ادب وفن

خليل شوقي.. توطئة

من طفولة لافتة في "المهدية"، الى "لاهاي" المنفى والهجرة والشيخوخة، حكاية عقود طويلة، تزحف فصولها ببطء، مع خيط دخان سيكارته، حكاية أسطورة، تسرب منها شيئا، وظل منها الكثير، تتقافز فيها صور الشخصيات والأمكنة، لكنها محض ذكريات لا غير، يحاول أن يعيدها "خليل"، أو يعقد معها صلحا، لكنه يعزف في النهاية، أو ربما هي التي تعزف عنه بمكر، فيرى "قادر بك" مجبرا أن تبقى كما هي، رفيقة له في شيخوخته، وفي منفاه، محض ذكريات لا غير.
الماضي هناك يا خليل، في بغداد، وبقايا جسدك المتعب هنا، في لاهاي، طرفا حياة زاخرة ولكن بالمقلوب، في زمن مقلوب أيضا، السوي فيه، ويا للألم، هو الألم ذاته!
المسرح والسينما والتلفزيون والشورجة والسراي والمحلات القديمة وأصحاب المهن والأشقياء والديكور والتجارة والمكياج والتصوير الفوتوغرافي والتصوير السينمائي والصحافة والحيوانات البيتية.. أجراس تسعة عقود مكتظة بالجمال، صنع نسيجها "خليل" بمهارة "حائك"، فألبسته صاغرة وشاح الابداع والخلود.
هل يفي ملفٌ واحدٌ لكل هذا!؟، لا، لكنه كلمة حزينة في سطر يتيم لدفتر "خليل"، خليل الجمال الغارب، والمشرق معا.
«ثقافة»

من يحيي مسرحاً نقش خليل شوقي على خشبته حكايات بغداد / د.فاضل خليل


في العام 2004 كتب خليل شوقي موضوعا موسوما:»المسرح العراقي الحديث.. سيرة فنية»، يقول فيه:»وأنا أقف على أبواب الخامسة والثمانين، أشيد بالدور الجهادي الكبير الذي واجهه المسرحيون - المؤسسون من ضنك مالي، وعدم توفر مسارح خاصة، فضلاً عن النظرة المتدنية من المجتمع والدوائر الحكومية ذات العلاقة».
ظل الرأي والنظرة من دون تغيير حتى غادرنا، وظلت علاقته ببغداديته وثيقة، وكان ينحت في البحث عما يعزز تلك المثل القديمة ويقول أيضا وهو يدون سيرته المختصرة:»أوثر تناول مرحلة العشرينات من القرن العشرين، حيث أدركتها في طفولتي وشاهدت بضعة أعمال استهوتني فولجت باب هذا الفن النبيل، الصعب «.
وعن تاريخه مع فرقة المسرح الفني الحديث التي ألغيت مع باقي الفرق المسرحية في عام 1963 يقول:» في عام 1964 أعيد قانون تشكيل الفرق المسرحية، واتفقت في عام 1965 مع الفنان ابراهيم جلال باعتباره أول رئيس لفرقة المسرح الحديث مع بعض الشباب من المجموعة نفسها الذين توسمت فيهم قدرات فنية متميزة فأعيد تأسيس _ فرقة المسرح الفني الحديث _ وأصبحت بعد ذلك مدرسة للتجارب والتيارات المسرحية تخرج منها مجموعة من الشباب انتثروا وروداً عطرة في الوطن وخارجه. ولما لم يكن بمقدوري اعادتها بنفس الاسم - أي باسم «فرقة المسرح الحديث» - اثرت اضافة كلمة «الفني» لتصبح «فرقة المسرح الفني الحديث». واعتزازاً مني باستخدام نفس شعار الفرقة السابق والذي صممه الفنان الكبير الراحل جواد سليم، قام الرسام صادق سميسم باضافة كلمة الفني على الشعار».
وعن أسباب تمسكه بالمسرح أو بالفن عموما يعزو ذلك الى أن حافزه وهدفه الأساس هو تعزيز ثقة الناس وتماسكهم ببعضهم في زمن يصفه خليل شوقي بأنه «حافل بالقتل والاعدامات والسجون».
هذا غيض من فيض خليل شوقي، بث فيه بعضا من أسباب الابداع الذي ميز مسيرته الطويلة والتي زادت على نحو أكثر من ستة عقود وتزيد كان فاعلا فيها بكل المجالات، المسرح، والتلفزيون، والسينما، والاذاعة. اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار كونه واحدا من طلاب الدورات الأولى في معهد الفنون الجميلة الذي تأسس فيه فرع التمثيل في عام 1940 من قبل حقي الشبلي. وحقي الشبلي _ حسب خليل شوقي _ كان له الدور الأكبر في تحويل الهواية والعفوية الى منهج علمي بعد تأسيس فرع التمثيل بمعهد الفنون الجميلة في بداية الأربعينات.
وفي استذكارنا السريع للمبدع خليل شوقي لابد لنا من المرور على أحد الصروح المهمة في حياته والذي قدم عليه أهم عروضه المسرحية، أمثال: النخلة والجيران والقربان وأضواء على حياة يومية والحلم وخيط البريسم والينبوع والانسان الطيب والسيد والعبد، وسواها.
انه مسرح بغداد، وإنها فرقة المسرح الفني الحديث، الفرقة التي كان واحدا من مؤسسيها وكانت الوحيدة التي امتلكت مسرحا خاصا بها هو «مسرح بغداد» وقدمت عليه عروضها الخاصة، وكانت كثيرة، اضافة الى عروض لفرق أخرى.
مسرح بغداد الذي حظي بشرف زيارات كبار المثقفين والسياسين من شعراء وعلماء وفنانين من أمثال: الجواهري، والبياتي، وفيروز، والرحابنة، وأسماء كبيرة وكثيرة أخرى، يكفي أن يكون «جواد سليم» من صمم شعارها وساهم مع إسماعيل الشيخلي، وفائق حسن، وكاظم حيدر في تصميم الديكورات والملابس والإضاءة لمسرحيات روادها من أمثال:إبراهيم جلال، يوسف العاني، جعفر السعدي، جاسم العبودي، سامي عبد الحميد، خليل شوقي، زينب، ناهدة الرماح، زكية خليفة، مي شوقي، آزادوهي صموئيل، روميو يوسف، مجيد العزاوي، وصولا لنا نحن أبناء الجيل الثالث للفرقة، و?يرنا مئات الأسماء بذات القيمة كان لها الأثر البالغ في تطوير حركة المسرح عراقيا وعربيا وعالميا.
مسرح خليل شوقي الذي سعى بفضل الاهداف التي حددها كتاب يوبيلها الفضي 1952 - 1977، الذي أكد على:
1 . العمل على تقديم المسرحية العراقية من أجل تطويرها. وتشجيع كتابة النص المحلي وتشجيع الطاقات الشابة في التأليف على الالتزام بالجوانب الانسانية - والاجتماعية - والسياسية.
2. العمل على تشجيع المخرجين الجدد من الاعضاء في دخول عالم الاخراج.
4. تعميق الوعي بالثقافة المسرحية وقيمها الفكرية والجمالية للأعضاء.
هذا وسواه الذي ميز العمل في فرقة المسرح الفني الحديث التي نقلت لغة المسرح نصا وأسلوبا من التقليدية الموغلة بالتبسيط، الى رحاب المسرح الملتزم ذي الأصول المعاصرة لغة والتزاما وتوازنا وأسلوب تفكير، الرافض لكل ما هو سائد ومكرور. وهو ما جعلها قريبة من الناس بأنواعهم، حاكتهم بمختلف ثقافاتهم فأصبح لها جمهورها الخاص والمعرف باسم جمهور فرقة المسرح الفني الحديث. لذلك وجدت بأني حين أستذكر خليل شوقي، لابد لي من استذكار الصرح الذي ساهم بتأسيسه «فرقة المسرح الفني الحديث» ومقرها الرسمي «مسرح بغداد».
غادرنا خليل شوقي وتعتصره الغصة من أن هذا الصرح الذي شهد مجده ومجد زملائه يعاني الاهمال حتى صار لشدة اهماله «مكبا للنفايات».

خليل شوقي.. وداعاً / علي الطرفي

- بعد أن أغلق المسرح الفني الحديث.. أبوابه، حين ساد الهرج والمرج وتحولت خشبات «بعض المسارح» الى ملاه.. رقص.. عري، غناء سمج.. نكات اباحية..
كتبت نصاً مسرحياً.. (بعنوان) «مسرح بغداد في المزاد العلني»، أفترضت فيه أن مالك المسرح عرض المسرح للبيع...!
وطبعاً.. كتبت لافتة سوداء.. كالتي يكتب عليها نعي الشهداء في زمن حرب صدام..
(مكتوب على جدار المسرح):
يعرض مسرح بغداد للمزاد العلني.. على من يريد الشراء الحضور في الزمان والمكان، الى مسرح بغداد الفني الحديث في المزاد العلني. هذا يعني..؟
خليل شوقي، يوسف العاني، قاسم محمد، سامي عبدالحميد، فاروق فياض، ناهدة الرماح... الخ!
- افترضت ان المزاد حدث..
وحضر المزايدون..
1- تجار
2- سياسيون
3- فنانون
في المشهد الاول طبعاً يرسي المزاد على التجار ويقررون تحويله.. الى بارك سيارات ومجموعة محلات..
وبدأوا.. بعملية الهدم..
- المشهد: حين يهدم عمود يخرج خليل شوقي..
- حين يفلش الجدار.. يخرج مشهد من مسرحية النخلة والجيران
حين يهدم «الستيج».. أي خشبة المسرح تصرخ ناهدة الرماح: يمه عيوني عمت.. (وهذه الحادثة حقيقية.. حدثت في احدى العروض المسرحية)
غادرنا الشوقي.. خليل..
واستغربت وأنا أحضر الحفل التأبيني والتشييع الرمزي، حيث قرأت «مرثية»
وانا اكره رثاء الشعراء والفنانون، استغربت إذْ لم اشاهد تلامذته.. وبعض النجوم الذين كانوا يتفاخرون أنهم يقدمون عملاً مسرحياً او تلفزيونياً معه..
رحل خليل شوقي.. خالداً..
وسيرحل البعض.. بصمت.

خليل شوقي.. والتلفزيون / يوسف العاني

دخلت فرقتنا "المسرح الحديث" التلفزيون بعدد من مسرحياتها التي قدمتها على المسرح، قبل أن تقدم على شاشة التلفزيون.. وحين بدأت أكتب نصوصا معدة للتلفزيون أصلا... حاولت أن أكسر بعض ضوابط العمل المسرحي وعدم الالتزام بفصول أو مشاهد طويلة بل ان ايقاع العرض لابد وأن يظل متحركا لا يترك الملل عند المشاهد الذي لم يألف المشاهدة التأملية - ان جاز لي هذا التعبير. بصراحة كنت بحاجة الى المخرج الذي يكون الفة في العمل وانسجاما في التصور وفهما لما أريد لا من المشهد المكتوب أو الحوار المنطوق وحده... بل عبر كل مكونات العمل..
وحينما بدأنا بتمثيلية متواضعة هي "ولد هلوكت".. كان خليل شوقي قد استلهمها مني وكانه يديم.. بل يعمق الفة بيننا...
فهو ليس غريبا عن مجموعتنا أولا.. بل جزء منها وان تأخر بعض الوقت بالانضمام الى الفرقة-المسرح الحديث- نحن نلتقي بالرؤى وبالمواقف ويجمعنا هدف نشر الروح الشعبية الحميمة في اعمالنا سواء كانت في المسرح أم السينما... فكيف والتلفزيون كما نفهمه وكما اشرت الى ذلك - الجمع بين هذين الفنين الكبيرين لا يختلف عنهما الا بتفاصيل تفرضها طبيعة العمل التلفزيوني نفسه... وأهمية خلق التواصل الحميم بين المشاهدين والعرض وسلاسة الطرح وقربه منهم.. وخليل شوقي القريب مني علاقة صداقة وعمل فني.. يدرك ما أريد ويعرف كيف يتناول ذلك الطرح?بصيغة لا تميل الى التعقيد بقدر ما تكون بسيطة، لكنها كما نقول.... "تضرب على الوتر الحساس".. وخليل فوق ذلك كله شخصية من صلب وأصالة الناس الذين نعرفهم ونتعامل معهم في الحياة وعبر أعمالنا المسرحية والتلفزيونية. وهكذا صار "خليل شوقي" ليس مخرجا لعمل فني يكتب للتلفزيون، بل راع له، محتضنا لكل مكوناته، أمينا على ما حملت السطور والكلمات متخذا من "الكاميرا" التي يدري كيف يتعامل معها بكفاءة "الاسطة" أولا.. وبسلاسة الطرح وكأنه يقدم مسرحية متماسكة الا من قطع هنا وانتقالة هناك.... فالعرض آنذاك وكما اشرت كان مباشرا وبتعبي? ادق "حيا" ليست هناك بعد العرض وسيلة أخرى لتركيب وبناء المشاهد أو الاحداث المطروحة فقد تمت المشاهدة... وتلك تخدم المخرج المسرحي لكنها تعيق احيانا التصوير السينمائي المفروض أن يتوفر لتركيبة الصيغة التلفزيونية.. خليل شوقي ظل يتلاعب في السياق دون ضياع ما يخدم كل مشهد بل كل لقطة احيانا وكانت العملية التلفزيونية عندنا حالة جماعية فيها روح التعاون والتفاهم المتبادل بيننا جميعا وبين "خليل" المخرج.. بل استطيع أن أسميه "المشارك" في كل مقومات العمل الذي هو دون شك "سيده".. لكن خليل ومعي بالذات كان يتعامل بحساب آخر وهو الحرص المشترك على الافضل والأعمق والأمتع... حتى ظلت مبادلة الرأي في صلب عمله الاخراجي تتكرر من باب الاستفادة من الراي الآخر.. كان خليل في المشاهد التي تؤدى بإجادة وابداع صادقاً، ولا سيما المجموعة منذ البداية كانت هي من أفضل عضوات وأعضاء الفرقة.. كانت هناك زينب وناهدة الرماح.. وكنت أنا مشاركا في كل الاعمال التي كتبتها... وكما أشرت.. ظلت العائلة العراقية هي المنطلق لفكر أرحب أن يصل حد انعكاس الطرح الى "الوطن... فالبيت هو الوطن.. وناسه هم أفراد أو أجزاء من الشعب... أقول كان "خليل" يرقص ويبتهج حين يصل الانسجام وحسن الاداء تمثيلا الى المستوى المتخيل من قبله.. فسارت تلك "التمثيليات" بمحبة مقدميها.. واعجاب المشاهدين لها، وظل الترقب لها ولمواعيد عرضها يشغلهم ويشدهم الى شاشة التلفزيون... فكانت تمثيلية "بنات هلوكت" بعد أو قبل ولد هلكوت لا أتذكر - فالحدث تجاوز زمنه الى أكثر من أربعين عاماً ثم قدمت "واحد ثنين ثلاثة" و"مو وكتها".... وكتبت "الساقية".. عن نضال شعبنا الفلسطيني.. حيث كانت الثيمة.. "مادام الماء يجري فالساقية باقية" ثم الأغنية والراية الخضراء... عن شعبنا في الجزائر... وهكذا وخليل شوقي وراء كل هذه الأعمال ?قف بجدارة الفنان الواعي والحريص والمستوعب لما يريد رغم صعوبات تقنية كان يتجاوزها ويجد لها بدائل لا تقلل من قيمتها بقدر ما كانت تحمل مضاعفة في الجهد وبحثا عن ابداع يتغلب عن كل تلك المعوقات.. وخليل اولا وقبل كل شيء ممثل كبير... ولديه من القدرات ما تجعله ملما بكل متطلبات عمله.. في المسرح كما كان... وبجزء غير قليل من العمل السينمائي ثم استيعابه وتجربته الفنية منذ ان دخل التلفزيون. ولعل من الأمانة ان أشير الى عمل كبير تألق فيه "خليل شوقي، هو "ليطة"، ترك أثرا كبيرا عند المشاهدين، وراحوا يتحدثون عنه بتصورات فيها ?ن الغنى والاكتشاف غير المنظور.. وكان لخليل شوقي المخرج الأثر الكبير والمضاف الى اجادة التمثيل الخلاب الذي تألقت فيه زينب وناهدة وازاد... وكنت أنا لولب الأحداث فأنا "الأخرس" الذي لا ينطق لكنه يقول كل شيء.. بصمت وتعبير عرف كيف يستلبه خليل مني... بلقطات ذكية معبرة.. حتى كشف عن مشاعر المرارة والألم والظلم الذي مارسته زوجة أبو علي ببلاغة فنية.. ذات يوم وأنا في طريقي الى مقر فرقتنا المسرح الحديث وبعد أن عرضت تمثيلية ليطة.. التقيت رجلا.. "بناء" سلم عليّ وشكرني على ما قدمناه في تمثيلية "ليطة".. شكرته.. ثم سألني أول الأمر ما معنى "اليطة" قلت له... "ليطة".. في اللغة "قشر الخشبة اللاصق بها".. قال: يعني كما نعرفها حين تدخل الأظفر فتكون مؤذية جدا.. ثم ضحك وقال:أستاذ نحن فهمنا التمثيلية.. قلت: كيف فهمتوها؟ قال: هذا الشاب الساكت المضطهد... هو الشعب العراقي!، تحمل ويتحمل الظلم والاضطهاد... لكنه لا يمكن الا أن يثور ذات يوم في وجه ظالمه.. وهكذا فعل الشاب الساكت وثار في وجه زوجة ابيه رمز الظلم!، وضحك ليقول باعتزاز:"نحن نقره الممحي"!، ثم شكرني مرة أخرى وهو يردد "لعنة الله على كل ليطة"!.
خليل شوقي كان بالنسبة لي المخرج التلفزيوني الأول الذي قدمت من خلاله وبنجاح وجدارة النصوص التلفزيونية التي كتبتها وحين كنت ممثلا أمام الكاميرا... عاونني كثيرا في كل ما قدمت من اجادة وابداع.

موقع "الحوار المتمدن"

في رحيل خليل شوقي وداعاً.. وداعاً أبا ميّ / حميد الخاقاني

كم تمنَيّْت على زماني هذا ألاّ يأتيَني بنَعْيِ أحد أحبتي من أهلٍ وأصـدقاء. لكنني أعرفُهُ زماناً وَغْـداً وأجْرَبَ، فها هو يجيئني حاملاً رايةَ الحِـداد سـوداءَ يركزُها في باب داري، ليقولَ لي بأنَّ صاحباً لك تُحبُّهُ، قد رحلَ عن هذه الدنيا مُغترباً، وإنَّه سيجد هدأتَه الأخيرةَ اليومَ الاثنين، في أرضٍ بعيدة عن أرض بغدادَ التي أحبَّها، وظلَّ، طوالَ العمر، سحابةً تسكُبُ روحَها عليها، وعلى بلاد الرافدين: محبةً وانتماءً وابداعاً.
في آخر لقاء لنا، في دار اغترابه في مدينة "لاهاي" الهولندية، حيث مضيتُ إليه قبل بضعة سنواتٍ يسوقني شوقي، بصحبةِ صاحبه وصاحبي، فناننا "قاسم حول"، ألحَحْتُ عليه، مرة أخرى، بحضور "مَيّ" والصديق الفنان "عبد الهادي الراوي" كذلك، أن يكتبَ سيرةَ حياته الفنية والتاريخية، قبل أن يفوته ويفوتنا معه الأوان. وحينها عرفتُ منه أنه مسكونٌ بفكرةِ أن يكتبَ عن بغداد، مدينتِه، قبل أن يكتبَ عن نفسه. أن يكتبَ عنها حين كانت مدينةً حقاً، تُمَـدِّنُ من يأتيها من الأطرافِ القريبة والبعيدة، مُزَوِّدَةً إياه بما يحتاجه كي يُصبِحَ مدينياً ومَدَنياً أيضاً. أن يكتب عن بغداد حين كان غَنَجُ التبغدُدِ وروحُهُ ما يزالان يسْريان في عروقها، قبل أن يُغرقَها طوفانُ العقل المتخلّفِ بخرافاته وأعرافه وعاداته، وحتى لغتِه، ويُشوِّهَ صورتَها التي نعرفُ، سـالِباً إيّاها روحَها وهُويَّتَها المدنيَّتَيْن.
هل قَصَـدَ "خليل شوقي" من مشروعه هذا استعادةَ صورة بغداد التي عرفها وعشِقها، وعرفناها نحن معه وعشقناها، وانتزاعَها من أحوال الخراب الذي ألحقهُ بها، وبأهلها، هذا الطوفان الأحمَق؟ وهل أسعفَتْهُ ذاكرتُهُ وقلمُه، وصحتُهُ كذلك، على تحقيق هذا المشروع؟
فُقدانُ "خليل شوقي" الموجِعُ هذا، هو بالنسبة لي، كما لأصدقاء كثيرين، فُقدانانِ موجِعانِ: شخصيٌ وعامٌّ كذلك. قبلَ أن أعرفَ أبا مَيّ شخصياً، كنتُ أتابع اشتغالَه المسرحي والسينمائي. ومنذ البدء، وحتى آخر عمل مسرحي له "السيد والعبد" مع فقيدَيْنا الآخرَيْن: منذر حلمي ممثلاً، وعوني كرومي مخرجاً ومؤلفاً، وهو ما شاهدته في مدينة "لايبزيج" الألمانية، رأيتُ أنَّ "خليل شوقي" لا يُمثّلُ أدوارَه، بل يحياها، وكأنه يأخذها من النص، ومن خشبة المسرح وينتقل بها إلى الحياة، فتعيشَ هي حياتَها به ومعه. علاقته بشخصياته، وتمَثُّلُه? إيّاها، وتجسيدُه لها، كانت تمنحها، كما أرى، أبعاداً جماليةً قد لا تتحقَّق في قراءة ممثِّلٍ آخر لها. لهذه الشخصيات طعمُها الخاصُ، وظلالُها المختلفة معه.
عرفته عن قُربٍ نهايةَ 1969، كما أذكر. كنت ألتقيه، أولَ الأمر، في مبنى الإذاعة والتلفزيون في "الصالحية". كان مخرجا ومؤلفا وممثلاً في "قسم التمثيليات" آنذاك. وكنت قد بدأتُ، حينَها، في إعداد برنامج اسبوعي للقسم الثقافي هو "شاعر وديوان"، ظلَّ بثّهُ يتواصلُ حتى أُنْهِيَ عملي هناك مطلعَ 1974، ومُنِعْتُ من دخولِ المؤسسةِ لورود "إخبارية" تقول، في وقتها، بأنني أسعى في كَسْبِ أشخاص من العاملين، وتنظيمهم شيوعياً.
وصرتُ ألتقي به، فيما بعدُ، في أماكن مختلفة أثناء عروض فرقته، فرقة المسرح الفني الحديث. في البيت عنده، أو في بيوت أخرى. أخذتنا لبعضنا هموم الفن والثقافة، ومشاغل السياسة، والحُلُمُ بعالم آخر أكثر جمالاً وحريةً وعدلاً. ومنذ تلك الأيام عرفتُ في هذا "الخليل" خِلاًّ صادقَ المودَّةِ لأصدقائه ورِفقتِه، وسميراً تحلو مُسامرتُهُ، ويغتني به سُـمّارُه: روحاً ومعرفةً، وحكاياتٍ وغناء. كما رأيتُ فيه انساناً لا يُطيق الإقامة في الضَيِّقِ من الأفكار والرؤى والتقاليد، وكلِّ ما يُقيمُ أسيجةً عاليةً بين الناس.
هل كان هذا الطبعُ فيه هو ما أخذهُ إلى الانساني الواسع من الأشياء والأفكار: إلى المسرح والسينما في الفن. وإلى البيت الوطني في السياسة، إلى الحزب الشيوعي؟
منذ أنْ أتاني رحيلُ أبي مَيٍّ وأنا ساهمٌ، كأني أتأمَّلُ في نهرٍ أسطوري قديمٍ توقَّفُ جريانُهُ، أو أقف عند بحرٍ سكنَتْ فجأةً أمواجُهُ، وأرى نخيلَ العراق يُلَطِّخُ سعفه بالطين، وينحني حزناً عليه وهو يمضي طريقه، هذه المرةَ، وحيداً، تحُفُّ به شخصياته، وتصاحبه الموسيقى التي أحَبَّ، والأغاني التي غنَّى.

من «الفيسبوك»

الراحل خليل شوقي.. راهب السينما / الفريد سمعان

يظل غياب الأحبة أمراً مرعباً يثير الأشجان ويلتقط اللوعات من شتى الجهات، ويوقظ الذكريات النائمة أو المستقرة بشكل أو بآخر، ويزداد نحيب الجوانح عندما يكون الراحل مبدعاً.. أفنى سنوات عمره بعمل استثنائي حمل في ثناياه تباشير الفرح، أو اختار باقات من الأشجان ليعبر من خلالها عما تنشده النفوس الحائرة والقلوب النابضة بحب الحياة، لا للمباهاة، بل للتعبير عما تحمله أكتاف الحزانى من آلام وما تختزنه من جراحات عميقة.
ولا يكاد يمر يوم في دوامة الأحزان التي نعيشها حتى تداهمنا فاجعة تقوض الكيان وتتلاعب بالمشاعر وتحمل بيادر من الأمس، لعلها تذكرنا بما يجب أن نختار ونتأمل المسافات البعيدة التي ترغمنا على الرضوخ للاعتبارات الشعبية..
بالأمس ودعنا راهب المسرح خليل شوقي البغدادي الكرخي، الذي حمل مشاعل النضال وتأبط حقائب الابداع.. وآثر أن يرتقي خشبة المسرح لأنه مؤمن بأن سلوك هذا الطريق والانغماس في أعماقه والخضوع لمستلزماته، ابتداء من تعلم ألف باء عطائه، ومن ثم الغوص في عوالمه والسير في فيافيه وتسلق أشجاره، أو ارتقاء المصاعب التي تحتويه وينغمر في معاركه الابداعية وعطائه الانساني، كل ذلك جعل من الراهب العظيم سمفونية رائعة تهيمن على العواطف وتحرك الشجون وتلوح للحضارة، باننا قادمون.
لقد عرفنا كيف نجند كل ما نمتلك من طاقات، كل ما يسيطر علينا من واجبات. كل ما يدعونا للإبداع لمقارعة الظلم، لرسم خطوط الحياة وبناء جنائن الانسانية، ووضع مستقبل البشرية على عتبات الحضارة، واقامة مجتمع يزهو بما يمتلكه ويقدمه.
لقد شيد هذا الراهب، مسلات للقيم الانسانية وصنع من أسرته الرائعة نموذجاً فذا بقناعة ذاتية، وعبر خطوات جريئة، مهذبة، واعية لمسيرة النضال، كان البيت المتواضع، محطة للقاءات الثقافة والنضال، ولا يدري أي زائر كيف صنع هذا المبدع الفذ مثل هذه التقاليد، كانت غرف المنزل تعج بالضيوف، ضيوف النضال، في كل غرفة اجتماع، مسؤول وعشاق الانتماء، أحاديث وآراء ووجهات نظر، في السياسة والثقافة والتربية الرفيعة، والمطبخ مفتوح للجميع يأكلون اذا جاعوا ويشربون ما يتوفر، وقد يكون بعض ما جاءوا به معهم، لأن الاجتماعات كانت تستمر ساعات طويلة قد تصل حتى منتصف الليل، وتوزع الأدوار.. وترتفع الصرخات الواعية من أجل حياة حرة كريمة للوطن وأبنائه ومستقبل أطفاله وحرية المرأة وكرامة العطاء وينعكس ذلك على خشبة المسرح..
مسرح بغداد في احضان فرقة المسرح الفني الحديث مع العمالقة ابراهيم جلال، صلاح القصب، يوسف العاني، سامي عبدالحميد، فاضل خليل، مي شوقي، زينب، ناهدة الرماح، ازادوهي، وعشرات الممثلين والممثلات اللواتي والذين غردوا للانسان وكان لأصواتهم في «اني امك يا شاكر»، و»النخلة والجيران»، وسواها من عشرات المسرحيات التي مثلت العصر الذهبي للمسرح العراقي ولاسيما بعد ان تألقت اكثر من فرقة مسرحية كانت تتنافس بشجاعة وشرف من أجل تقديم الأفضل.
لا أنسى كيف قمنا.. نحن رفاق راهب المسرح وعلى رأسنا خالد السلام عندما كلفنا الحزب الشيوعي بإجراء لقاء مع أسرة شوقي وتكريمها بكل أفرادها وتقديم هدية مناسبة. وكانت فرحة لا حدود لها رافقتها دموع الاعتزاز وكلمات الابداع وباقات التكريم وابتسامات التباهي. ودار حوار بهيج، وكان الراهب مفتوناً، بكل التواضع الرفيع الذي عرف به بطل «بغداد الأزل بين الجد والهزل» و»النسر وعيون المدينة» والأدوار الشعبية التي عرف بها وكان يتعامل معها بالتواضع والالفة والحنان الفني اذا صح التعبير.
وحقيقة أخرى لابد من الاشارة اليها حيث قام هذا الراهب، بكتابة سيناريو عن الحزب يبدأ بحصان أبيض جميل، صبور وشجاع يجري بقوة، وجرأة نادرة، في فيافي العراق ويرتطم ويقاسي، ويعاني الجراحات المتراكمة، وقسوة الطبيعة والأجواء الطبيعية ولكن لا يتوقف، يظل منطلقاً من أجل فجر جديد.
لقد خسرناك أيها الراهب الرائع ولكن يبقى اسمك متألقاً أبداً وصوتك يغرد في أسماعنا وعطاؤك يملأ قلوبنا بالاعتزاز ونظل، نظل نتباهي بك، لأنك تاريخ المسرح العراقي الذي يعاني في هذه الأيام من الاضطهاد واعتقال دوره الابداعي «وينعم» بمحاربة أدعياء الوطنية وتصوراتهم العقيمة وأفكارهم السوداء.