ثغرك المتبسم)!؟، بصراحة عقّدونا وهم يتحملون النتائج!.
جاء الى مدرستنا الفنان (حسين نعمة)، دخل الى الصف يبحث عن اصوات مقبولة تشترك بأداء اغنيته (يا نجمة)، فرفع الكثير منّا اياديهم ايذانا بالمشاركة، وكنت واحدا من الذين قبلوا التحدي، اختبرنا حسين نعمة واحدا بعد اخر، وعندما جاء دوري ودخلت الى الامتحان، كنت اتوقع ان يطلب مني ان اغني (الابوذية) لداخل حسن او ناصر حكيم، لكنه قال لي: غني المقام وابدأ بـ( آمان آمان).. لم اسمع بها في حياتي!.. ضحكت وتلعثمت وتاه صوتي.. وضعت كفي على خدي استعدادا للغناء، لكني نسيت المفردة، وبدلا من ان اقول (آمان آمان) قلت (انااااام... انااااام).. فضحك حسين نعمة وقال: (امشي ابو المعيد)!.